هيهات ان يأتي الزمان بمثله ان الزمان بمثله لبخيل
مثل رفيع جاءت به العرب وعجزت امم الارض ان تجيء بمثله .
قال الحافظ ابو نعيم الاصفهاني في (حليةالأولياء ) حين تقديمه ترجمة عمر بن عبد العزيز : ( كان واحدا في الفضل ونجيب عشيرته في العدل جمع زهدا وعفافا وورعا وكفافا فأشغله اجل العيش عن عاجته والهاه اقامة العدل عن عاذله كان للرعية امنا وأمانا وعلى من خالفه حجة وبرهانا كان مفوها عليما ومفهوما حكيما ) وقال الامام النووي في تهذيب الاسماء ) خلال حديثه عن عمر بن عبد العزيز : ) واجمعوا على جلالته وفضله ووفور علمه وصلاحه وزهده وعفافه وورعه وعدله وشفقته على المسلمين وحسن سيرته فيهم وبذل جهده فى الاجتهاد فى طاعة الله وحرصه على اتباع اثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته وسنة الخلفاء الراشدين وهو خامسهم ( وقد اظهر عمر في خلافته الاعتصام بالكتاب والسنة وجاعد في حمل الناس عليهما واخذهم بها وهو يصور
ولنا شعور سياسته في احدى خطبه اذ يقول : (ايها الناس انه ليس بعد نبيكم نبي وليس بعد كتاب الله الذي انزل كتاب فما احل الله لكم على لسان نبيه فهو حلال الى يوم القيامة وما حرمه على لسان نبيه فهو حرام الى يوم القيامة الا انني لست بقاض ولكنى منفذ ولست بمبتدع ولكنى متبع .
كان عمر بن عبد العزيز قبل ولايته الخلافة يتألم لا نصراف بعض قادة الامة والولاة الى نزعات الهوى فيقول : ) الوليد بالشام والحجاج بن يوسف بالعراق ومحمد بن يوسف اخو الحجاج باليمن وعثمان بن حيان بالحجاز وقرة بن شريك بمصر ويزيد بن ابي مسلم بالمغرب امتلأت الارض والله ظلما وجورا ( واشتهر هؤلاء بالظلم والبغي في ولايتهم وناهيك بالحجاج الظالم الغشوم
فلما آلت اليه الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك كان اول ما بدأ به بعد دفن سليمان المبادرة إلى اصلاح القيادة فدعا بدواة وقرطاس كتب ثلاثة كتب الاول لمسلمة بن عبد الملك بالعودة بالمسلمين وفك الحصار عن القسطنطينية ( وكان مسلمة قد خدع من لروم بطلبهم الهدنة حتى أحرز المحاصرون لعامهم وشرابهم ثم اغلقوها دونه فغضب الخليفة سليمان وحلف ان لا يعيده فاشتد فى المجاهدين المقام هناك من الجهد والجوع لما تولى عمر رأي ان لا يؤخرهم يوما واحدا .
والكتاب الثاني كان يعزل اسامة بن زيد ولآيته لمصر وكان ظالما غاشما .
والكتاب الثالث كان بعزل يزيد بن ابي /
هسلم عن المغرب وكان جبارا يعذب القوم بين يديه اشد العذاب بلا شفقة ولا رحمة ، وبعد كتابته للثلاثة الكتب قربت له ركائب الخلافة فقال : ) نحوها عني ما لي وما لها قربوا لي دابتي ( . وقال لمزاحم ، غلامه : " ضمها الى بيت مال المسلمين ولم يشأ ان يقيم في دار الخلافة التى تسمى الخضراء ( وعدل عنها الى دار صغيرة ثم بدأ برد المظالم الى اهلها . واول ما بدأ بنفسه والخروج من ماله فخرق سجلات مزارعه حتى انتهى الى مزرعة خيبر فسأل عنها من اين كانت لابيه ؟ فقيل له كانت في نخل رسول الله صلعم فتركها الرسول فيئا للمسلمين ، ثم صارت الى مروان ، فاعطاها أباك . فخرق عمر سجلها ايضا وقال : ) اتركها حيث تركها رسول الله صلعم ( ولم يبق الا مزرعة ) السويداء ( فانها كانت ارضا براحا اصلحها عمر من صلب عطائه وكان الوليد بن عبد الملك قد اقطع ابنه روحا حوانيت بحمص فلما ولى عمر جاءه نفر من اهلها يطالبون روحا بها وأقاموا البينة لدى عمر فقال لروح : ) خل لهم حوانيتهم ( فقال روح : هي معي بسجل الوليد بن عبد الملك ! فقال له عمر : ) وما يغني عنك سجل الوليد والحوانيت لهم قد قامت البينة عليها ( فلما خرج روح توعد احدهم فراح الحمصي الى عمر قائلا : هو يتوعدني فقال عمر لرئيس حرسه : اخرج اليه فاسلم الحوانيت لهم فان لم يفعل فاتني براسه) .
