الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

عبث

Share

قال لها الطبيب بأن مخاضها قريب قال لها ان المسألة مسألة أيام قلائل ، فعادت الى " الادارة " تحمل الى زميلاتها الراقنات بشرى الحدث السعيد قالت لهن كلمات كلها أسرار : " سألزم منزلي ابتداء من الغد شهرا ونصفا .

واتجهت صوبها عيون ثمان محدقة فيها من جديد . واستقرت النظرات فيها استقرارها على كائن غريب . وامتلت العيون بغير ما كانت مشحونة به كل صباح ومساء .

وبدت " مريم " اليوم غير مريم الامس . من وجهها يتدفق نور جديد . بسماتها الرقيقة تبعث راحة فى النفس وامنا . في نظراتها ثقة وعزة وكبرياء .

مريم الامس لم تكن الا زميلة . لم تكن الافتاة مثلهن . لم تكن الا طفلة كبيرة . لم تكن الا كلمة . كلمة . حقا انها متزوجة . ولقد حضرن حفلات زواجها . نعم . انها متزوجة . لكن مريم العزباء لم يقتلها الزواج . لقد بقيت هى هي . بقيت زميلة . زميلة وكفى - بقيت طفلة كبيرة . بقيت فرعا طريا . لقد أضيفت الى الكلمة كلمة اخرى . لكنها بقيت . بقيت اسما . بقيت كمريم العزباء تماما .

أما اليوم فكل شئ فيها قد تبدل . سموت اليوم مريم الامس . سيموت الامس كله . سيتحرك فيصبح الفرع أصلا ويصبح الاسم فعلا . مريم دشنتها الخليقة . ابواب البقاء مفتوحة أمامها . ستقوم برسالة

الانوثة . ستعيد الامانة الى أمها . مشيئة الله فيها تتحقق ستكون جديرة بأن تكون . ألم يعلن لها الطبيب فى همس السحرة أن مخاضها قريب ؟ بكل هذا تحدثت العيون . وارتفعت الى السماء دعوات صامتة بأن يتحقق فيهن ما تحقق في مريم .

وامتدت الى يد المحظوظة يد أخرى ، يد زميلة اخرى ، يد فردوس الام . لقد هزها الحدث هزا اختها الصغيرة ترتفع الى عرشها الباسق . فمدت لها يدها مليئة بالفخر والاعتزاز . ثم حان وقت الخروج . وسارت مريم صوب الباب وثيدة الخطى تتهادى - وافسحت لها زميلاتها الطريق . وهمست احداهن

مريم هذه لن تعود وتساءلت أخرى مريم الام كيف ستكون ؟ " وتنهدت ثالثة ستولد من جديد . هنيئا لها ! "

واحتضتها أمام الباب ذراع زوجها . لم يعد يطيق فراقها منذ أن علم الخبر . لقد كانت زوجته فقط . كانت كائنا آخر يشاركه العيش الاجدب ويعينه على رفع أثقال العصور . لكنها اليوم تقاسمه الكون الرحيب . كانت نصف دنياه المحدودة فاصبحت نصف الدنيا بإطلاق . كانت امرأة تحمل اسمه لاعوام قد تطول وقد تقصر . لكنها اليوم تكتب اسمه على أفق الخلود . كيف يفارقها لحظة ودين الرجولة بين جنبيها ؟ كيف لا يحرسها وفيها مفتاح بقائه وبقائها ؟

كيف لا يعبدها وهي التى بها سيقهر الموت ويصفع الفناء ويسخر من مرور السنين ؟

قال لها : سيكون ولدا ، سأنفق عليه من تجارب دهرى بلا حساب . سأدخله المدرسة كي يجول فيها جولات الغلبة والانتصار . سأشد ازره حتى يستقيم عوده . لاجعلن منه طودا عملاقا لا يشق له غبار . لاجعلن منه بطلا رحيما افتخر به فيفتخر الكون بما صنعت ! "

وقالت سيكون بنتا . سأرضها الاغراء ثم ادخلها المدرسة كى تتعلم فيها اصطياد الحياة . لاجعلن منها زهرة فواحة تهز الصدور . سأكون من ورائها كي تمزق الفخاخ . لاجعلن منها ملاك الجمال والرحمة والبر لاجعلن منها ربة فى كل مكان . لابعث فيها حواء حية تسعى " واستمر كلاهما يسبق الايام . تحققت الاحلام كلها دفعة واحدة فضاق لها الصدران . وكف لا تضق الصدور بروعة الجمال ان رسمه الامل على جبين الحق .

وجاء اليوم الموعود وغصت قاعة الانتظار بمستشفى التوليد . وساد فيها سكون دجال . وما هو في الحقيقة الا مخاض يقابل مخاضا ينتظر الجمع ختامه .

فى كل نفس منهم مخاص . لصراخ المرأة فيهم صدى وامتداد . وانزوى الزوج فى ركن قصى . وانتصب على كرسيه كالصنم السكران . لو كانت أمامه مرآة لها ما يرى . لقد تشابكت اصابعه وارتعشت حتى لتخالها كائنات فظة منفصلة عنه .

واستوى ظهره حتى تحسبه محنطا . واصفر وجهه وتجعد حتى تحسبه من خشب قديم . لكل صرخة فى كيانه رجات . لكأنه غدير يلهو على جوانبه الصبيان برمي الحصى . وبدأ همس العجائز المجتمعات فى ركن مقابل . وتسابقت الحناجر حتى تحول الهمس الى ضوضاء .

لكن الزوج لم يكن يسمع شيئا . لقد كان مشغولا بدقات قلبه يخيل إليه أن ما يحيط به صدى أبواق وان الدقات تثقب آذنيه . لولا هذه الدقات التى تدكه دكا فتعصر آحشاءه وتمتص دمه لانفجر صارخا فى تلك الوجوه

دعوها ! دعوها ! ألا تسمعون ؟ لكم أن تأكلوا لحم اخوانكم ! لن أسمح لكم بتمزيق طفلى أو بتعذيب آمه ! حرام أن تعذبوه وتعذبوها أبى ! قل لهم هذا ! إنى وحيدك ! انك تنتظره كما انتظره ! قل لهم توالت الدقائق والساعات واستقر نظر الزوج على عقارب ساعته . إنها عقارب رهيبة ما تنفك تكبر وتكبر حتى ليخيل إليه انها تشق عينيه وتغوص فى دماغه المتعب .

وارتسمت على معصمه صورة راقصة . وبانت خطوطها وردية كالشفق . رأى صبيا عاريا متعاقا باحدى العقارب . وكبر الصبى فاصبح شابا وكبرت العقرب فأصبحت سيفا ثم رأى الشاب يرفع سيفه كي يهوى به على اعناق الثرثارين . وفجأة جمد السيف معلقا فى الفضاء وفتح باب داخلى دخلت منه ممرضة تمضغ " اللبان " اعلنت بصوت يشبه الصرير الرجاء التزام الهدوء ! لقد ولد الطفل ميتا ! "

اشترك في نشرتنا البريدية