هى ليلة بلهاء عمياء من ليالي الشتاء المتحرك فى برود . ليلة من ليالي شتائنا الجهنمى جنت فيها الطبيعة جنونها فخبطت خبطا ورقصت وهرولت وأعولت عويلا ليلة لست تدرى ان ضحكت لفرط حزنها او بكت لشدة فرحها . ليلة كأنها عروس في مأتم جادت فيها السماء فاغرقت . ليلة كالزنجية العجوز تبكى فتبدو اسنانها كحد السيف عند امتشاق . ليلة بصقت السماء على وجه الارض فى اشمئزاز فسأل البصاق سواقي لزجات دعاها الناس انهارا وبحارا . ليلة صمت لفرط غيظها حاولت ان تصح لتسمع نفسها صيحات افاقت لها السماء مذعورة سكرى فاهوت على جبين الارض تصفعه بسياط من ماء .
واستمرت الحال لا تمر ، واضطجع الليل على الدهر يتمطى . فلا الارض تثوب لرشدها ولا الرحمة تعرف الى قلب السماء سبيلا .
وسار في جوف الليل شاب فركه الدهر فركا ومضغه قليلا حتى احس به مرارة فعببس ومجه مجا ، شاب لطمه الحظ الصديق فقرر ان يتخلص من نفس لا حظ لها ولا صديق .
كان يظن الحياة غير " هذا " فابتسم لها حتى عبست له وراودها حتى صفعته فقرران يفارقها عزيزا قبل ان تعجل بطرده في اهانة واسترقاق .
لقد أحبها ...
أحبها حتى احب الله في اعماق عينيها الشهلاوين ، واحب فى ابتسامتها الوجود .
رآها يوما فخيل اليه انه ما انفك من قبل يراها ، وتعرف اليها بعد ايام فأيقن أنه انما خلق لها كى تعلن على شفتيه روعة الجمال ، فسبح وهام .
دخلت عليه كوخه الصغير فوسعته ووسعته حتى لامست حدوده اطراف الدنيا وشارف سقفه آفاق الخيال ، وزينته فزانته حتى توقفت ايامه عند منتصف الربيع .
ودخلت عليه قلبه الصغير فاوسعته واوسعته حتى اصبح به يتنفس وعليه يمشي
وقاس على دقاته مغزى العمر .
وهو الليلة يدخل كوخه من جديد ، فاذا الكوخ كوخه الضيق البليد ، واذا به صغير قبيح كثيب كأن في كل شبر منه جدارا ومسمارا ، ففر منه مورم العينين ممزق الاعصاب موزع النفس مختنق الانفاس
لكن ، الى اين يفر ؟
الى أين ؟ وفي كل مكان كوخ وفى كل شبر جدار ومسمار ؟ الى اين يفر ، وهذه دنياه صحراء باردة لا رجاء فيها ولو لرجاء ؟
الم يرجعه أبوها خائبا مدحورا بعد ان سأله عما يملك من مال وعقار ؟ ألم تسخر منه أمها حينما قالت له بين ضحكة وغمزة : " أخذ ، النساء يستلزم الذهب والفضة وانواع الحرير . فمن اين لك هذا وانت الكادح في سبيل الخبزة الجافة والسيجارة والخيط الوضيع ؟ "
الم تختف عنه الفتاة فجأة على غير موعد وقد كان يضمهما اللقاء كل مساء ؟ الى اين يفر وفي كل مكان قفر وفي كل زمان مساء ؟ ثم ما جدوى الحياة بلا أمل ؟
لقد كان بها يبني الكون غير الكون ومن اجلها يعشق الكفاح . فلما هجرته تزلزل الكون واضطرب مقصوم الظهر كأنه " أغادير " عريضة . فمن أجل من يحمل اليوم السلاح ؟
وسار . كمن لا يسير .
لكأنه كلمة جوفاء ماتت وان ضمتها القواميس . لكأنه حمار بليد نتن الجلد تحمل حوافره الوسخة اليأس في دنيا غير دنياه
واين منه الآن دنياه ؟ الى اين يفر منها وقد قصرت آماله عنها ؟
ولم يرض لنفسه الهوان بين الناس فهانت عليه حياة ليست الا للناس . وتوقفت خطواته عند مصطرع الموج والصخور .
