نشرت اخيرا ترجمة عربية أخرجها الاستاذ شكيب الأموى للكتاب الذى ألفه المستر كارل تويتشل عن المملكة العربية السعودية . والكتب التى ألفت في السنوات العشر الاخيرة عن السعوديين ومملكتهم ليست قليلة ، ولكن كتاب مستر تويتشل يختلف عنها جميعا وهو لذلك جدير بتقدير خاص .
فالكتب التى ألفت أخيرا عن السعوديين ومملكتهم يتحدث معظمها عن أسرة آل سعود وكيف استطاعت واستطاع الملك عبد العزيز آل سعود بنوع خاص أن يتغلبوا على آل الرشيد وان يستردوا منهم سلطانهم في نجد ليمتد هذا السلطان من بعد إلى الحجاز فتصبح المملكة العربية السعودية التى يتحدث عنها الناس
اليوم ذات مركز عالمي لم تحلم قط بمثله بعد عهد الخلفاء الراشدين ، وكتاب مستر تويتشل لا يغفل هذا الجانب التاريخي للاسرة السعودية لكنه لا يفرد له فى كتابه غير خمسين صفحة أو ما دونها من صفحاته الثلاثمائة . أما سائر صفحات الكتاب فتتحدث عن البلاد العربية
من نواحي امكانياتها الطبيعية ، وتطورها الاقتصادى ، ومركزها فى الحياة العالمية وترسم بذلك صورة ما أحوج الناس جميعا لمعرفتها بالدقة والبساطة التى عرضها بها مؤلف هذا الكتاب .
وحاجة الناس لهذه المعرفة اشد في الوقت الحاضر . فقد بقيت البلاد العربية مجهولة او تكاد تكون كذلك الى أن نشأت المملكة العربية السعودية ، فكان الناس ينظرون اليها قبل ذلك على أنها البلاد الاسلامية المقدسة ، وكانوا يحسبونها فيما وراء ذلك صحراء جرداء لا تثير عناية ولا تسترعى اهتماما . لذلك لم يكن ما ألف عنها من الكتب يتناول أية ناحية اخرى غير هذه الناحية ،
سواء من هذه الكتب ما وضعه المسلمون الذين يتكلمون اللغة العربية ، أو ما وضعه الغربيون الذين اعتنقوا الاسلام وجابوا أقطار شبه الجزيرة العربية . أما كتاب مستر تويتشل فلا يعد هذه الناحية الدينية من اعتباره الا القدر الذى يحتاج اليه من يريد الالمام بشؤون هذه البلاد على أنها جزء من العالم له أثره فى حياة العالم الاقتصادية وفي نشاطه العام . وهو الى ذلك يتطور تطورا سريعا يتفق والتطور
العالمي الآخر الذي انشأه العلم الحديث ودفع اليه دفعا قويا .
واتجاه مستر تويتشل على هذا النحو طبيعي . فالرجل ليس رحالة كمستر بورخارث السويرى الذى أسلم وزار البلاد الاسلامية المقدسة في منتصف القرن الماضى وكتب عنها مؤلفه القيم ، بل هو - مستر تويتشل - مهندس جيولوجى أمريكي ندب للتنقيب عن المياه فى البلاد العربية السعودية فسافر اليها منذ ربع قرن - أى سنة ١٩٣١ م - فلم يسفر تنقيبه عن النجاح المطلوب كله
في أمر المياه ، ولكنه اسفر عن نجاح أكبر وأعظم . فقد ادت مباحثه الى الكشف عن الذهب والبترول ، وادت بذلك الى أن تبرز البلاد العربية السعودية الى العالم الحديث في صورة جديدة فهي لم تبق مهد البلاد الاسلامية المقدسة وكفى ، بل أصبحت مهد الذهب ومهد البترول وأصبحت بذلك مهدا اقتصاديا يتطلع اليه الناس وتتطلع اليه الدول من ارجاء الأرض جميعا ، وكل منهم
يحاول ان يصور لنفسه ما عسى أن يكون القدر قد خبأه لهذه البلاد التى ظهر فيها النبي محمد ( ص ) من أربعة عشر قرنا مضت فوجه مصائر العالم الروحية وجهة جديدة ، فظهر بها اليوم قوى اقتصادية ضخمة بدأت توجه العالم في اقتصادياته وجهة جديدة .
