لا تستقيم امور الناس ، ولا تنتظم شؤون الشعوب والدول ، قديما وحديثا الا بهما . . فهما اذن ضروريان للحياة كضرورة الماء والهواء . . وهما متلازمان يكمل بعضهما بعضا ، كتلازم الروح والجسد ، وهما اللذان ويكونان مجد الامم ، كما يكون الروح والجسد معا الانسان .
وقد يبدو لسطحيى النظرات أن وجود احدهما قد يغنى عن الآخر ، او انهما غير مرتبطين ارتباط التلازم للأمم التى تريد ان تشق لنفسها طريقا لاحبا معبدأ الى ذرى النهوض الشم الشامخة . . والواقع والحقيقة يجهران بعكس ذلك ، ويقرران انهما معا وان بدوا شبه منفصلين عن بعضهما . فانهما لفى اشد انواع الاتصال والارتباط استحكاما وانتظاما . . فكل نقص أو خلل يعرو أحدهما فانما يعرو هذا النقص وهذا بالخلل ميزان الامة نفسها . فان شعرت بذلك وتلافت النقص وازالت الخلل ، وقومت امر أحدهما الناقص ، وعنيت بتدعيمه وتقويته حتى يضاهي زميله الاخر قوة وشموخا وعمقا وذيوعا ، وفتوة ونشاطا ، فانها حينئذ تشعر بالحياة الدافقة فى شرايينها وفى مرافقها وبالحيوية المتوثبة تسرى فى كيان ابنائها مادة ومعنى
أما هذا الصنوان المتعانقان ، أو هذان الطائران الميمونان اللذان يطيران بالامم ويحلقان بالافكار والهمم ، فهما : " العلم والزراعة " . .
وما اشبه " الزراعة " بالنسبة للحياة ؛ وبالنسبة " للعلم " فى الامم . بالمصباح والقالب والعتاد ، وما اشبه " العلم " بالنسبة اليها ، بتيار النور الذى يغمر المصباح والقالب والعتاد ، فيذره مضيئا لامعا ، يضيئ ما حوله ، ويبعث النشأة والأشراق والدفء والحيوية فيما حوله
و " مصباح " بدون تيار أو نور ، عبارة عن " زجاجة " لا تنير ولا تثير مكامن الحياة ، ولا تكشف عن مخبآت الكون ، وقد تستعمل فى اشياء وتنفع لامور ، ما عدا الانارة والدفء والتنشيط .
و " تيار " كهربائى من النور بدون مصباح ، قوة كامنة ، ولكنها ضائعة من ناحية بعث الاشراق ، وتكوين وارسال الاضواء الوهاجة الى ما حوله من قريب ومن بعيد . . فلا بد اذن للأمة من كلا " العلم والزراعة " لتسير فى طريق المجد عن طاقة مادية كافية ، وعن طاقة غذائية كافية ، وعن طاقة روحية وطاقة نورية وافية ، كما لا بد للاضاءة الوهاجة من " مصباح " ومن " تيار " معا . . وهذا هو التلازم الدقيق الحفى بين " العلم والزراعة " بالنسبة للأمم الناهضة .
والزراعة أم لكثير من الصناعات ، وسبب عميق لنشوء الصناعات المتفاوتة فى الشعوب ، خاصة إذا رفدتها مواكب العلم الصالحة المصلحة بمعداتها وتوجيهاتها الراشدة .
والعلم وحده شىء ثمين ، ولكنه كالجوهر لا يقوم الا بعرض ، والعرض هنا هو ما يقيم أود المعيشة ، ويقوم بمطالب الحياة المادية من غذاء وكساء فاذا كانت لدى أمة من الامم أراض مخصبة واسعة ، ومزارع تحوى كفايتها من الحبوب الغذائية ، ومن الفواكه ، والاخشاب الصناعية . . وحقول تنتج اقطانا وكتانا ، وغيرها ، ولديها مع ذلك علم وفير، ومعرفة غزيرة . فإنها لابد واجدة الكفاية الذاتية ، ومتسنمة مراقى المجد من اقرب طريق ، واوجز اسلوب ، ولن يضيرها مضار ، فى سلم ولا فى حرب ، ولا يستطيع الضغط عليها عدو ولا صديق ، وتستطيع هى ، الضغط على العدو ، والنفع للصديق . . بما لديها من طعام وفير ، وكساء كثير ، وهما مادة الحياة المادية ، وبما لديها من علم غزير ومعرفة فياضة ، وهما مقوما الحياة الاستقلالية والنفسية والاقتصادية والعمرانية والاجتماعية . وأمريكا اليوم أقوى شاهد على ما نقول .
