الجاهلية اسم حدث في الاسلام . ولم يكن يعرف عند العرب بمعناه المراد في الجاهلية وانما اطلق هذا الاسم على الزمن الذي مضى على الامة العربية قبل بعثة الرسول المصطفى ( صلوات الله عليه ) . وذلك لانه عصر الضلال الديني على عكس عصر الاسلام الذي هو عصر الهدى . ولقد ورد لفظ الجاهلية في القران الكريم اربع مرات ( ١ ) . وقيل عن العصر الجاهلي :
العصر من قبل ظهور الاسلام
عصر جهالة وظلم وظلام ( ٢ )
وجاء كذلك ( ٣ ) ، قال البخارى في صحيحه .
حدثنا ابو النعمان . حدثنا ابو عوانة عن ابي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن العباس قال : إذا سرك ان تعلم جهل العرب فاقرا ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الانعام : قد خسر الذين قتلوا اولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين " ( ٤ ) .
ولقد اصطلح اصحاب السير على ان يطلقوا اسم الجاهلي على من لم يدرك الاسلام . مما تقدم نرى ان الاغلبية الساحقة يسمون ذلك العهد الماضي بالعصر الجاهلي بالنسبة الى عباداتهم . وكذلك يقول " البيحاني " يريد العصر الجاهلي :
الناس كانوا يعبدون البشرا والجن والاملاك بل والشجرا ( ٥ )
وان كان عصر الجاهلية او عصر الضلالة
هو شر العصور فان هذا لا يعنى انه لم تكن
للعرب علوم وحضارة فكرية وثقافية .
بل بالعكس فالعرب اصحاب حضارة منذ القدم . فطبيعة الصحراء الشاسعة التى تتطلب من البدوي ان يبقى متنقلا على الدوام مفتشا وباحثا عن الكلأ والماء متخذا الناقة والخيل وسيلة لنقل امتعته ونفسه . تجعله ذا معرفة في الحيوانات الاهلية المرافقة له على الدوام . ولذلك ظهر منهم من وصف الناقة وصفا دقيقا .
فلنستمع الى الشاعر العربي الجاهلي وهو يصف ناقته فيقول ( ٦ ) :
وجمجمة مثل العلاة كأنما
وعي الملتقى منها الى حرف مبرد ( ٧ )
واروع حباض أحذ ململم
كموداة صخر في صفيح معمد ( ٨ )
وعينان كالماويتين استكنتا
بكهفي حجاجي صخرة قلت مورد ( ٩ )
طحوران هوار القذى فتراهما
كمكحولتي مذعورة ام فرقد ( ١٠ )
فانظر الى وصفه . فانه ولا شك قد اصاب حين وصف جمجمة الجمل بالعلاة ووصفه القلب بانه احذ ململم .
وان القارئ ليرى ان هذه الاوصاف لا تدل على ملاحظة عارضة عابرة من طرقة ، بل انها تدل على مشاهدة عاقلة ودرس دقيق والبدوي الجاهلي يتنقل في الليل كما يتنقل في النهار . ولذا فكان من الواجب عليه ان يعرف اثار الانسان والحيوان
للاهتداء بها الى الهارب من الحيوان او الذاهب من الانسان . وكذلك لمعرفة السارق الذي لم يترك وراءه سوى اثار قدميه . ولقد تقدم عندهم معرفة الاثر الى ان اصبح بامكانهم اكتشاف شخصية صاحب الاثر من آثاره وبذلك تكون عندهم بما يعرف علم " القيافة " .
وهناك علم الفراسة ايضا وهي دراسة تفاصيل الوجه للاستدلال على النسب بين الافراد .
ومن علومهم كذلك الكهانة ( ١١ ) والعرافة ( ١٢ ) .
ولقد كان العرب اشتاتا وقبائل ينتمون الى اباء متعددة ، فكان لابد لكل قبيلة ان تعرف نسبها . فتكون واصبح منهم نسابون
اشتهر منهم دغفل بن حنظلة الشيباني . ونتيجة للضلال الديني عند عرب الجاهلية كان بما يعرف علم الزجر " وهو الاستدلال باصوات الحيوان وحركاته وسائر احواله على الحوادث بقوة الخيال والاسترسال فيه ( ١٣ ) .
ومن اشهر الزجارين بنو لهب . ومن العرب من لم يسأم بالزجر وما شاكله كلبيد بن ربيعة القائل :
لعمرك ما تدرى الطوارق بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع ( ١٤ )
وبدون شك فان العوامل المساعدة للدوى على معرفة تلك العلوم طبيعة الصحراء وذكاء البدوي وضلاله الديني
وكان من تنقل العربي الجاهلي في الليل والنهار في هذه الصحراء العربية على السواء . كان لا بد ان يعرف بعض النجوم ليهتدي بها اثناء سيره وترحاله . ولذا فلقد كان العرب يتمتعون بقسط وافر من علم الفلك .
