الفصل الأول المشهد الأول
ديكور : ملك على أطلال عرش " أعمدة عظيمة " الملك فى صمت يفكر . الزمان : لا شئ يحدد الزمان . المكان : قاعة فى قصر فخم . الهدف : نريد أن نجعل المتفرج يشعر بحقارة الانسان أمام ما صنعه الانسان .
الملك :
( ينهض من تفكيره ويهب واقفا ) ألم أقل لكم ألف مرة لا تتركونى وحيدا ، اننى أكره الانهيار على أطلال عرش . . أحس أنى أشبه هذه الاعمدة فى جمودها المتواصل . . " ولكن لماذا أنا هنا ، نعم لماذا أنا هنا ، هل أردت أن أحبس نفسى بين هذه الاعمدة الساحقة أم هم الذين أرادوا ، يا لهم من جراد . . لماذا أنا هنا ؟ سؤال ما عرفت له جوابا وياله من سؤال غريب أظل أبحث فى الصحراء عن جوابه ، وما إن أجد الجواب حتى أظمأ للخلاص منه ، فهو كالماء المالح تماما كلما ازددت شرابا زادنى عطشا . . . ( يعود الى الجلوس ) أردتم أن أكون ، فها أنا ذا ، وهل يمكن أن لا أكون ؟ قاعتى هذه كابوس مخيف . . بل حياتى قاعة كهذه . . أعمدة ملآى وفراغ مقيت . . أعمدة بلا نهاية كمآسى . أكاد أصبح ذبابة حقيرة بينها ، لا يسمع طنينها أحد ، أرفض أن أكون ذبابة بين جدران عملاقة . . أرفض أن أكون ذبابة . ( تدخل الملكة مذعورة بعد سماع صياحه ) .
الملكة :
ألم يئن لك بعد ان تنتهى - بل أن ينتهى صياحك ماذا تريد يا جلالة الملك ؟ لقد سمعت ما لا أطيق .
الملك : لقد كنت أقول يا عزيزتى أنى أرفض أن أكون ذبابة ، لانه يؤلمنى أن لا يسمع الآخرون صوتى .
الملكة : ( فى تعجب وخوف ) اية كارثة حلت بك ايها الملك أترضى ان تعيش فى غربة أبدية ، لا يراك الآخرون ولا تراهم ، بل لا يشعر أحد بأنك هنا بين هذه الاعمدة .
الملك : لماذا ؟ .
الملكة : إذا كنت ترفض أن تكون ذبابة فستصبح حياتك غريبة عنا بل غريبة عنك أيضا لان الآخرين ذباب لا تعرف الثورة الى قلوبهم سبيلا هم يعيشون فى المزابل يقتاتون القاذورات أما أنت فذبابة أخرى تعيش بين أعمدة جميلة . . . وتريد فيفعل الناس ، وتشاء فيطيع الكون أنت ذبابة متألهة .
الملك : ذبابة متألهة بين أعمدة جميلة ، نعم فهمت ولكن الجمال الساحق يعذبنى يسحقنى ، يدمر فى شعورى بألوهيتى - لو كنت ريحا أبدية تمر على الوجود فتزعجه ، أو سماء لا تنتهى تتحد بالارض فيسجد البشر لعظمتها . . .
الملكة : ها أنت ذا تعود . أيها الملك - الريح تدثر العراء وتملأ الفراغ ولكنها لا تفعل شيئا . والسماء التى تضاجع الارض كعملاق من القش لا تسوى شيئا أيضا ، فنحن معشر الضعفاء نتصور أنفسنا أقزاما ولذلك فاننا نرى السماء عملاقا . . .
الملك : تلك هى الحقيقة يا عزيزتي . . . كم كنت أجتر خرافة سخيفة ، فلتذهب السماء الى الشيطان . . ولكن نسيت أن أقول شيئا . . .
الملكة : ماذا ؟ . . .
الملك : اننى أبغض أن أكون وحيدا ، أريد أن أنتمى . . .
الملكة : سوف أبعث اليك بمن يؤنس وحدتك ويملأ وقتك . . .
الملك : أرجوك أن تفعلى حالا . ( تخرج الملكة ثم تعود بينما يبقى الملك فى ذهاب وإياب ) تحمل الملكة فى يدها مرآة فخمة تعلقها على سارية من السوارى . . .
