الاهتمام باللغة امر تستدعيه ضرورة قائمة ، ذلك ان المشكلة اللغوية من المشكلات الخطيرة ، ومن أجل ذلك نشطت المجامع اللغوية فى الاقطار العربية فى العمل على حل هذه المشكلة القائمة ، وتبرز المشكلة فى ان العرب فى يومنا هذا لا يتكلمون بالفصيح من العربية ، فالعامى الدارج هو المستعمل ، وامرالعامى مشكلة من المشكلات ايضا ، فهناك لهجات مختلفة باختلاف البلاد ثم ان البلد الواحد مشتمل على لهجات وطرق فى التعبير مختلفة ايضا ، وربما صعب على العربى من شمالى العراق ان يفهم من قروى من سكنة القسم الجنوبى من العراق
والبحث اللغوى التاريخى فى العربية صعب جدا ، وصعوبته آتية من افتقار الباحث الى كثير من المواد الضرورية لهذا البحث ، فالذى نعرفه ان العربية وصلت الينا ناضجة كل النضج ولغة القران تشهد على المستوى العالى الذى بلغته العربية .
ومن اجل ذلك فلا نعرف كثيرا عن نشأة هذه اللغة وتطورها فى مراحلها الاولى التى سبقت عصر القرآن ، وانا لم ارد ان اخص القرآن بالمثل الوحيد على هذا الرقى ، ومن اجل ذلك ايضا استعملت مصطلح ( عصر القرآن ) لادخل فى هذا الشأن ما صح من الشعر الجاهلى وسائر فنون القول المعروفة .
ولا بد ان اخلص من هذه المقدمة القصيرة الى الحديث عن علم اللغة عند الباحثين الاقدمين ثم كيف كانت نظرية العلامة الشهير ابن خلدون فى هذا الموضوع .
ولقد كان لعلماء اللغة فى القرن الرابع الهجرى وقبل ذلك بكثير اقوال فى علم اللغة ، غير ان هذه الاقوال لم تنته الى بحوث علمية واسعة ، ويجدر بنا ان نعرض لراى ابى الحسين احمد بن فارس احد ائمة اللغة فى القرن الرابع الهجرى ، فهو يعرض فى كتابه الذى اسماه (( بالصاحبى )) الى رايه بقوله : باب القول على لغة العرب اتوقيف ام اصطلاح ؟
وهو يجيب عن هذا السؤال قائلا : اقول : ان لغة العرب توقيف ، ودليل ذلك قوله جل ثناؤه : (( وعلم آدم الاسماء كلها )) . فكان ابن عباس يقول : علمه الاسماء كلها وهى هذه التى يتعارفها الناس من دابة وارض وسهل وجبل وحمار واشباه ذلك من الامم وغيرها (1)
وظل ابن فارس يبسط القول فى هذا الراى متمسكا به اخذا بالاية الكريمة التى اشرنا اليها ، ولم يسلم ابو الفتح عثمان ابن جنى من القول بهذا الراى فقد قال بالتوقيف فى اصل اللغة ثم عاد الى القول بمبدأ الاصطلاح كما جاء ذلك فى كتابه المشهور بالخصائص .
ولم يقتصر قول ابن فارس بالتوقيف على اللغة وانما قال بذلك فى موضوع الخط فقد جاء فى الصاحبي ما نصه : " والذي نقوله فيه ان الخط توقيف ، وذلك لظاهر قوله عز وجل : (( اقرأ باسم ربك الذى خلق ، خلق الانسان من علق ، اقرأ وربك الاكرم الذى علم بالقلم ، علم الانسان ما لم يعلم )) . وقال تعالى (( والقلم وما يسطرون )) .
