الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

طيور دون ريش

Share

أخذت رجلاك تخطوان فى اتجاه المقهى . الشارع مقفر إلا من سماط السيارات الساكنة بجانب الرصيف الأيمن ، وبعض الحمالين ، قاصدين السوق يعدون حفاة فوق الاسفلت الملتهب بحرارة ظهيرة اليوم

تحت ظل إحدى العمارات انتصب رجل مغضن الوجه ، معمم الرأس ، وقف حذو عربته القديمة الملآى بالغلال يطلق نغما جميل اللحن ، بسيط المعنى سوقى اللفظ . . . . ومن إحدى شرفات العمارة التى تواجهك انحنى رجل الى أسفل ، كان عاريا إلا من سراويل قصيرة . ومن شرفة أخرى من نفس العمارة ظهرت خصلات شعر سوداء تهتز حينا بعد حين إثر هبات الهواء الخفيفة . ولما اقتربت قليلا وما زال بصرك مثبتا فى الشرفة رأيت امرأة مستلقية على كرسى طويل بيدها كتاب مفتوح

تماديت فى السير تجر رجليك البطيئتين وسط حذاء عارق فوق رصيف بشتعل . اقتحمت حبات العرق أهدابك وانهالت عليك ، فأخذت أحفانك تتحد لتعصر ما بداخلها ، ووجدت صعوبة فى النظر خاصة بعدما انسدت عيناك بدوائر عرقية ، صغيرة ، شفافة ، برز لك العالم من خلفها يحترق كما تحترق أنت الآن تحت لظى الشمس . . . . ولما لم تعد تتحمل لهيب الشوارع أكثر ، أخذت تستحث خطاك ، فسارعت في المشي ، ثم هرولت الى أن اندفعت وسط المقهى المعتاد . وهناك رميت بلحمك على كرسي مهترئ أمام مائدة تيبست عليها بعض السوائل المعسلة ، فللذباب طيران حولها وطنين . وكان للعرق على جلدك الأسمر مسايل ، ففككت أزرار قميصك ؛ وهدأت . . كنت نعرف أن الحرارة لن تخف عنك إلا بعد هدأة .

مصارين بطنك تقرقر ، تضج ، تصيح ، وانت ماكث بمكانك لا تبدى حراكا . جاءك النادل . وقف أمامك . انفتح فمك ، ونطق لسانك :

- " مقرونة " . وقرع بركان ضحك النادل مسامع الجالسين قربك . . لم يحمر وجهك ، ولم يظهر عليك خجل أو شئ من هذا ، بل قلت له بلهجة جادة

- معتوه ، . . يوسفني أن أجدك معتوها ، سريع الحركة . تريث . ماذا فهمت منى حتى ٠٠

وقاطعك

- هذا لا يستدعي مجهودا كبيرا حتى أفهم . . نحن لا نبيع " المقرونة " يا أخي

وتابعت أنت بالقائك الجاد : - أردت أن أمرح . . لكن مع من ؟ أأمزح مع من يتمزح به . . مد لى " قهوة حليب

وكأنه اقتنع بما قلته له لما لاحظه على صوتك من صرامة ، فمضى . .

بقيت أنت تهوم في الفراغ تحصى الكراسي والمناضد ، ثم الكراسي المشغولة والمقاعد الشاغرة . . وزقزق عصفور . لا ، لا تخف ، لم يكن عصفور بطنك . . عصفور أضاع سبيله فدخل المقهى . أرسلت نظرك تلاحقه بتطلع طفولي . . واهتدى الطائر الى منفذ فانفلت الى الخارج ، وهناك ضاع فى الفضاء بين أسراب الطيور الكثيرة ، المتكاثرة ، وضاع بصرك هناك . . وجعلت نبحث عن بصرك الضائع خلف الطائر وتفتش عن الطائر بين الطيور فى سماء أقسمت ألا تعرف الصفاء .

