الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

عدت من يوغسلافيا

Share

عندما وضعت قدمى على أرض يوغسلافيا ، واخترقت بعد لحظات قليلة شوارع بلغراد ( بيو فراد ) ، منتقلا من المدينة الجديدة ، ذات البنايات العالية والخضرة المتألقة الى صرة جنوب سلافيا المتأرجحة بين القدم والجدة ، وجدت الانسان فى دأبه ، وحبه طيب العيش ، واخلاده لطمأنينة النفس الرضية

ثم لما جبت السهل والحزن ، وتنقلت من المصنع الى الحقل ، وتناثرت دقات الزمن هادئة بين زفرات محرك السيارة وأنات السرعة الزاحفة ، تراءت عراقة الكائن وهو ينوء بماضيه ويخفى آثارا باهتة من جراحات السنين العاتية وقد  كساها نهر " الدانوب " رداء من الخيال أزرق رقراقا ؛ ورغم ذلك فان اطلالة طموحة كالشباب ، حثيثة كفجر هارب من صباح ملحاح ، تشير الى آمال تحققت ، ومجد يبنى ، ووحدة فى الصفوف تنشد فتكون.

ان شعوب يوغسلافيا التى عرفت عسف الاتراك طيلة خمسة قرون وأثخن فيها بالسلاح والغزو الحضارى خرجت بثقل السنين تلم أجزاءها وتنشد الحياة حتى جرد لها الزمان مرة أخرى فيالق الحديد والشر النازية فعضت بالنواجذ الصلد من الكرامة والجوهر من الحرية وعلى نبل الوحدة والتكاتف والتآلف بين أقوامها .

وظهر بعد الحرب العالمية الثانية رونق هذا الاكسير الثلاثى : الكرامة والحرية والوحدة وشمرت الشعوب اليوغسلافية تبنى حاضرها ونهضت باقتصادها فى خضم تناقضات العصر ، وصارعت بحكمة أطماع العمالقة وبرزت من بين كثير من الشعوب القوية العريقة فى السلطان ، وهي المجزأة المقسمة ، مهابة مسموعة الكلمة على لسان زعيمها "تيتو" .

وان الذى دفعني الى كتابة هذه الاسطر ، ليس هو تمسك يوغسلافيا بالماركسية نظريا - لان ذلك يجمعها بغيرها من البلدان الاشتراكية ولم ينجها هو

وحده - ولا هو نهضتها وما وصلت اليه من مستوى العيش في مجتمع الاستهلاك اذ كم من دولة اشتراكية أو رأسمالية ضربت بقسط وافر فى هذا المجال ولم يطمئن بالها ، ولا هى الارقام تحصى فتقارن فيتباهى بها وانما الذى عاينته وأحسبني غير مخطئ فيه هو هذا التوازن الذي يوجده نظام من الانظمة فى مجتمعه بين الافراد والمجتمعات ويجعلهم ، سواء كسبوا القليل أو الكثير ، راضين مقبلين على العمل بعيدين عن التوترات والرجات المخلة بالتوازن النفسى للافراد والجماعات وأحسب أن النظام فى يوغسلافيا أوجده ، ان قليلا أو كثيرا ، وسلامته فى المحافظة عليه .

واعتقد ان ذلك لا يتأتى الا بشعور الافراد بالكرامة وأقول شعورهم ، لان الكرامة التى تمنح تستحيل الى عقوق ولا يحصل الا عن طريق الحرية التى هى شعور بالمسؤولية ورضا بالحد من هذه الحرية والا تحولت الى فوضى ولا يتم كل ذلك الا فى نطاق وحدة الصفوف .

ولعل ما جعلني ألمس هذه الظاهرة هو وجه الشبه بين يوغسلافيا وتونس التى تريد أن توجد توازنها فى كنف هذه المبادئ الثلاثة وقد عرف زعيمها الحبيب بورقيبة كيف يجعل من جماعاتها المتفرقة من قبل استقلال البلاد ، قوة ضاربة .

اشترك في نشرتنا البريدية