وكان سليمان بن عبد الملك قد أمر قبل وفاته بعشرين الف دينار لعتبة بن سعيد بن
العاص ، فدارت الورقة في الدواون حتى وصيت لديوان الختم فتوفى سليمان ولم يختمها وكان عنبسة صديقا لعمر قبل خلافته فلما جاء يراجعه فيما أمر به سليمان قائلا : ( وامير المؤمنين أولى باتمام الصنيعة ، وما يبني وبينه اعظم مما كان بيني وبين سليمان فقال عمر : وكم ذاك ؟ قال عنبسة : عشرون ألف دينار . قال عمر : " انها تغني أربعة آلاف بيت من المسلمين فكيف ادفعها لرجل واحد ؟ ها لي الى ذلك من سبيل ( فخرج عنبسة من عنده ، وأعلم بني أمية بخبره وقال لهم : ) يا بني اهية زوجتم صاحبكم بنت عمر بن الخطاب فجاءتكم بعمر ملفوفا في ثيابه .
وما زال عمر سائرا في عدله وورعه . قيل أتاه رجل بتفاحات كهدية فأبى أن يقبلها فقيل له : كان الرسول يقبل الهدية فقال : " هي لرسول الله هدية ولنا رشوة " ودخل عليه ابن ابي زكريا فقال : يا امير المؤمنين أريد ان أكلمك بشئ قال : قل . قال : انك ترزق العامل من عمالك ثلاثمائة دينار ؟ قال : نعم . قال : ولم ذلك وهي كثير ؟ قال عمر : اردت ان اغنيهم من الخيانة . فقال فأنت يا امير المؤمنين اولى بذلك . فأخرج عمر ذراعه وقال : " يابن ابي زكريا . . ان هذا نبت عن الفئ ولست أعيد منه شيئا . وقال لزوجته فاطمة بنت عبد الملك : " قد علمت حال هذه الجواهر التى عندك وما صنع أبوك وهن أين اصابها فهل لك ان اجعله فى تابوت ثم اطبع عليه واجعله في اقصى بيت مال المسلمين فان احتجت اليه انفقته فى مصالح المسلمين وان كانت قبل ذلك فلعمري
سيرد اليك . فقالت له : افعل ما شئت . ومات عمر ولم يصل اليه فرده عليها أخوه يزيد بن عبد الملك فامتنست عن اخذه فقسمه بين نسائه واقاربه .
نحن فى عصرنا هذا نفاخر باعطاء الموظفين اختصاصهم وعدم تركيز المسؤولية والسلطه فى يد واحدة وقد اخذ عمر بن عبد العزيز بهذا النظام فكتب لعروة والى اليمن يقول : ) أما بعد فاني اكتب اليك امرك بكذا ، وكذا فتراجعنى وانت تعرف بعد ما بيني وبينك ولا تعرف آخذات الموت حتى لو كتبت لك : رد على كل مسلم مظلمته لكتبت الي ، اردها عفراء او سوداء انظر ان ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني
وكتب الى عامله بالمدينة فى المظالم فراجعه فكتبت اليه : ) انه يخيل الي ، اني لو كتبت لك ان تعطي رجلا شاة لكتبت أصغيرة ام كبيرة ولو كتبت لك بأحدهما لكتبت أضائنة ام معزى فاذا كتبت لك بعد هذا فنفذه ولا ترد على والسلام ( .
والدولة اليوم ترى من واجبها ان تتحمل تبعات طلبة العلم ولقد كتب عمر الى عماله يامرهم ان يجروا عليهم الرزق ويفرغوهم للطلب وكتب لوالي حمص يقول : ) انظر إلى الذين نصبوا انفسهم للفقه وحبسوها في المساجد عن طلب الدنيا فاعط كل رجل منهم مائة دينار ( .
وكان يرى رحمه الله ان الدولة مسؤولة
عن اصلاح أى فساد لا يستطيع الفرد دفعه وجاءه رجل فقال : ) ان لى مزرعة بها زروع خربة خربها الجند من جيش الشام فافسدوها ) وبعد ان تبين لعمر صدق مقاله عوضه بعشرة آلاف درهم .
والدولة اليوم ترى انها تتكفل بحماية اموال رعاياها من الفقراء فهذه امرأة من مصر تسمى ( فرتونة ) فقيرة سوداء لها بيت صغير هدم بعض جوانبه ولها دجاجات تستعين بهن على معيشتها ، واللصوص يعتدون على حاجها فسمعت بعدل عمر وحبه للخير فكتبت تشكو حالها وترجوه أن يحصن بيتها لما وصل اليه الخطاب كتب لواليه بمصر قول :( ان فرتونة مولاة ذي الاصبع تذكر ضر حائطها ويسرق منه دجاجها فاركب انت بنفسك وحصنه لها ( . . وهذا مثل رفيع من امثلة الرفق بالضعفاء والمساكين وتعطيل المحسوبية واستغلال النفوذ من أدواء الحكم وعيوب الدولة . والحاكم الذي يفتح بابه أمام اقاربه ومحاسيبه يفتح بلاء على الناس . وعمر بن عبد العزيز حارب . المحسوبية بكل ما استطاع فاستخلص نوق الامة من ايدى الظلمة فى صرامة وشدة
وقد كان رفيقا بالحيوان ايضا ، بلغه ان بمصر لات يحمل عليها ألف رطل فكتب لعامله ره ان لا يزيد حمل البعير اكثر من مائة رطل .