ورجعت الحركة اللولبية ببطنك ، ومصارينك تزفر . . جاءك الغلام ووضع قهوة حلب " وكأس ماء ، وانصرف . البخار يخرج من القهوة فى اتجاه نصاعدى معوج . ابتسمت . ) رومة تحترق والدخان يتصاعد ، بينما تنفرج أسارير نيرون" ) . مددت يدك نحو رومة ، طوقت بها الكأس ، فاذا هي سخنة . حسنا ، لا بأس . ستصبها على رؤوس المصارين الثائرة المجعجعة هذه المصارين لمرتعد تأيه للكلمة ولا للتهدئة . . " لقد طمأنتها كثيرا ، ووعدتها مرارا بأنك ستشبعها يوما ، لكن الايام توالت وهى لم تنل شيئا . هى تريد أن تتطعم الاكل بالفعل . لكن ، مهلا ؛ . . أتراها جائعة أكثر منك ، أنت أيضا جوعان ، تعيش على دريهمات يبعثها اليك الساهر عليك تسددها فى مشاريع

عظيمة تتنافى ومركزك البسيط فى الوظيفة الاجتماعية ، . وبعد يومين أو ثلاثة من تسلم المبلغ ، تكون مفلسفا لا تكسب مليما واحدا ، وتبيت طاويا فتضطر الى الاقتراض من زيد وعمرو . الى أن تصلك - مثل اليوم - منحة أخرى من الساهر عليك

وحتى لا تفضحك اليوم هذه الصيحات الباطنية أمام الناس ، فانك عزمت على إسكاتها وتوحيد صفوفها الحلزونية .

وكببت " القهوة حليب " فى فيك فانحدرت مع حلقك ملآى بالحرارة والمرارة والأبخرة ، ودارت دورة فى الصفوف ، فاذا الحركة الداخلية تهدأ ويعم الصمت ، ويتوحد شتات صفوفك

ولكنك خشيت أن تزيد هذه الحرارة بعد حين فى نشاط العناصر الباطنية ، فألفيت الماء بجانبك ، فدلفت به فى داخلك ، فاذا هو بارد مثلج . . سيجمد كل حي

شئ جميل . جرعتان كافيتان لاسكات أى نشاز ومر بك صبي بيده قرعة أثبت فيها أعواد الياسمين ، وهو يهتف : - ياسمين ، ياسمين بلدى ، يا سمين ، مشموم واحد بخمسين مليما

وأخذت تلاحظه وهو ينحنى بياسمينه أمام الجالسين الذين يفتحون أنوفهم لتقبل الروائح ، الى أن غادر المقهى ولم يشتر منه أحد ، قلت أنت فيما بينك وبين نفسك : " لمن يبيع الياسمين هذا الطفل ؟ " .

وتراءت لك صورتك يوم كنت أنت وصديق لك فى حديقة خاصة ، وكانت تطفح بالورود ، وحدثك صاحبك آنذاك عن النحل الذى يمتص رحيق الأزهار كى يخرجه عسلا ، لكن ، الويل لمن يتعجل تطعم الشهد من معينه فيمتص مؤخرة النحلة . يجب أن تنتظر رحمة النحل ، فنأتى لنلعق ما يخلفه من تلقاء نفسه .

وتساءلت بغرابة عن مدى اللذة التى تحصل لمن تراوده نفسه فى امتصاص مؤخرة نحلة ، هل هى مساوية للذة التى تجدها النحلة عندما تمتص لب الأنوار ؟ ٠٠

ماذا يفعل النحل ؟ ماذا تفعل يا نحل ؟ ٠٠ .

ترحق رحيقا وتحرق حريقا . . . .

- هو يرحق ويحرق . أنا أحرق . كلكم يرحق ويحرق ، يحزق ، يجرف ، يحفر ، هي تحفر ، مصارينى تحفر جلدة بطني ، تنبشها . " كفى عني أيتها المصارين " . . .

