كانت غبطتى عظيمة عندما قال لي صديقى المجرى " إيمرى باستور " - سنسهر الليلة فى الأوبرا مع سترافنسكى فى رائعته الشهيرة ( عصفور النار ) . وظلت جملة اخيرة على شفتيه يتردد فى قولها او كتمانها .. لكنه ما لبث باللباقة التى عرفتها فيه أن قال :
- لا بد من أن يتضايق المرء ساعتين أو ثلاثا باللباس الرسمى . وكان هذا القول كافيا لادراك أن حضور أوبرا ( عصفور النار ) يتطلب اللباس الرسمي شأن كل حفلات الأوبرا .. إذ أن عملا مسرحيا كهذا يجب أن يستقبله المشاهد وهو في أبهى الثياب وأكثرها أناقة .
ولا شك أن الذين ألفوا حضور الأوبرا يدركون تماما أن الرواد إنما يتبارون فى إبراز جل اناقتهم وأبهج ثيابهم فى حفلات الأوبرا ، وكأنما هم فى عرض خاص للأزياء والأناقة وآخر صيحات الموضات العصرية .
كان مدخل دار الأوبرا فى "بودابست" يغص بالناس . وأغلبهم قد استحصل على بطاقته قبل أيام من العرض . قلت لصديقي ونحن نعبر الممر الكبير : - لا بد أنها العروض الأولى لهذه الأوبرا ..؟ رد على وهو ينحني مسلما على حسناء فاتنة :
- إنها صديقتي منذ ايام الحداثة .. وهى اليوم مذيعة فى التلفزيون الهنغارى . وكأنما فطن ، وهو ما يزال يبتسم يمينا وشمالا ، إلى سؤالي ، فعقب قائلا :
- أبدا .. فأوبرا عصفور النار تعرض للمرة الثانية .. العرض الأول استمر تسعة أشهر متواصلة ، وعرضها الآن منذ شهرين فقط .
ودارت كلمة "فقط" فى رأسى دورات عديدة ، وذهلت إذ وجدت الناس ما يزالون يقبلون فى حماس رصين على عمل كهذا .
روعة مذهلة استقبلتني منذ أن وضعت قدمي على أول سلم الدار ، زخرفات ونقوش مذهبة ، وفوانيس مطعمة بالذهب الخالص ، ورسومات تعود بالذاكرة إلى العصور الأولى للنهضة في مختلف الفنون . قال " إيمرى باستور " :
- من هنا متحف دار الأوبرا .. سنزوره في الإستراحة بعد الفصل الأول . وطفقنا نصعد السلم المفروش بالسجاد الأحمر ، حتى وصلنا إلى صالون كبير جدا ، ضم معظم الرواد فى حلقات متباعدة ومتقاربة تجمعهم مختلف الأحاديث ، وكانوا يدخنون ويشربون القهوة . قال صديقى : - ما رأيك بفنجان قهوة . ؟
وقبل ان أجيبه بالإيجاب ، انطلق إلى زاوية ركينة وغاب عن عيني .. لكنه ما لبث أن عاد بعد قليل وبصحبته الحسناء الفاتنة مذيعة التلفزيون ، وهو يحمل فى كل يد قدحا كبيرا من القهوة .
وتعرفت على الانسة "جروشا" ، وتعرفت على الجمال المجري الأصيل عن قرب ، وفجأة قالت "جروشا" :
- منذ أسبوعين وأنا أحاول الحصول على بطاقة .. والتفتت إلي وأكملت : - أزمة شاقة أن تحصل على بطاقة دخول للأوبرا . قلت مبتسما :
- خاصة إذا كانت في .. بودابست ، ولمسرحية عصفور النار .. رنين جرس تردد فى كل الأنحاء ، فتأهب " إيمرى باستور " وحمل قدح القهوة وعاد به فارغا إلى مكانه ، وقال : - هيا قبل أن تغلق الأبواب .
وودعتنا الحسناء "جروشا" بابتسامة ساحرة ، وعبرنا ممرا يفضى إلى أبواب المقصورات . وما كدنا نجلس حتى أغلقت الأبواب على المقصورات من الخارج مع رنين الجرس الثاني .. وخيم على دار الأوبرا سكون أسطورى عميق ، صمت مغرق وهدوء عجيب ذكرني بلحظات الإبتهال الصوفي والإتصال الإنساني بالخالق فى بيوت العبادة .