الملك : ما الذى تحملين الى ؟ .
الملكة : انك ترى ما أحمل اليك . . مرآة . .
الملك : وما الذى تفعله المرآة .
الملكة : لا أدرى ( تنصرف الملكة ) .
الملك : أنا ومرآة . . . بل المرآة والوحدة . . . تأمرنى الوحدة فأطيع ، واذا أطعت أفقد وجهى تلك هى الطاعة . . . فقدان الوجه ثم أقف أمام المرآة مجردا عاريا ككابوس غامض أو كالحقيقة الواضحة ، فاذا بها تزيف كل شئ فى ناظرى ها أنا ذا بوجهى وقلبى معكوسا على صفحتها ليس على من نعمة الحياة شىء ولا أملك من غطاء الانسان رقعة - ان المرآة باب لعالم آخر ، عالم بلا حقيقة - فلتأخذوها ( يلقى المرآة فتتحطم ) . . ( تتعالى صيحات الناس وتأتى لاسماع الملك فى قصره ، صيحات شعب غاضب ) . . .
الشعب : نريد أن نخلع الملك . . . هذا الملك لا يسوى شيئا . . كيف يحطم الملك مرآة . . .
الملك : ماذا أسمع .
الملكة : ( تدخل القاعة ) ثار الشعب يا جلالة الملك . . . لان القحط عم مدينتهم .
الملك : بل خان الشعب إذ أنه لم يعمل لاخصاب الارض .
الملكة : الثورة أو الخيانة . . انها فى الحقيقة حيرة أبدية .
الملك : هما لا تعنيان شيئا أيتها الحبيبة ، فالناس ان ثاروا أو خانوا سيان لدى ، فكلاهما غاضب ، ولكن الذى يهم هو أننى . . .
الملكة : أنك ستنهار .
الملك : نعم أعرف ذلك . . ولكن أكل هذا بسبب مرآة حطمتها . . .
الملكة : بسبب مرآة . . . أتعلم أنك أذنبت حين حطمتها . . . فالمرآة هى الزيف ، ولذا فان الناس وجدوا أنفسهم عراة تجاه الحقيقة فثاروا . . .
الملك : يالهم من جبناء . . . أتفعل بهم الحقيقة ما أرى . . .
الملكة : كل حقيقة تخيف أيها الملك . . .
الملك : ماذا تقولين . . أأنت جبانة كهؤلاء الجراد .
الملكة : أنا خائفة .
الملك : مم تخافين . . تعالى ننسحب من هذا القصر الملعون ، ونذهب الى حيث غربة الانسان ، هناك حيث نقف أمام أنفسنا ولا نرهب الوجود كما يفعلون .
الملكة : محال أن انقل خطاى ، فأما أن أنتهى أو لا أنتهى . . .
الملك : ومع من سوف ستقضين أيامك . . .
الملكة : مع رجل يأبى أن يقول كل شئ ، رجل يحب الليل لانه لا يرى فيه شيئا ، مع ذبابة بشرية . . .
الملك : انك خائنة ، ملعونة . . سوف أجدك راكعة منهارة مثلهم على ذلك الطريق . . سوف تعصف بأجسادكم عواصف الحقد واليأس . . .
الملكة : اننى سأعانق الرجل الذى أعطيته حقيقتى ، وسنصمد أمام هذه العاصفة ، فاليأس لن يعرف الى طريقنا دربا ولن يبنى أمام وجوهنا جدارا . . .
الملك : ( يقهقه ) وجوهكم . . ليس لكم وجوه ولا قلوب ، أنتم أشلاء بعثرتها جحافل الرياح فى أرجاء الكون . . .
الملكة : سوف نصنع وجوها وننحت قلوبا لنواجه العاصف الاكول . . . ؟
الملك : حين تكونون وصلتم الى درجة الخلق ، تكون مأساتكم قد وصلت الى نهايتها ، فأحرى بكم الضرب فى سفوح الجبال ، لا النظر الى القمة فى يأس وحرقة .
الملكة : انصرف أيها الملك الغريب ، أخرج من قصرك الى الحياة السرابية .
الملك : سوف أذهب أيتها الشريرة ( يخرج الملك وتعود صيحات الشعب ) . .