الطبور تجول فى الفضاء الرحب الكئيب ، وأنت فاتح عينيك ، فاغر فاك أمام هذه الجحافل الطائرة

الطيور تحوم في الساحة أمامك المساء حط على المدينة الأنوار أضيئت

والطيور تحلق فى مساحة واحدة ، تذرع الفضاء جيئة وذهابا ، تمزق جو الساحة يخطوط فضائية ترسمها دونما عناية ، دونما اجتهاد . . باعثه أمامها زقزقات ضعيفة ، شاحبة ، من مناقير صفراء شاحبة . . المناقير فاترة مفتوحة . . . كل الطيور تسعى في الفضاء ، تقتنص قوتها ، تبحث عن ريشات صغيرة ، تمهد بها أعشاش صغارها ، وتقى بها ناعم لحيماتهم

كل الحبور متداخلة ، اتجاهاتها متعددة ، يدور بعضها حول البعض ، لا نسمع منها الا : " زف " زف " زف " - زقزقات ضعيفة شاحبة - .

" زف " زف " زف " زف " زف " زف "

كل الطيور تعود هائمة فى فضاء فاض وفراغ فارغ ، أجوف ، لا شئ فى مناقيرها ، لا برا ، لا تبنا ، ولا ريشا . البيض يتفق كل يوم ، كل ساعة ، كل دقيقة ، وليس هناك ما يحمى لحوم الأفراخ . . وليس هناك ما يأوى هذه الأفراخ . . الأفراخ عاجزة . . رخوة الهيكل ، غضة الأصابع لا شئ للأفراخ سوى المناقير الصلدة ، البابسة ، الصفراء الفاقعة . . ليس للآفراخ سوى زقزقات الاحتجاج تخرج معولة . المناقير ، تتسع ، تتمزق أطرافها شيئا فشئا ، العويل يدربها على التفتح كأنها تتثاءب بعد طول جهاد وسعى والمصارين تعود الى التصويت

الزقزقات الضعيفة بدأت تفزع المارة . الناس يحتشدون لرؤيتها . الطيور تصيح ، تعوى

قال بعضهم : ملك الطيور مات . .

عقب آخر : بسكتة قلبية قال آخر : لا بل بجرح عميق في القلب قال رابع : كلا بل ران على قلبه هم شديد انفجر خامس : المهم انه مات ، وأن تجمع الطيور هو من أجل موت ملكها لكن شحاذا صغيرا صرخ قائلا : إنها متجمعة هنا لأن هذا المكان هو الوحيد الذى ظل فى مأمن من ريح العدوى العاتية

سأله شيخ وقور وهو من الرعب يرتعش : أى عدوى ؟ وأصاخ الجماعة يسمعون ما يقوله الشحاذ بتلهف دون أن يلتفتوا اليه .

قال الشحاذ الصغير : كل جوانب المدينة تسربت فيها العدوى ، ما عدا هذا المكان لم تلجه العدوى ، والعدوى أصابت كل حوانب المدينة ما عدا هذا لم تصبه العدوى . .

وطال انتظار القوم الذين لا ينظرون الى الشحاذ الصغير ، ينتظرون مثلك ما سيقوله الشحاذ الصغير عن هذه العدوى

نظرت مليا فى الطيور ، ليس فيها ما تريد . قديما عودتك أمك أو العادة فى الوسط الذى شببت فيه ، بأنه لو شاهدت يوما ما " بو بشيرا " واحدا فقد ضمنت هنااء نصف يوم ؛ أما إذا اعترضك اثنان فيومك بركة تحسد عليها . لكن ، هنا فى الساحة لا وجود لأى طائر مبقع بالبياض في ذيله ذلك الصنف الذى يسمى عندكم " بو بشيرا " . كل ما هنالك طيور سوداء ورمادية .

