الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "الفكر"

علمتنى يا أمى

Share

مهداة إلى حسناء

علمتنى يا أمى عندما كنت صغيرا وعندما نجحت فى الشهادة الابتدائية وحان وقت السفر الى المدينة . . علمتنى يا أمى عند الفجر وأبى يؤح بصوت مفزع يحمل شمعة صغيرة يبحث فى ركن الدار عن برنوسه الاسود الطويل الذى صنعته له فى الشتاء المدبر والذى يحبه كثيرا ويفضله على ملابسه الاخرى لأنه حسب قوله يصل الى الارض فيغطى كل جسمه . . علمتنى وبغلنا الاسود القصير واقف أمام الدار يرفع قوائمه ويحطها ويحرك أذنيه وهو محمل بحقائبى وأدباشى علمتنى أن أنظر الى اليمين والى الشمال طويلا كلما أردت أن أجتاز شارعا أو نهجا أو زقاقا وكنت لا أعرف ما معنى الشارع والنهج والزقاق كنت أتخيل ذلك وأتخيل ثم استسلم منتظرا اليوم الذى سأكتشف فيه هذه الاشياء كنت أقول فى نفسى لماذا تعيد على كل هذا . كنت تأخذيننى من يدى يا أمى كل مساء وتخرجين الى السانية وأنت ممسكة برأسى تداعبين شعرى وتنظرين الى من فوق نظرة صامتة غامضة وعندما تصلين الى الزيتونة الكبيرة التى نسميها " زيتونة الكلب " لأنه ما ت تحتها أجمل كلب حرس بيتنا فقد كان يقضى الليلة كله نابحا يصول ويجول كأنه أسد فى أجمة وكل الناس يخافونه فلا يأتون الى دارنا عند الليل للسمر . . عندما تصلين الى تلك الزيتونة تجلسين على الارض غير عابئة بالحشائش اليابسة فأجلس أمامك مستقيما رافعا رأسى مغلقا فمى موجها عينى اليك كنت أجلس تماما كما كنت أجلس فى الكتاب . تصمتين أنت يا أمى كأنما تريدين أن تدخلى فى قلبى رعبا وخوفا وعندما تريننى هادئا تنفجرين ضاحكة وتمتد يدك اليمنى ذات الاصابع الطويلة النحيلة الى وجهى فتضغطين عليه بشدة . . علمتنى يا أمى كل مساء عندما يتحول ظل زيتونة " الكلب " من الجهة الغربية ويمتد فى اتجاه القبلة ويغطى دارنا وشيئا كبيرا من السانية . . علمتنى عندما تسكن القرية وتعود الطيور ويصغر قرص الشمس متهيأ للغروب . . اليوم هأنذا أجتاز شارعا كبيرا كبيرا لو رأيته يا أمى لاندهشت وأغمى عليك . . . هأنذا أجتازه غير مبال بهذه السيارات الكثيرة الكثيرة التى لو أردت أن تحصيها لما استطعت . . هأنذا أجتازه ماسكا بيد فتاة ، فتاة من اللاتى حدثتنى عنهن

كثيرا ونحن جالسان تحت زيتونة " الكلب " هذه يدى اليمنى تلامس يدها كأننا زوجان فى شهر العسل ها هى تضغط حينا وتتراخى حينا آخر ثم تنزل فتصطدم بأظافر طويلة هذه الاظافر الطويلة لا شك أنك لا تعرفينها يا أمى . . أظافر طويلة مصبوغة بلون أحمر داكن له رائحة شبه كريهة لكنى أحب هذه اليد وهذه الاظافر وهذه الرائحة يا أمى . . سنقطع هذا الشارع يا أمى وآخر وآخر حتى يصيب مفاصلى الخور وتتجمد عظامى كل يوم أفعل هكذا يا أمى كل يوم أخرج مسرعا وأظل أنتظرها حتى أكاد أسقط من فرط التعب قد ينزل مطر وقد يبتل وجهى وعندما تأتى تبتسم وأبتسم أنا يا أمى وبعد ذلك أمسك بيدها اليمنى فأنسى ألمى وتزول متاعبى تعرفين لا شك قيمة هذه اللمسة يا أمى ، لا شك أن أبى قد فعل لك ذلك مرة فيد أبى غليظة قوية ذات عروق زرقاء بارزة وشعر أسود طويل . . وبعد ذلك نمشى . . نقطع مسافات ومسافات نتحدث وتتحدث ولا أحد يبدى ضيقا أو تبرما أو قلقا وعندما أكون على خلوة فى المحطة أنتظر الحافلة أتذكر كل ذلك يا أمى فأنساه ثم أتذكره من جديد لأن الحافلة فى المدينة لا تأتى بالسرعة التى تتخيلينها أنت وأبى والناس فى قريتى . . أخاف فأتناسى كل ذلك وعندما أكون فى الحافلة عائدا الى دارى أكون صامتا وديعا كالحمل ملصقا جبينى ببلور بارد كالثلج انظر فى شرود كالاطفال الى المدينة وقد أقفرت وخلت شوارعها وأنهجها وأزقتها من الحركة وعندما أصل أفتح الباب وأدلف الى الغرفة دون أن أنيرها وأستلقى على فراشى ثم أبكى . . لا أدرى لماذا أبكى فأنا قد نسيتك يا أمى نسيتك ونسيت بعدك أبى . . عندما مت كنت لا أعرف ما معنى أن يموت إنسان يومها عدت من المدرسة أجرى فى سرعة هذه السيارات التى لا تعرفينها يا أمى أحمل معى دفترى وعندما وصلت كنت ألهث فقد كان التراب الاحمر يشدنى اليه بقوة وكان غباره يتصاعد فى نهم الى رأسى وشعرى فيندس فى عينى ويختلط بالعرق فأحس بالوجع . . وجدتك قد مت والنساء حولك يبكين وأبى جالس تحت زيتونة " الكلب " مخفيا رأسه بين يديه وحوله أناس يبكون . . خجلت من النساء يا أمى فأنا قد كنت خجولا . .

