نبــــل الخلفاء
كان الخليفة المتوكل جالسا يوما في قصره المعروف بالمختار ، فمر خادم اسود ، لفتيحة ، يريد الدخول الى دار النساء ، فسقط منه كتاب مختوم فأمر المتوكل من جاءه وفتحه فاذا فيه :
أكثر المحو في الكتاب ومحيــــ
ـــه بريـــق اللسان لا بالبنان
ومرى الختام فوق ثنايـــا
ك العذاب المفلحات الحسان
اننى كلما مـــررت بحرف
فيه محو لطعتــــه بلسانـــى
فأراها تقبيــــلة من بعيـــد
أهديت لى وما برحت مكانى
فقال المتوكل للفتح : يا فتح : ما ترى ؟ لقد اجترا علي من كتب هذا الشعر .. علي بالخادم ! فأتي به ، وقد شعر الخادم بأن الكتاب سقط منه . فطار عقله خوفا ورعبا .. فقال له المتوكل : من دفع هذا الكتاب اليك وانت آمن ؟ فان صدقت نجوت ، والا ضربت عنقك . قال : يا مولاى ان لمولاتى فتيحة ،
وكيلا يتصرف في أمرها من ابناء البرامكة ، وهو يحب جاريتها (( نسيم )) الكاتبة ، وانا اسعى بينهمــــــا بالكتب التى يتكاتبان بها .. فقال له المتوكل : امض بلا خوف عليك . ثم قام المتوكل فدخل عــــلى فتيحة وقال لها : خذى في امر جاريتك نسيم الكاتبة فانى قد زوجتها من فلان وكيلك ، وانقدت عنه عشرة آلاف درهم . وأمر باحضار الوكيل فقال له : هل لك في نسيم ؟ فذهب عقله وطار قلبه وخاف خوفــا شديدا . فقال لو المتوكل : تكلم وانت آمن ، فقد
زوجتك بها ومهرتها عشرة آلاف درهم ، وأمرت لك بعشرة آلاف تولم بها . وسأل فتيحة تعجيل زفافها اليه ، ففعلت .
هكذا تزول النعم !
قال القاضى المعروف بابن الأكفانى : سمعت أبى يقول :
حججت في بعض السنين ، وحج في تلك . السنة أبو القاسم البغوى وأبو بكر الأدمى القارىء فلما صرنا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنى أبو القاسم البغوى فقال لى : يا أبا بكر ها هنا رجل ضرير قد جمع حلقة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعد يقص ويروى الكذب من الاحاديــــث الموضوعة والاخبار المفتعلة ، فان رأيت أن تمضى بنا اليه لننكر عليه ذلك ونمنعه منه .
فقلت له : يا أبا القاسم ان كلامنا لا يؤثر مع هذا الجمع الكثير والخلق العظيم ، ولسنا ببغداد فيعرف لنا موضعنا وننزل منازلنا ، ولكن ههنا أمر آخر وهو الصواب ، وأقبلت على أبى بكر الأدمى فقلت : استعد واقرأ
فما هو الا أن ابتدأ بالقراءة حتى انفلـــت الحلقة وانفصل الناس جميعا وأحاطوا بنا يسمعون قراءة أبى بكر ، وتركوا الضرير وحـــده . فسمعته يقول لقائده : خذ بيدى ، فكهذا تزول النعم
( تاريخ بغداد ٢ - ١٤٧ )