ومن بعد سنة ١٩٣١ زار مستر تويتشل بلاد العرب مرات عدة جاب ارجاء المختلفة باحثا منقبا مستعينا بالعلم وما هدى اليه وبالعلماء
والاختصاصيين ليحقق الاغراض التى ندب اليها . وكتابه الذي اتحدث الآن عنه ثمرة هذه الرحلات وهذا التجوال وهذا البحث والتنقيب الدقيق . ومع ان المؤلف مهندس جيولوجى كما قدمت ، ومع انه بحكم تكوينه الفني رجل علم وسياسة
عملية ، فقد استطاع ان يرسم فى كتابه صورة البلاد العربية من نواحي حياتها المختلفة ، واستطاع ان يرسم هذه الصورة في بساطة ووضوح يقفان القارئ العادى على شؤونها المختلفة ويطوعان له معرفة هذه البلاد ادق المعرفة .
قدب أن ما كتبه عن الاسرة السعودية لا يتجاوز خمسين صفحة من ثلاثمائة صفحة . مع ذلك كانت الصورة التى رسمها لقيام الملك الراحل عبد العزيز آل سعود ليسترد نفوذ آبائه في نجد ، وما حدث بعد ذلك بينه وبين الهاشميين ، ومقدرته على افساد الخطط التى وضعها الايطاليون حينا ، وغيرهم من الدول الاستعمارية حينا آخر ، لبسط نفوذ هذه الدول في البلاد العربية - كان
ذلك واضحا وضوحا قل أن تجد مثله فى المؤلفات التى اقتصرت على ذكر الاسرة السعودية وجهادها ومجهودها وكانت المعلومات التى احتواها الكتاب في هذا الشأن قيمة حقا ، ثم كانت الروح التى كتب بها هذا القسم من الكتاب كلها الانصاف للعرب ونهضتهم في شبه الجزيرة وما وراء شبه الجزيرة . وقد أفرد المؤلف الباب الثالث والاخير من كتابه للكلام عن مركز البلاد العربية
السعودية فى الاقتصاد العالمي ، وبحث فيه صلات تلك البلاد مع الغرب ومسألة الزيت والتعدين ، ومستقبل الزراعة والتجارة فيها . يستغرق هذا الباب أكثر من مائة صفحة من صفحاته الثلاثمائة ، والمؤلف يقص فيه قصة استكشاف الزيت والاطوار التى مر بها هذا الاستكشاف الى أن
تألفت شركة ارامكو فقامت بمجهودات ضخمة فى اقامة مستعمرة الزيت فى الظهران والمنطقة المجاورة لها ثم قامت بمنشآت كثيرة وبمشورة صالحة للحكومة العربية السعودية والمؤلف يقص هذا كله فى تفصيل واسهاب يصف هذه الجهود وصفا دقيقا ، وينسب كل عمل الى من قام به ويصور معاونة الحكومة العربية السعودية لهذا كله معاونة فعالة مرضية الثمرة .
وكنت أوثر أن يوضع هذا الفصل في أول الكتاب لان ما أفاءه الزيت على البلاد العربية من ثروة ضخمة قد كان سبب تطورها السريع فى العصر الحاضر تطورا يصوره المؤلف في الباب الاول وفي الفصل الاخير من الكتاب . وليس عجبا أن ينقل الكشف عن الزيت وعن المعادن بلاد كانت مجهولة من العالم لتصبح محط الانظار فى أقل من عشرين سنة ، كما اصبحت محط الانظار من الناحية السياسية منذ قام الملك عبد العزيز آل سعود
بفتحها وتوطيد ملكه فيها واقامة العدل والنظام في ربوعها . وانك اذ تنتهى من قراءة هذا الكتاب لتسائل نفسك : أى دور القي القدر على هذه المملكة الجديدة ذات التاريخ المجيد فى حياة العالم القديم لتنهض فى هذا العصر الحاضر بعد ان كشف العلم والفن عن مكنون امكانياتها الزيتية والمعدنية ، وبعد أن فجر الماء فيها تفجيرا جعل الامل فى ثروتها الزراعية يتضاعف عما كان عليه منذ اكثر من عشرين سنة .
وقد أضاف مترجم الكتاب الاستاذ شكيب الاموي بابا أخيرا صور فيه النظام الحكومي للدولة وتطوره السريع ونقل اليه كثيرا من الاوامر الملكية التى أصدرها الملك ابن سعود تثبيتا لهذا النظام ومعاونة على تطوره ليصبح فيما بعد نظاما عربيا اسلاميا يجارى التفكير الحديث فى نظم الحكم
وتبرز الصور الفتوغرافية الكثيرة الجميلة التى يشتمل عليها الكتاب كثيرا من مظاهر التطور الذى اشير اليه ، فتجعل من قراءته متعة لا يقلل منها بل قد يزيد فيها ، الأسلوب السلس الذي يكتب الكتاب به .
هذه لمحة سريعة عن هذا الكتاب الذي ييسر لمن يريدون الوقوف على تطور هذا الجزء من العالم ان يبلغوا من ذلك ما يريدون والذي يفتح امام الذهن بابا واسعا للتفكير والتأمل .