فهذا امرؤ القيس يوقت زيارته لبيته بقوله في معلقته :
تجاوزت احراسا اليها ومعشرا
علي حراصا لو يسرون مقتلي
اذا ما الثريا في السماء تعرضت
تعرض اثناء الوشاح المفصل
ويقول ايضا : ( ١٥ )
فيالك من ليل كان نجومه
بكل مغار القتل شدت بيذبل
كان الثريا علقت في مصامها
بأمراس كتان الى صم جندل
فنرى امرأ القيس يذكر هنا الثريا " والعرب تسمى الثريا نجما وان كانت نجوما وهي اظهر النجوم عند الرائي لانها تظهر للعين ولا تلتبس بغيرها ويقال انها تختفي في السنة اربعين يوما . يسترها ضوء الشمس وتظهر عند دخول الصيف صباحا ولذلك قيل :
اذا طلع النجم عشاء ، ابتغى الراعي كساء ( ١٦ ) .
وان ذكر امرؤ القيس الثريا في شعره انما يدل دلالة واضحة على معرفة العرب بحركات النجوم في ذلك العصر
واستخدم العرب هذه النجوم بمراقبتها لتساعدهم على التنقل في الصحراء المترامية الاطراف وعلى الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر . وقد كان للنجوم - ولا شك - وهي المرشد الوحيد لهم في سفرهم اهمية عظمى حتى استخدموها في امثالهم واقوالهم . ومن حرف الامثال وادلها على دقة ملاحظتهم
لهم قولهم : فأريها السها فتريني القمر " ( ١٧ ) . وكان العربي في عصر الضلالة على معرفة بنجم الثريا والسها والقمر . ومن البدهي ان القمر اوضح هذه الكواكب ولذا فان العرب في الجاهلية كانوا يولون القمر اهتماما خاصا حيث كن الدليل الرئيسى لهم ليس في اسفارهم فحسب بل في تعداد الاشهر والسنين وليس أدل على ذلك من قول الشاعر : ( ١٨ ) .
فلعمر من جعل الشهور علامة
قدرا فبين نصفها وهلالها ( ١٩ )
فمن ذلك يتبين لنا ان العرب استخدموا القمر فعلا في حساب السنين ، واذا استطاع العرب حساب السنين فلا يوجد ادنى شك في معرفتهم كذلك الايام والاسابيع .
وكذلك كان للعرب معرفة بمواقع الغيث وبحركة الرياح وبالجهات الاربع . اما بالنسبة الى معرفتهم لتقسيم اليوم الواحد فيقول الدكتور جواد على ( ٢٠ ) :
لم يكن عرب الجاهلية يعرفون تقسيما عدديا لليوم بالساعات بل سموا فترات النهار والليل تسميات دالة على اختلاف النور والظلام بين لليل والنهار ، مثل الضحى ( بعد مطلع الشمس ) ثم الهاجرة ( اشتداد الحر ) ثم الزوال ( وجود الشمس في نقطة من السماء يقع منها خط عمودى على الارض ) ثم العصر ثم الاصيل ثم الطفل ثم الغروب وكان لفترات الليل عند عرب الجاهلية اسماء من هذا القبيل مثل الغسق والعتمة والفحمة والموهن ( منتصف الليل ) والقطع وغيره من الاسماء . وانه ليرى القارئ ان معرفة العربي لتلك العلوم الفلكية كانت عن طريقة الملاحظة والتجربة
لا قصدا في المعرفة للحقائق العلمية الفلكية . ولقد عرف العرب من اسماء الاعداد الالوف بالاضافة الى غيرها من الاعداد قال الشاعر الجاهلي : ( ٢١ )
انت خير من الف الف من القو
م اذا ما كبت وجوه الرجال ( ٢٢ )
فنرى الشاعر اراد ان يقول انت خير من مليون فكرر الف مرتين لتعطى معنى مليون ، وذلك يدلنا على عدم معرفتهم للاعداد الكبيرة . . وكذلك عرف العرب الجسر وتعلقوا به . " قال الاصمعي " ( ٢٣ ) سمعت اناسا من اهل البادية يتحدثون ان بنت الخس كانت قاعدة في جوار لها ، فمر بها
قطا وارد في مضيق الجبل فقالت :
يا ليت ذا القطا ليه
ومثل نصف معيه
الى قطاة أهلية
اذا لنا قطا مية
وأتبعت القطا فعدت على الماء فاذا هي ست وستون . ولقد عرف العرب الطب فلقد نبغ منهم اطباء في جراحة العين وغيرها مثل الحارث بن كلدة وولده النضر
ولقد كانت عادتهم في الطب ان يمسك الطبيب بيد المريض اولا ليشخص الداء ومن ثم يصف الدواء . . وفي ذلك يقول الشاعر :
يقول لك الطبيب دواك عندي
اذا ما جس كفك والذراعا ( ٢٤ )
ولقد انتشر الكي عند عرب الجاهلية كدواء عام لكل داء . . ومنه مثلهم القائل : " اخر الدواء الكي " .