- ستار -
الفصل الثانى المشهد الأول
دكو : بيت بسيط فارغ ليس فيه سوى شماعة عليها عدة شمعات تحترق وكراس عادية من الطراز القديم - نافذة يرى منها جبل شامخ . .
الهدف : نريد أن ننقل المتفرج الى جو يمتزج فيه الواقع بالحلم ( النور أحور شيئا ما ) يجلس على كرسى رجل ذو لحية بيضاء طويلة ويقف خلفه زنجى شديد النظرات .
الزنجى : من سنين طويلة وأنا أقف تجاهك أيها الناسك الشيخ ولم أر قط زائرا يأتى الى بيتك ، هل يخافونك أم يكرهونك ؟
الناسك : تمهل . . انى أسمع وقع أقدام تطرق الارض ؟ . . .
الناسك : أدخل يا ابنى . . اجلس على هذا المقعد ، فأنت أحوج الناس الى راحة الجسد والقلب .
الملك : راحتى أيها الرجل مستحيلة ، فأنا تعبان أبدا ، لا أعرف النوم لقد أتيت اليك من بعيد ، وكانت طريقى اليك مليئة بالمخاوف والصعاب فقد تسلقت الجبل فى صمود وذقت مرارة الوحشة فى صمت ، ما أعسر أن يجلس الانسان فى بيتك مطمئنا - وما أبعد أن يذوى كما تذوى شمعاتك فى ركن مظلم .
الناسك : لا أنكر ذلك أيها الغريب ، فالانسان لا يعانق الدفء فى بيتى الا بعد شقاء يائس - ولذا فانى دائما وحيد ، أنتظر الزائرين القلائل فى جمود الجبل وبرودة الثلج .
الملك : بيتك على قمة الحبل ، والجبل ممتد كالجحيم ونحن كالدلو على فوهة البركان ، يمكننا أن نموت لان النار لا تحفل بالاجساد الصغيرة ولا تستطيع أن توقف تيار السعير المندفع - فنحن فى غياهب اليأس أيها الشيخ .
الناسك : لولا اليأس لما وصلت الى ، لولاه لما ثرت على ضعفك ، لولاه لما أتبعت الطريق الموصلة الى - ولكن نسيت أن أسألك عن سر وجودك . . . أقصد سر وجودك فى بيتى . . .
الملك : جئت لاعرف يا مولاى الناسك .
الناسك : لتعرف ماذا ؟ .
الملك : لاعرف هل يمكن أن أحيا بلا مأساة ، تماما كما تعيش أنت فى ظل سلام أبدى ، لا تعرف من الالغاز كثيرا ولم تستهوك قط أسرار الليل وغوامض النهار ؟ . .
الناسك : نعم ، لك ما تريد يا ابنى . . . فانى سأنسحب الى عالم آخر واترك لك هذا البيت كما هو ، بشموعه المحترقة - فانعم بالعزلة أو فاشق بها .
الملك : العزلة امرأة لا تخون . . .
الناسك : نعم . . . لكم أحبتنى وحنت على تضمنى فى رفق . . ولكنها امرأة مشوهة لا تملك من كنوز الجمال فلسا ولذا فانى اثرت أن أرحل .
الملك : سيكلفك الرحيل ما لا تحتمل . . . الا تدرى أن كل عسير السفح شائك القمة ، ملئ بالمخاوف والصعاب لا يمكن للانسان أن يتعداه .
الناسك : بل يمكن للانسان أن يحطمه . فانى سأحمل جاهدا لنسفه شيئا فشيئا . . .
الملك : ( متعجبا ) وبماذا ؟ . .
الناسك : بازميل . . .
الملك : يا لك من عجوز غبى ، ان الازميل ينحت على الرخام وجوه البشر ، فكيف يستطيع احالة جبل صخرى الى عدم .
الناسك : ليتك يا ابنى تصل الى مخاطبة نفسك بما تخاطبنى به .
الملك : ولم ؟ فانى لم أحاول قط أن أجرؤ على ما جرؤت - والا فأنا مجنون لا يحكمنى العقل .
الناسك : ان مصيرك ايها الرجل جبل صخرى كالذى ترى . . . فاما أن تقف أمامه عاجزا كالطفل حقيرا كالدود متطلعا كالنجم ، واما
أن تتعداه صابرا ، وتحتقره ظافرا ، واما أن تحطمه وأنت فى عظمة السماء وقوة البحر ، تلك هى مهزلة الانسان . . .