ولم يكن المسلمون اول من قال بالتوقيف فى هذا الموضوع معتمدين على الاية الكريمة ، فقد جاء مثل ذلك فى سفر التكوين من العهد القديم وفحوى ذلك ان الله علم آدم اسماء المخلوقات جميعها . والنتيجة التى نستخلصها من قولهم بالتوقيف مفسرين الآية كما يشاؤون ، هى انهم جمدوا على العربية الفصيحة ولم ياخذوا ما سواها ، وانهم لم يتقيدوا بالاستعمال ، وتطور هذا الاستعمال فى اللغة ، فقد رسموا لانفسهم صورة للغة لا يحيدون عنها ، وحملوا بذلك ما خالف هذا المرسوم المتفق عليه على الخطأ واللحن ، ومجاوزة الصحيح . وقصة عبدالله بن ابى اسحق الحضرمى النحوى مع الفرزدق دليل على هذا ، فقد قال الفرزدق فى قصيدة له :
وعض زمن يا ابن مروان لم يدع
من الناس الا مسحتا او مجلف
فقال النحوى : على اى شىء ترفع (( مجلف )) فقال الفرزدق : على ما يسوؤك وينوؤك . (2) وليس الحضرمى بدعا بين اللغويين ، فقد ذكر ابو حاتم
السجستانى : سالت الاصمعى : اتقول فى التهديد ( ابرق وارعد ) قال : لا، لست اقول ذلك الا انى ارى البرق واسمع الرعد ، قلت قال الشاعر الكميت:
ابرق وارعد يا يزيد
فما وعيدك لى بضائر
قال : الكميت جرمقانى من اهل الموصل ليس بحجة ، ولكن الحجة هو الذى يقول :
اذا جاوزت من ذات عرق ثنية
فقل لابى قابوس ما شئت فارعد
وهو شاعر جاهلى ، وشاعر هذا متاخر لا يؤخذ بقوله . قال ابو حاتم فاتيت ابا زيد الانصارى ، وقلت له : كيف تقول من البرق والرعد : فعلت السماء ؟ قال رعدت وبرقت ، قلت : فمن التهديد ؟ قال : رعد وبرق وارعد وابرق ، فاجاز اللغتين ، ثم سالت اعرابيا فصيحا فاجاز اللغتين ولم يجز الاصمعى الا لغة واحدة . (3)
وكان الاصمعى ينكر كلمة (( زوجة )) ويقول (( زوج )) ويحتج بقوله تعالى (( امسك عليك زوجك )) فقيل ، له : ان الشاعر ذو الرمة يقول :
اذو زوجة بالمصر ام ذو خصومة
اراك لها فى البصرة اليوم ثاويا
فقال ذو الرمة ليس بحجة،اذ طالما اكل البقل والمالح فى حوانيت البقالين (4) وقد عرف عن الاصمعى هذا التشدد والحرج ، فهو يابى كلمة خالفت لغة التنزيل ، وهو من اجل هذا لم يرض لنفسه ان يبحث فى لغة التنزيل على نحو ما فعل ابو عبيدة (5) وابن قتيبة (6) مثلا . ويقول ابن جنى : كان الاصمعى ليس ممن ينشط للمقاييس وانه معروف بقلة انبعاثه فى النظر وتوفره على ما يرى ويحفظ (7)
وهكذا ظل علم اللغة سائرا فى هذه الطريق التقليدية ، واعتبار كل تغيير فى اللغة خروجا عن سنن الفصاحة ، وحسبك ان تعرف ان اللهجات السائرة وهى الحبة المستعملة قد اعتبرت عند هؤلاء العلماء الاقدمين من طرائق التعبير المذمومة وها هو ابن فارس اللغوى الذى اشرنا اليه قد اعتبر هذه الانماط الكلامية من اللغات المذمومة (8) وهذا النظر فى اللغة لم يفد البحث اللغوى ذلك ان الحقيقة اللغوية قد ضاعت وان نماذج من القول قد اعتبرت مما لا يستحق التسجيل ، وهذا ما لا يقره البحث العلمى الحديث . فالبحث العلمى الحديث ينظر فى ان اللغة ذات مظهرين اساسيين متكاملين وهما : المظهر الجامد (( Synchronique )) والمظهر المتحرك (( Diachronique )) ومن هذين المظهرين نتبين ان اللغة صورة وليست مادة كما يقول بذلك اللغوى السويسرى (( F . de Saussure ))