كما عرف العرب وجع الرأس وهو المصداع الدائم الذي لا يعرف سببه ، وفي ذلك يقول الشاعر الجاهلي الاسمر ( ٢٥ ) ، مفتخرا بنفسه مع التهكم على الاعداء :
وسيفي كان في الهيجا طبيبا
يداوي رأس من يشكو الصداعا
ولقد عرف العربى الجاهلي الكتابة والأمثلة لذلك كثيرة في الشعر الجاهلي . . فهذا عربي جاهلى يقول ( ٢ ) :
وخد كقرطاس الشامي ومشفر
كسبت اليماني قده لم يجرد
و كذلك قال جاهلي اخر ( ٢٧ ) .
الا أبلغ الاحلاف عني رسالة
وذبيان هل اقسمتم كل مقسم ( ٤٨ )
فان ورود كلمة القرطاس وكلمة الرسالة لهما اعظم دليل على وجود الكتابة في عصر الضلالة ، وان لم تكن منتشرة بين العرب جميعهم
ولقد الحب وتعلم العرب في عصر الجاهلية قرض الشعر والبديع من القول ، فنشا الخطباء الفصحاء . وقد كانوا يجتمعون في اماكن خاصة يسمى المكان الواحد منها بالنادي . . ولكن أحد شعراءهم يذكر المكان باسم حلقة القوم :
فان تبغني في حلقة القوم تلقني
وان تقتنصني في الحوانيت تصطد ( ٢٩ )
وجل العرب اهل فصاحة وبيان وليس ادل على ذلك من فهمهم للقرأن الكريم وهو كلام الله لا تستطيع ان تجاريه فصاحة ولا
بيان من اربابها فهذا عمر بن الخطاب يقول في رواية : " فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الاسلام " . ويقال عنه في رواية انه قال : " ما احسن هذا الكلام واكرمه " ( ٢٠ ) .
ولقد عرف العرب نظام الضرائب ولكنه بشكل غير الذي نراه ورايناه في العصور السالفة ، وانما عرفوا نظامها في كرمهم ومساعدتهم الفقير وواجبهم لنجدة المستغيث البائس .
كما كانت العرب في الجاهلية العاب يقومون بها كالفروسية والمبارزة في غير ايام الحرب والقتال .
واختلف الآباء فاختلفت القبائل وكانت الحرب بينهم سجالا ، وحيث ان بعضهم يعتبرها المصدر الرئيسي للرزق فلذا تفاخروا بالشعر وتذاموا :
لو كنت من مازن لم تستح ابلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
اذن لقام بنصري معشر خشن
عند الحفيظة ان ذو لوثة لانا
ولقد كانت بعض الحروب تستمر ثلاثين سنة او اربعين كحرب البسوس ( ٣١ ) وهذا مما يجعل العربي دائم الاهتمام بامور الحرب . فهذا شاعر جاهلي يصور لنا كيفية لقاء العدو المقاتل ( ٣٢ ) .
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى
اذ تقلص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الحرب التي لا تشتكي
غمراتها الابطال غير تغمغم
كما كان العرب يكثرون انفسهم بالتزواج و التحالف لان فى الكثرة القوة والغلبة
ولنستمع الى شاعر جاهلي منهم ماذا يقول وهو يفتخر بكثرة بنى قومه وعشيرته :
ملأنا البر حتى ضاق عنا
ونحن البحر نملؤه سفينا (٣٣ )
أخي القارئ : هذا يسير من معارف وعلوم اجدادنا الغر الميامين وتلك بعض معالم آثارهم وحضارتهم . لنشهد التاريخ ولنرى العالم أجمع باننا اصحاب حضارة .
وانه ان طال الزمن او قصر فلا بد ان نعهد مجد حضارة اسلافنا الاوائل لنمسك مرة اخرى بزمام حضارة العالم ولا بد ان يأتي ذلك اليوم وليس على الله ببعيد وان غدا لناظره قريب .
حازان - المضايا -