قال الشيخ الوقور الخارج عن وقاره : نعم ، كل جوانب المدينة أصابتها العدوى ما عدا هذا المكان . لكن ما هذه العدوى التى تعرفها أنت والطيور فقط ؟ ألا تريد أن نعرف نحن أيضا ما هذه العدوى ؟

- أقول لك . . لكن . . انظروا الطيور ، إنها تئن ، لأنها تشتم رائحة العدوى . . مسكينة هى . ليس لها فضاء آخر غير هذا ، كل جوانب المدينة أصابتها العدوى ما عدا هذا المكان ، ولو حاولت الفرار فانها ستصاب من هنا أو هناك ، لأنها مطوقة . والغريب أن لا يصاب هذا المكان قبل غيره وهو قلب المدينة .

وفزع الشيخ الوقور الخارج عن وقاره - تعنى أنه سيصاب بعد حين ؟ ! . .

- نعم . وإلا لم تصايحت الطيور . العدوى آتية الى هنا . ولكن على كل ، فهذا المكان لم تصله العدوى الى الآن

- وأى عدوى هى ؟ أى عدوى ؟

ومل الجماعة سماع الشحاذ الصغير . ونهره بعضهم فى حنق

أما الناس فقد تكاثروا ، واقفين على الأرصفة ، شيوخا وكهولا ، شبانا أطفالا من النساء والرحال . . الكل ينتظرون شيئا يبرر احتشاد الطيور هنا ، فى هذه الساحة بالذات . وتتابعت الهمسات والملاحظات ، كل يؤول هذا الحدث .

وفجأة صاح الشحاذ الصغير

- انظروا ، انظروا تلك الريشة وهى تساقط ذات اليمين وذات الشمال . . العدوى ! . . العدوى تكتسح المكان ، رباه ، رحماك بهده الطيور ، . . العدوى . . يا للعدوى .

واتجهت الأنظار نحو السماء الكئيبة أبدا . وبدأ الريش ينزل ، ينزل مترنحا . . ريشة ، ريشة ، ثم مجموعات مجموعات . . ومن حين لاخر يسقط على الأرض طبر ، ويتبعه آخر . وتوالى سقوط الطيور . . لحيمات بيضاء حمراء ، غضة ، تنكمش على الارض لا تستطيع الطيران . . وعلى مناقيرها شحوب يعرفه من سار فى الجنائز

قال بعض الواقفين - وماذا عن ملك الطيور ؟

قال آخر : - يبدو أنه يرين على قلبه هم شديد بسبب العدوى . تمرد لسان امراة

عجوز على شفتيها وقعقع : - إذن لم يمت هو ؟ ! . . آه .. والعدوى ألم تصبه ؟ .

*** عندما خلت الساحة من الواقفين إلا من بعض المارين الفضوليين . . قذفت بثمن كأسك الى الغلام وخرجت من المقهى .

كنت مزمعا على اشباع هذا البطن الذى لم يذق للأكل طعما منذ أول

أمس . . وسرت فى الطريق . كان الجو إذ ذاك لطيفا تتخلله بعض نسمات الصيف الخفيفة . الشارع طويل ، واتجاهك كان نحو أحد تلك الدكاكين القاصية ، المقصية ، الموجودة فى آخر نقطة تراها عيناك ، والمتصاعد منها لهب ودخان يعفران النور ويكونان ضبابا كثيفا

تلك الدكاكين يأتيها صغار الناس وكبارهم يسكتون فيها أصوات بطونهم العاوية ، بأثمان زهيدة

ودلفت الى دكان قادك اليه اسمه : " مطعم الحرية " . ولما جلست الى مائدة كان حولها اثنان يأكلان وهي المائدة التى تبدو خالية بالنسبة لغيرها ، قال لك مساعد الطباخ :  

- عندنا " كوشة " ، سمك ، ملوخية ، شربة ، جلبانة بالدجاج ، كسكسى ، أرز ، مصلى ، ومقرونة

ولم يعلق بذهنك شئ لسرعة نطقه ، فطلبت آخر ما ذكر ، وارتبكت لظنك أنه سيفرقع ضاحكا مثل النادل ، ، لكنك هدأت عندما علمت أن المكان مناسب .