وانسابت على الشاطىء المخمور فتاة حافية شقراء . تلهو الرياح بثوبها الهفهاف وشعرها الوهاج
وغاصت قدماها الصغيرتان في الوحل الاسود زهرتين فى مزابل الدهر الحقود مالها ؟
ما لها تسترق السمع في اتين الطبيعة والارباب فى مجون ؟ كيف تجرؤ هذه الوقحة على التدخل في عراك الجبارين ؟
اليس لها كما لغيرها من حشرات الارض لباسا فى الليل ومعاشا في النهار ؟ ما لها تعكس الامور ؟
يا ويلها !
.... وأمعنت الطبيعة الصماء فى التعذيب ، وتفننت في اللطم والصفع واللسع والتخديش . لكأنها انشغلت عن خصامها الابدى بهذه الدخيلة تلقنها دروس الالم .
يا ويلها !
... وسارت الفتاة بين عثرة وانكباب . وامتزجت على وجهها برودة المياه وحرارة الدموع ...
تلك السماء " الرحيمة " تغسل فيها الجراح ، لا لكى تسكت صوت العذاب ، لا !
بل لتجديد اللهيب ... ... وسارت كأتون الالم
لكأنها روح الارض تزهق بعد طول جهاد لكأنها ظل الظلام ، فى صدرها وهج الحريق يشع من فحم الصقيع ...
وهل يهمها تجريح وتشويه ؟ هل يهم الشاة سلخها بعد ذبحها وهى المذبوحة بساطور ذهبي ؟ هل يهمها أن تسيل دماؤها هنا أو هناك بعد أن بعج كونها وبقرت
آمالها باصابع من حرير ؟
ألم يرده أبوها رد القسوة والجفاء ؟ أبوها ؟ أصابه الوباء !
ألم يجرؤ على رده ، فبعثر زهورا غرستها بكل ما فى روحها من حنين ؟
ألم يقدم على بيعها ببيع السوائم والعبيد ؟ ألم يشترط فى ذلك الملايين ؟
بلى ، لم يخجل الشقي من رد حبيبها رد اللصوص ! كيف يمكن لها بعد هذا ان تطمع بلقاء الحبيب ؟
كيف يمكن لها أن تلم شعثه وتضمد جراحه وتغسل عنه اوساخ أبيها ؟ كيف تنزاح أوحال الصدور ؟
ليته لم يطلب منه يدها ! ليته لم يفعل !
لقد شاء وهو الطيب النفس أن يكون البناء بمرضاة مجتمع بغيض فنال منه ما ينال كل من يحسن للضباع !
كلا ! لتغسلن بروحها عار أبيها ، ولتنجون بنفسها البيضاء من وسخ الحياة ، أف لها من حياة !
وابتسمت زنجية الطبيعة المجنونة فى استهزاء وبدت أنيابها البيضاء فى ومض البروق
وبدا بين أشداقها السوداء انسان غريب . . تعلق فى الفضاء حينا م غطاه الظلام .
وتعالى في الفتاة قلبها حتى اللسان . عرفته ! عرفته !! ... لكن ... بعد أن فات الأوان
لقفته موجة في حضنها ثم عادت و استقامت وهدته لصخور جائعة
واستفاق الرب مذعورا كئيبا . قد رأى في حلمه مشهد ظلم البشر . فاستشاط الغيظ فه وهدر
لا شريك للرب في مجازر الابرياء ! ما لحمقى الارض للظلم المقدس يحتذون ؟ وابتسمت زنجية الطبيعة المجنونة فى اغراء وبدت اسنانها البيضاء في ومض البروق
وبدا بين أشداقها السوداء إنسان غريب تعلق فى الفضاء حينا ثم غشاه الظلام
وتعالت فى هدير الليل صيحات الاله ، رجع الرعد صداها كالطبول
" لا تعيدوها إلي .. هي أيضا لم يحن فيها الأجل .. أرجعوها ! واخطفوا روح أبيها ! "
قالها الرب العجوز بعد أن فات الأوان ... لقفتها موجة فى حضنها ثم عادت واستقامت وهدتها لصخور جائعة
ثم جرته وجرتها للجحيم .