وكان اعرف بمقدار الرجال لا نسبهم حقوقهم حتى لو انصرف الناس عنهم
دخل عليه ابن مورق وهو يعطي العطاء فسأله عمر ( من انت ؟ ) قال : من قريش . قال عمر : ) من أي قريش ؟ ( قال الرجل : من بني هاشم فقال عمر : ( من أى بني هاشم ؟ ) فسكت ابن مورق ولم يجب وخاف ان يحرمه العطاء فاعاد عمر عليه المسألة . فهمس ابن مورق قائلا مولى على بن ابي طالب وكان انصار على مكروهين من بني امية فوضع عمر يده على صدر ابن مورق قائلا : ) يا مولى على ابن ابي طالب حدثني غير واحد انهم سمعوا النبي صلعم يقول : ) من كنت مولاه فعلى مولاه ( ثم قال لمولاه مزاحم : كم تعطى امثال هذا ؟ قال مزاحم : ) مائتى درهم ( قال عر : اجعلها خمسين دينارا لولايته على بن ابي طالب .
وكان عمر لا يرى للشعراء حقا او سهما فى بيت المال لانهم ليسوا من الاصناف التى نص عليها القرآن في مصارف المال . . قيل دخل عليه عون بن عبد الله الهذلى بعد توليه الخلافة قائلا لعمر : ان الشعراء واقفون بالباب . فيقول له عمر : خبرنى عنهم . . فيقول عون : ابن عمك عمر بن ابي ربيعة فيثور عمر ويقول : ذلك الفاسق لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهة اليس هو القائل :
الا ليت اني يوم حانت منيتي
شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهورى كان ريقك كل
وليت حنوطي مشاشك والدم
فليته تمنى لقاءها فى الدنيا على حل وعمل صالح . من بالباب سواه ؟ فيقول عون الاخطل التغلبي . فيقول عمر : عليه اللعنة أليس هو القائل :
فلست بصائم رمضان عمري
ولست بأكل لحم الاضاحى
ولست بقائم كالعير ادعو
قبيل الصبح حى على الفلاح
ولكنى ساشربها شمولا
واسجد عند منبلج الصباح
والله لا يطا بساطى هذا الكافر ، فمن غيره ؟ قال عون : جرير بن عطية الخطفي ، فقال عمر الذي يقول :
طرقتك صائدة القلوب وليس اذا
وقت الزيارة فارجعي بسلام
فان كان لا بد فهذا وأمر بدخوله وأنشد قصيدته التى مطلعها :
ان الذي بعث النبي محمدا
جعل الخلافة فى الامام العادل
وسع الخلافة عدله ووفاؤه
حتى ارعووا وأقام ميل المائل
فقال له عمر : يا جرير اتق الله ولا تقل الا حقا . . تذكر يا جرير ان الله سائلك عما قلت ، واتق الله يا ابن الخطفي ، لا أرى لك فيما عندنا شيئا ، فيقول جرير : انا منقطع
وابن سبيل . فيقول له عمر : لك ما لإبنا السبيل زاد ونفقة حتى تبلغ محلك . فيأمر مزاحما مولاه فيعطيه مائة درهم كانت معه
وانقطع عمر ايام خلافته عن الطيبات واكتفى بأكل العدس والثوم واكتفى باللباس الواحد . . دخل عليه مسلمة بن عبد الملك وهو على فراش الموت متسخ الثياب فقال لزوجة عمر فاطمة : ألا تغسلون ثيابه ؟ فقالت : والله ما له غير هذا القميص .
قيل ان بني أمية دسوا له السم البطئ في طعامه ليتخلصوا منه وأدرك عمر ذلك .
وكانت وفاته سنة ١٠١ ه ومدة خلافته سنتان ونصف السنة تقريبا ، ودفن بدير سمعان ولم يترك ميراثا لاهله وأولاده سوى وإحد وعشرين دينارا . .
وهذا غيض من فيض أوجزناه في مقالنا هذا فلقد حكم عمر بن عبد العزيز العرب والمسلمين عامة حكما راشدا قاصدا قائما على الكتاب والسنة والعدالة والمساواة والاخاء . وأنا نأمل من كل حاكم مسلم فى كل اقليم من أقاليم العروبة والاسلام ان ينهجوا منهج عمر ويتخذوا من سيرته مثلا وقدوة حسنة ، واني لنا ان ندرك شأوه ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله وبالله التوفيق