لقد لفت انتباهك فى هذا المطعم سرعة نطق العمال بأصناف الأطعمة بحفظونها عن ظهر قلب ، شىء غريب ، وانت ما قدرت يوما على حفظ مقطوعة من الشعر

ولما أتاك بالأكل ، تفتحت كل حواسك وأصابك الشره ، واندفعت تأكل وتلتهم لتشبع نهم أمعائك . ولكن " الكوشة " أعجبتك ، ورائحة المصلى والمشوى جلبتك ، كما استهوتك نكهة الدجاج والجلبان . كل نوع حيد هنا لماذا لا تذوق من كل صنف ؟ . . واتجهت عيناك الى كل صحن بين أيدى الاكلين ، وددت لو تأكل منها جميعا . . وانكببت تأكل أكلك . .

واجتازت مصارينك جلدة بطنك وراحت تمتد الى كل صحن بين أيدى الحاضرين ، وتكونت عنك شبكة من المصارين متجهة هنا وهناك تلعق من الصحون ، وتصايح الناس وتعالى صياحهم ، وقاموا فارين . أما الطباخ فقد أخذ مقصا وأقبل فى هلع يريد قطع هذه الديدان العجيبة

وأفقت مذعورا ، فاضطربت المائدة وكادت تنقلب لو لم يوقفها السيدان الجالسان بجانبك . وعدت تأكل مقرونتك ، بعد أن حمدت الله على الظروف الحسنة التى لم تجعلك تتورط أمام الناس

وعدت تأكل . .

وانت تمضغ العجين ظهر عليك التأمل . قلت فى نفسك : لو وقع هذا فعلا ، ماذا يكون هناك ؟ "

وتذكرت اسم المطعم

دكان عتيق ، ضيق ، يزخر بالآكلين ، لقب ب " مطعم الحرية " . . قلت : إذن ، ما دام منسوبا للحرية ، فأنا حر فيه . أفعل ما أشاء وأتناول ما أحب وليس لأحد أن يردني

ونظرت فى الصحن جيدا ، دققت النظر فى أعماقه ، لم يعد به كثير من الطعام ، بعض خيوط من المقرونة مستديرة ، مستطيلة ، مربعة ، مثلثة متداخلة ، متلاحمة ، متفرقة ، تشكل عدة رسوم هندسية منحنية . وفحصتها .

قلت : " يا للحرية " ازدحام والتصاق بهذا الشكل

وتذكرت ما حفظته من تعريف عام للحرية : " حريتك تقف عند حرية غيرك " .

قابلك " سارتر " فى قعر الصحن ، اغتنمت الفرصة وقلت له :

- ألست القائل للانسان ما جاء فى هذا المعنى : " أنت حر ، مطلق الحرية ، فافعل ما شئت . والحياة كلها سخف يخلف القلق ، والملل ، والقرف " !

طأطأ رأسه وقال لك : نعم ، هو ذاك .

قلت له : إذن ما رأيك في الطباخ الذي أراد قص مصارينى وهى تسعى الى كل طبق ؟

قال لك : الوجود مواقف قلت له : ووجودك في طبقى موقف . امكث فيه وفي دائرة الصحن أطل عليك وجه . لك به سابق معرفة ، قلت له : نظرياتك نعرفها يا " كامو " ، الثورة أو الانتحار ، غير أنك تفضل الثورة والتحدى لان الانتحار طريق الجبناء ، كل هذا نعرفه ، هل لك رأي اخر يبرر إقدام الطباخ على مصارينى بمقصه الطويل ؟

قال لك : الحياة عبث و . . . فقاطعته : ووجودك في طبقى عبث .