على اننا لو تخطينا الزمن وجاوزنا القرن الرابع حتى تصل الى عصر ابن خلدون نجد هكذا المفكر ينظر الى اللغة نظر العالم الاجتماعى فيقول بالتطور ويرد اللغة الى انها ظاهرة اجتماعية تتاثر سلبا وايجابا بالزمان والمكان ، وهو من اجل ذلك لا يرتضى احكام اللغويين والنحاة وتشددهم فى هذا الامر فهو يقول : (( وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد ، ولا تلتفتن فى ذلك الى خرشفة النحاة اهل صناعة الاعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون ان البلاغة لهذا العهد ذهبت ، وان اللسان العربى فسد اعتبارا بما وقع فى اواخر الكلم من فساد الاعراب الذى يتدارسون قوانينه ، وهى مقالة دسها التشيع فى طباعهم والقاها القصور فى افئدتهم ، والا فنحن نجد اليوم الكثير من الالفاظ لم تزل فى موضوعاتها الاولى ، والتعبير عن المقاصد ، والتعاون فيه بتفاوت الابانة موجود فى كلامهم لهذا العهد ، واساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة فى مخاطباتهم ، وفهم الخطيب المصقع فى محافلهم ومجامعهم ، والشاعر المفلق على اساليب لغتهم والذوق الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك ، ولم يفقد من احوال اللسان المدون الا حركات الاعراب في اواخر الكلم فقط الذى لزم فى لسان مضر طريقة واحدة ومهيعا معروفا ، وهو الاعراب وهو بعض من احكام اللسان )) . (9)
ولا بد من الاشارةالى استعمال كلمة (خرفشة النحاة) وهو استعمال يريد
منه الى العبث الطويل الذى ادى اليه البحث العقيم فى مسائل منطقية مجردة لا تمت الى الحقيقة اللغوية بسبب . ولابد من الاشارة ايضا الى تقريره ان فقدان الاعراب فى اواخر الكلم لا يفقد اللغة صفاتها الاخرى التى تكون منها عنصرا حيا جميلا ، فالاعراب على حد قوله بعض من احكام اللسان العربى وابن خلدون يذهب الى اكثر من هذا وهو يقرر ان الاستقراء الشامل الوافى فى لغة عصره ربما يهدى الباحث الى ضوابط تغنى عن قوانين النحو المقيد المعروف فهو يقول : (( ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربى )) لهذا العهد )) واستقرينا احكامه نعتاض عن الحركات الاعرابية فى دلالتها بامور اخرى موجودة فيه تكون بها قوانين تخصها ولعلها تكون فى اواخره على غير المنهاج الاول فى لغة مضر .. ولقد كان اللسان المضرى مع اللسان الحميرى بهذه المثابة وتغير عند مضر كثير من اللسان من موضوعات اللسان الحميرى وتصاريف كلماته )) . (10)
وهذا النص يدلنا على ان ابن خلدون العالم الاجتماعى يقول بتطور اللغة وان لكل عصر لغة تتطور فتبتعد عن اصلها وعن لهجاتها . وهو يعقد فصلا يبحث فيه ان لغة اهل الحضر والامصار لغة قائمة بنفسها ، وهو فى هذا الفصل يعرض لموضوع ان لكل مصر من الامصار لغة تختلف عن الاخرى ، وهو يؤكد استعمال كلمة (لغة) دون غيرها ، وهو يقول : و كل منهم متوصل بلغته الى تادية مقصوده ، والابانة عما فى نفسه ، وهذا معنى اللسان واللغة وفقدان الاعراب ليس بضائر لهم )) . (11) وفى هذه الاقوال الاخيرة يبدو نظر ابن خلدون الدقيق فى حقيقة اللغة والذى نتبين فيه انه مخالف كل الخلاف لاولئك اللغويين الاقدمين الذين لم يؤمنوا بالتطور والاستعمال ولم يهتدوا الى حقيقة الكلمة ودلالتها وانتقال هذه الدلالة (( Sémantique )) عبر الزمان والمكان