كن ينظرن الى ويشرن الى بالاصابع فهربت ووقفت أمام أبى وتشبثت ببرنوسه الاسود الطويل الذى يحبه كثيرا يا أمى ويفضله على ملابسه الاخرى . . لم أسمع له همهمة ولا بكاء وتساءلت لماذا لا يبكى أبى . . وعرفت بعد ذلك يا أمى أن أبى لم يكن يحبك حبا كبيرا . . عرفت كل ذلك يا أمى فقد كنت تحبينه كثيرا لم تريدى له بديلا . . تقدم اليك رجال آخرون رجال اغنياء أثرياء موظفون فى الدولة وتجار وفلاحون كبار فرفضت وأصررت على ذلك

وكلما قيل لك إنك لن تتزوجيه أقمت الدنيا وأقعدتها . . أنا أعرف كل ذلك . . ولما تزوجتما وأنجبت طفلا مات ذلك الطفل فأنجبت آخر فمات وآخر فمات فبكيت كثيرا يا أمى مثلما أبكى أنا كلما أعود الى دارى بكيت حتى احمرت عيناك وتقرح جفناك ولما أنجبتنى أنا خفت على من الموت كنت تحسبين أن الموت مرابط فى السانية ينتظر الفرصة ليهجم على البيت ويفتكنى منك وبعد سنتين كاملتين مرضت بالمرض الذى أصاب إخوتى لم تصدقى فى أول الامر لكنك قبلت الفاجعة بعد ذلك فذهبت الى العرافين وتبركت بالأولياء الصالحين لكن ذلك لم ينفع فقد اشتد بى المرض فنحلت واصفرت عيناى وغارت وتدلت شفتى السفلى وبعدما استسلمت لامر الله ويئست من كل شفاء نصحتك امرأة بأن تشترى قفلا وتقفليه ثم تحتفظى بمفتاحه لأنه حسب

قولها اذا فتح القفل فانى أموت اشتريت لتوك قفلا وأحكمت غلقه وعندما نزل الليل واشتدت الظلمة خرجت خفية فأنت تخافين أبى كثيرا فأبى رجل متدين يكره الدجل والسحر ويعتبر هذه الاشياء كفرا وبدعة وحملت معك رفشا وردمته تحت زيتونة " الكلب " وعدت وأنت تلتفتين ورائك وحولك وأمامك كأنك معتوهة حتى تتيقنى من أن أحدا لم يرك . . سامحك الله يا أمى هأنذا أجتاز شوارع وأنهجها وأزقة غير مبال بهذا الوابل من السيارات ماسكا بيد فتاة . . فتاة طويلة تلبس " البنطلون " ولها أفكار غريبة فى الحياة والحب يا أمى لا يهمها أن تتعرى يا أمى عندما نكون ننصت الى الاستاذ وهو يحاضر . . لا يهمها أن تدخن يا أمى سنقطع مسافات ولا أحد يبدى ضيقا أو قلقا وعندما أكون على خلوة أصمت وأحزن . . وعندما أعود يوم العيد الى القرية سيأتينى الناس عند الصباح فأسلم عليهم بصمت ووقار مثلما كان

يفعل أبى كل يوم عيد سأوزع الزكاة على فقراء القرية بيدى هذه التى أمسك بها يد الفتاة سيبتسمون سيضحكون فهم يفعلون كل شئ يوم . العيد وعند الضحى يزورون الجبانة حاملين على رؤوسهم سلالا مملوءة فطائر وحلوى وبعدما يصلون يوزعونها على المتسولين سيبكى بعضهم من شدة التأثر سيتشجع البعض الآخر فيواسيه ستصب الشمس على وجوههم السمراء حرارتها . . سوف لا يبالون بذلك سيتلون آيات قصارا من القرآن سيرددون كلمات تعرفينها جيدا يا أمى . . كلمات كان يرددها أبى بصوت غليظ خاشع بعد كل صلاة . . وعندما يقبل المساء وتتهيأ الشمس للغروب أتسلل من الدار سيبحث عنى اخوتى الصغار سيسأل عنى بعضهم بعضا فلا يجدوننى . . سأسير فى طريق موحشة خالية من كل شئ ستغوص قدماى فى رمل أحمر متكدس وعندما أصل الى الجبانة سيكون كل انسان فى داره يصطلى نارا دافئة وسأكون أنا جالسا على قبرك أقطع فى حركة عفوية بعض الحشائش اليابسة النابتة فوقه . .

اشترك في نشرتنا البريدية