ومضيت تأكل ، ومضت شوكتك تجذب الخيوط فتفك الصور ، فانحرف وجه " كامو " ثم جدعت ساقه اليسرى

وفي مكانه انتصب لك أبو العلاء تعلو شفتيه ابتسامة . بادرته بالقول : ما الحرية يا شيخ معرة النعمان ؟ أحابك : أن تقول ما تريد دون أن تفعل ما تحب فعله

لم ؟ - ما تريد فعله قله ، فسيطبقه غيرك اذا استحسنه . ما عليك إلا أن تنهج منهحا . مثل أنا ، لقد قلت ما أردت فى " الغفران " دون أن أطبقه

ولم تمهله يحادثك فقد حطمت له فمه وأكلته ، ثم فريت نصفه وانزلقت الشوكة الى عين سارتر فأخذتها معها . ودفعت كل ذلك الى فمك . . ثم رجعت على باقى الجثث ، وأفرغت الصحن فى بطنك ، وأسكت عواء أمعائك ، وقمت نغسل يديك وفمك ثم مسحت مبتل أطرافك ودفعت ثمن عشائك وخرجت

لطمتك في الشارع نسمات الصيف العليلة ، فتناثرت حبات العرق المبثوثة فوق وجهك .

أخرجت لفافة وأخذت تدخنها . ولما مررت أمام مقهاك نظرت فى الساحة ، رأيت عمال البلدية بجمعون الطيور الصلغاء المرتعشة ذات اللحيمات المشوكة ويكنسون الريش المتلاعب تحت النسيم ، يضعون كل ما يجمعونه ويكنسونه فى عربات المزبلة الكبيرة .

سألك أحد العمال أن تعطيه لفاقتك يشعل بها سيفارة له ، وقفت ومددت له ما طلب ، أخذ نفسا طويلا وهو يحرق سيقارته ، ثم رد لك دخانك قال لك :

- شكرا ، بارك الله فيك قلت له : - من غير مزية وسكت ، ثم بادرته بقولك :

- ما هذه العدوى التى سمعتهم تتحدثون عنها هذا المساء ؟ اتكأ على عود مكنسته ، واستنشق دخانا ، ثم نفثه وقال لك :

- هناك طائر شرب من حوض قصر ملك الطيور ، وكان قد حرمه عليها . لأن الحوض يجب أن لا يشرب منه سوى ملك الطيور ، ولما شرب هذا الطائر من لحوض الحرام انصبت عليه اللعنة فأصيب بالجفاف فى جلده ويبس ريشه فتساقط ، وتسربت العدوى منه الى باقى طيور المملكة . . ما عدا الملك طبعا . .

ابتسمت . ثم انصرفت قائلا - تصبح على خير - وانت خير الخير وانت تمشى فى الشارع وحدك ، ضحكت ثم فهت : - خرافة ! . وواصلت سيرك الى المنزل

فى الصباح قمت تتسلق الشجرة ، تفحصت العش وجدته خاليا إلا من بويضة تتشنج . وبقيت هناك فى الشجرة ترقب انفتاق البويضة عن أول طير تراه بعد سقوط كل طيور المملكة .

وتمزق الجدار ( كما تمزقت بطنك عندما برزت منها مصارينك) . وظهر الى الوجود عصفور صغير ، ذو منقار لطيف ، أصفر اللون ، ذكرك بشحوب الطيور وهى تموت .

ونزلت الى الأرض وهرعت اليه بماء كثير ، غطست فيه منقاره الأصفر الجميل .

وبدت رويشاته غضة طرية ، ناعمة ، ونظرت فى السماء الخالية من كل طير . يا لهذا العصفور الصغير ، لو تعود له أمه ، لو رأته أمه وهو يبرز الى الحياة . وتمزق منقار العصفور الأصفر اثر تكشيرة وصوت ضعيف لكنه شديد عميق

وتساءلت : ترى هل يعود بسمائنا طيور ذات ريش

اشترك في نشرتنا البريدية