الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

ضحكة القدر

Share

كان لا بد له من العمل : مهما كان نوعه وباسرع ما يكون اذ هو فى حاجة ماسة الى بعض دريهمات يفرش بها اسرة بطنه الجافة . كان لا يملك حتى قوت يومه فأبوه قد قتل اثناء الحرب العالمية الاولى لما حمله الفرنسيون مع جملة من حملوا من الجنود والضباط . وأمه امرأة بسيطة ، شريفة على صغر سنها ووفرة جمالها ، قد أمدها الله بحسن لم يكسبه غيرها عدا ابنها مجدى : وكانت فقيرة لذلك خلت رسائلها اليه الا من الادعية والبركات .

كان مجدى ممتلئ الصدر ، عريض المنكبين ، يكاد وجهه ينفجر دما وشبابا ، وفتنه لعذارى حبه اللواتى ما انفككن يتوددن اليه ويبعثن له برسائل الحب والغرام ، وهو يرفض لانه لا يحب البنات ولا يفكر مطلقا فى الزواج اذ أن باب مستقبله مازال مفتوحا على مصراعيه .

خرج مجدى يطوف المقاهى والمراقص الليلية باحثا عن عمل يتناسب مع اوقات راحته ، حتى اوصله المسير الى ملهى الزهور وهو الملهى الليلى المخصص للباشوات والاشراف فى ذلك والحين ، وما ان عرض على صاحبه العمل عنده حتى استبشر بذلك لما رأى على وجهه من صفات الاغراء وفى عينيه من بريق الذكاء .

تعود مجدى النهوض باكرا حيث يذهب الى مطعم الجامعة لاحضار الفطور , كذلك كان عمله بعد الانصات الى المحاضرات الصباحية حيث بغسل الصحون واوانى الطبخ ، وكان هذا العمل لا يدر عليه سوى نصف فرنك .

ويأتى الليل بظلامه الحالك . . وسكونه المستميت ، فاذا الطيور قد رجعت لاوكارها واذا الخيل والدواب قد دخلت اصطبلاتها ، واذا كل انسان قد سكن الى نفسه ودخل منزله ، غيران مجدى كان فى مثل هذا الوقت فى طريقه نحو الملهى للاشتغال هناك . ولبس منديله الابيض وشرع يسقى المتسامرين حسب مطالبهم متقبلا على مضض كل بلاداتهم واستهتارهم .

وكانت على الركح فتاة تشتغل كراقصة ، هى على كبر شفتيها ، رشيقة القوام ، ممتلئة انوثة وجمالا .

فكانت كل انظار الحاضرين مركزة عليها ، متطلعة بشوق الى حركاتها الرشيقة . . . وسمع مجدى صوت الراقصة تناديه : (( قرسون )) سلم الباشا الجالس هناك ، السجارة هذه ، وقل له انها هدية اخرى منى اليك . . فأخذها مسرعا وبلغها للباشا الذى شكرها بحركة من يده وفهم قصدها .

ويستمر شغله حتى تحل الساعة الثانية بعد منتصف الليل : حيث يعود الى بيته المظلم على الحان السكارى واغانيهم ، فيرتمى على الفراش ليتنفس الصعداء . . وليستعرض ذكرياته . ويعيش على ضوء قنديله بعض الوقت مع صورة امه ، وليمتع عينيه بذلك الجمال الذى لم يجده فى بنات حيه .

واستمرت حياته التعيسة على هذا المنوال ، من العمل الفكرى الى الجسمى فأثر ذلك فى صحته وبدا الشحوب على عينيه المتطلعتين الى المستقبل بعزة وابتسام ، ولم يكن ذلك الضعف ليفت فى عزمه ، فواصل طريقه باجتهاد ويقظة

وفى هذه السنين حل الاستعمار بالبلاد فحجر التجول بالليل وبذلك اغلقت الملاهى ابوابها فاذا مجدى فى صف البطالين بعد ان اغلقت الجامعة

وحل الواجب . . . واجب الدفاع عن حدود الوطن وحرمة الامة ، فاعلن التجنيد . . وبدأت المقاومة فى الجبال . وتمنى مجدى لو كان بين الجنود لو لا أنه يصغرهم بستة اشهر .

وتمر هاته المدة وكان مجدى مقيما فيها مع أمه التى بقيت تدخر من مرتبها التقاعدى ما عساه يسد لها تكاليف السفر حتى اذا تجمع لها المال الكافى - بعد اربع سنوات - طارت الى ابنها بلهفة وشوق وبقيت معه لا عائل لهما الا ما تدره عليهما الحكومة من مال قليل كتعويض عن رئيس العائلة .

ونودى على مجدى للجندية فطار فرحا لانه مل حياة النساء بين الجدران . واخوانه يريقون دماءهم دفاعا عنه وعن وطنه ، الا ان الطبيب المكلف رفضه لمرض خطير فى عينيه ، نتيجة شدة السهر وسوء التغذية فرجع الى امه مستسلما للواقع الاليم .

وتوالت الاشهر . . . كان لا بد أثناءها ان يستجيب لالحاح أمه وان يبنى عش الزوجية . . وبعث لخطبة فتاة كانت قد نالت اعجابه بقوامها الرشيق وجسمها الذى بدا له تحت أسترته جميلا ، رائعا ، رغم ان وجهها كسائر النساء آنذاك قد اسدل عليه اللحاف الاسود .

وفرحت أمه لهذا الحدث اذ كانت تعتقد انه فاقد للرجولة ! . .

. . وفى يوم الزفاف دخل العروس بين همس الفتيات وزغردة النساء ، يقوده الامل الى حياة سعيدة ، ورفع الحجاب عن وجه عروسه فانذهل لما رأى ذلك الوجه الذى لا ينسى ، وتبادرت الى أذنه كلماته وهى تناديه : (( قرسون )) سلم الباشا الجالس هناك السجارة هذه وقل له انها هدية اخرى منى اليك . وضحك . . . ضحك ضحكة بائسة كضحكة القدر . وروعت العروس فاغمى عليها .

اشترك في نشرتنا البريدية