وارتفعت الموسيقى ، وانكشف الستار عن مسرح ضخم وديكور لا أروع ولا أبهى ، كانت السماء الزرقاء فيه كأنما هى امتداد من زرقة سماء "بودابست" الجميلة .. وابتدأ العرض ..
بصمت ناولنى صديقى "إيمرى باستور" منظارا . وبالإشارة منه فهمت أنه سوف يساعدني على متعة الرؤية .
وضعت المنظار المكبر على عينى ، وجعلت انتقل بين وجوه الممثلين والممثلات ، وجوه منفعلة ومتفاعلة مع الموسيقى الرائعة ، الصاخبة والهادئة المعبرة .. وكأنما كل من على المسرح يدرك في أعماقه صدق ما يؤدى . وكأن عشرات الآلاف من العيون تراقب كل حركة من حركاته .. وفعلا كان الأمر كذلك .
فحين نقلت منظارى المكبر من اتجاه المسرح ، وجعلت أطوف بين المشاهدين في مقصوراتهم ، ما كنت أجد وجها واحدا إلا وهو مشدود إلى ما كان يجرى ، خائف أن يغفل عن مشهد أو يسهو عن حركة . كذلك لم ينقل لي منظاري المكبر صورة واحد من المشاهدين المتابعين يتحدث مع جاره ولو همسا خفيفا أو باشارة .
فالكل فى صمت مغرق عجيب ، أمعانا فى تقديس العمل الفنى واحتراما له . ولم يكن بين كل الموجودين واحد يدخن او يتناول المرطبات اويقزقز (البزر) أو حتى يتنفس بصوت مرتفع .
وانتهى الفصل الأول من ( عصفور النار ) وفتحت الأبواب من الخارج ، وخرج معظم من كان يبغى التدخين او الحديث مع رفيق سهرته .
خرجت مندهشا من المقصورة ، وقول صديقى " إيمرى باستور " يتردد خلفي :
- على الرغم من أنني شاهدت هذه الأوبرا أكثر من عشر مرات ، لكنني في كل مرة أشاهد فيها شيئا جديدا .
لم تكن بي رغبة إلى التدخين أو الحديث ، بقدر ما كانت لهفتى تدفعنى لزيارة المتحف الملحق بدار الأوبرا ..
وهناك ، في المتحف العظيم ، شاهدت (النوتات) الأولى ويخط اليد لعدد كبير من الموسيقيين العالميين أمثال (فاغنر ليست وشوبان) وغيرهم ... وتمتعت برؤية تماثيل عديدة من أولئك العباقرة .
صور ولوحات وتماثيل ونوتات هنا وهناك ، ثم أول إعلان عن أوبرا قدمت في هذه الدار ، كذلك أول بطاقة دعوة ، وفي مكان آخر شاهدت خزانة زجاجية تحوى حذاء أول راقصة باليه مجرية ، كذلك ثيابها المحفوظة تحت الزجاج باعتزاز كبير .
وانتهت أوبرا "سترافنسكى" - عصفور النار - . وهنا ولأول مرة يتنفس الجمهور بحريته الخاصة فراح يصفق ، وكانما التصفيق هو جزء من النغم الموسيقى ، بل هو تصفيق ملحن ، و استمر التصفيق مع إنحناء الممثلين والممثلات ، واستمر ...
استمر بتقدير مثالي ، فإذا (مايسترو) الفرقة الموسيقية يصعد إلى المسرح وينحني للجمهور ، ويستمر التصفيق أكثر ، ثم اكثر ، حتى ينكشف القسم الأسفل من المسرح عن الفرقة الموسيقية التى تحيى الجمهور ردا على تقديره وإعجابه .
ونهض كل من كان يشهد هذا العمل الرائع ، وراح يصفق طويلا ، وكأنما كان الجميع من الفرقة الموسيقية حتى مجموعة الممثلين والممثلات حتى الجمهور نفسه ، يتلقى إيعازات معينة بالتصرف المهذب إلى ابعد حدود التهذيب والتقديس والتقدير .