سقنا هذه المقدمة المسهبة ، لندلل على مكانة العلم والزراعة ناهضين ومنهضين معا بالنسبة للأمم المتوثبة الطامحة . . وسقناها بمناسبة تأسيس " اول وزارة للعلم " فى البلاد وتأسيس " أول وزارة للزارعة " فيها . . و بمناسبة إسناد هذين المنصبين اللامعين الى صاحبي السمو الملكى الشابين الطامحين الامير : " فهد " بن عبد العزيز ، وزير المعارف ؛ وصنوه الامير " سلطان " بن عبد العزيز وزير الزراعة . . وبمناسبة اغتباط البلاد بهذا الاختيار الموفق من قبل جلالة الجالس على عرش البلاد الملك " سعود " المعظم ، لشبلى والده المبرور بأني مجد الجزيرة ، فى اهم المناصب الحيوية التى تشعر البلاد عن حق بحاجتها الى نهضتها ، لان نهضتها هي نهضتها
وسقنا هذه المقدمة لنجلو من كثب السر الكامن وراء هذه الحفاوات المتتابعة التى اقيمت وتقام لسموهما فى كل مكان ، من الامراء والوزراء ورجال الشعب البارزين وهيئاتها ومدارسها وطوائفها وافرادها .
وتسجيلا للتاريخ ، وتدوينا لمآثر هذه الحقبة الوضاءة من تاريخ بلادنا الحديث قد ازمع " المنهل " وهو ربيب النهضة السعودية منذ ثمانية عشر عاما . ان يساهم بما فى وسعه وبما هو فى دائرة اختصاصه ، فى هذا السبيل الميمون . . ولذلك اصدرنا هذا الجزء خاصا بشؤون المعارف والزراعة عندنا ، وفيه احصائيات عنهما ، ومعلومات قيمة قد لا تجدها فى غيره ، يضاف الى ذلك اجمل كلمات الترحيب ، واروع قصائد الحفاوة والتكريم التى نظمت او القيت بمناسبة الحفاوة " بتولي الاميرين " منصب " الوزراتين "
ولا ريب أن من يمن طالع المنهل ومن حسن الأحدوثة له ان يتفضل سموهما بكلمة قيمة ، وبحديث فياض ، خاصين بالمنهل ، عن شؤون وزارتيهما . وعن مشروعاتهما ، وعن اهدافهما ، وعن احساساتهما النبيلة ، فيما هما بسبيل النهوض به
من أعباء الشؤون ذوات العلاقة بمهمتهما الجليلة . ويلي ذلك كلمة عن العلم والتعليم جادت بها قريحة فضيلة العلامة التقدمي الكبير الشيخ محمد بن مانع مدير المعارف العام ، وهي خاصة بهذا الجزء ، وكتبت بهذه المناسبة الحفية . ثم بقية الموضوعات من مقالات وقصائد وكلمات
ومن يمن الطالع كذلك ، بالنسبة لهذا الجزء الخاص ، وللقراء ، ان تصل الى ادارة المنهل فى الوقت نفسه درتان يتيمتان ، تتحدث اولاهما عن امجاد الجالس على العرش جلالة الملك ) سعود ( ايده الله ، وهي بقلم شاعر العرب الكبير الوزير السعودي المفوض فى مملكة الافغان الشيخ فؤاد الخطيب . . وتتحدث الثانية عن ذكريات المجد الخفاقة لمؤسس الدولة السعودية وباني مجد الجزيرة العربية الملك الراحل عبد العزيز آل سعود رحمه الله ، وطيب ثراه . وهى لسعادة الوزير المفوض الاستاذ خير الدين الزركلى
وقد رصعنا اذن بالدرتين الفريدتين هذا العدد ، لان ما يتحدث فيه " اساسا " هو " فرع " من " اصل " . . وهاتان القصيدتان الفريدتان تتحدثان اساسا عن ذلك الاصل ، وهكذا امتزجت فى العدد أمجاد الاصل الشامخة ، بثمارا لفرعين الناضرين