الملك : بل تلك مأساته . .
الناسك : سم ذلك ما شئت ولكنها الحقيقة .
الملك : عرفت الجبل الذى ما زلت أمامه . . . وعرفت أننى لا أستطيع المرور فهو يسد طريقى كعملاق بلا رحمة ، فكيف أحطمه كما تفعل . . .
الناسك : فرارك وركونك الى هذا الجحر هما إزميل التحطيم . فاعمل ليلا ونهارا صامتا صابرا قانعا - وانى سأعود بعد رحلتى الطويلة لرؤية ما وصلت اليه وما بلغته - أتركك الآن - ( يخرج الناسك ويبقى الملك والخادم ) .
الملك : ( للخادم ) لماذا لا تقفل هذه النافذة ؟ . . .
الخادم : لا أستطيع يا سيدى ، فالناسك أمرنى بان أدعها مفتوحة ليبقى هذا الجبل نصب عينيك .
الملك : يا للسماء . . . هل يمكن أن أواجه وحيدا ما تفرضونه على أنت وسيدك لقد غيرت رأيى ، لن أبقى فى هذا البيت برهة من الزمن فهو ملعون ، أسمعت ، ملعون كاللعنة نفسها . .
الخادم : تغيير رأيك ليس ذا بال أيها الملك . . .
الملك : ألا يمكن أن أغير رأيى ؟ ؟ . .
الخادم : من المستحيل أن تخرج من البيت ، فالناسك فى سفره الطويل وأنا لا أسمح لك بالخروج - ولو سمحت لك لاذنبت - لانك ستضيع فى قتام الطريق ، وسوف يحطمك الاعصار تحطيما .
الملك : الاعصار أهون على من البقاء معك هنا . . .
الخادم : لقد آن الاوان أيها الملك ، فارادتك لا تعنى شيئا .
الملك : ياله من عالم كالجحيم أيفقد الانسان ارادته ويبقى مصلوبا على إرادة الآخرين - أكاد أعانق الجنون أيها الزنجى . ( فترة صمت يجلس أثناءها الملك على كرسى ) ( لا يزال الزنجى منتصبا
كالتمثال ) . فراغ ثقيل على قلبى ، اننى ميت لم يدفن بعد ، اننى حزين لا بل لا أعرف الحزن ليتنى كنت حزينا حقا ، فالحزن دليلى على أنى موجود ، لكن هذا الشئ الذى أحسه لا طعم له ، لا جدوى لا رائحة ولا لون ، كالعدم ، ينتصب الفراغ من جديد أمامى فأقف منهارا تحت أقدامه - لو انتهيت ، لكننى فاقد الارادة ، أعمى - ليس فى عالمى سوى شموع لا تفنى فهى تضئ أبدا وأى كون تضئ ونافذة أرى خلفها هذا الجبار الممتد يناطح السماء - وأنت أيها الزنجى ، أما تنطق ، فصمتك يزعجنى ويذيب رتابة احساسى . ( فترة صمت ) ( يقف الملك ) . . .
مأساتى أنى بلا مأساة أيها الزنجى ، ألا يمكن أن أجد الملكة من جديد .
الخادم : هل نسيت يا سيدى أنها خائنة .
الملك : لم أنس ذلك ، ولكنى أريد أن تخوننى أمام عينى لاتعذب وعلى بالآخرين أيضا . .
الخادم : لقد ثار الآخرون يا مولاى . . .
الملك : ثورتهم وخيانتهم شفائى الوحيد بل رجائى وأملى ، أريد أن أراهم وأعانقهم فردا فردا ، فهم أنا ، وأنا بدونهم لا شئ .
الخادم : أنسى مولاى أنهم خلف الجبل ، وهو كما تعلم مستحيل المرور . .
الملك : سأحطمه لاراهم ، على بالازميل والمطرقة - ( يأتيه الخادم بما يريد ) .
الخادم : هذا ما يبتغيه الناسك ( يخرج الملك ويبقى الخادم ) .
- ستار -
المشهد الثانى
ديكور : يبدو المسرح مظلما تماما بعد رفع الستار ثم يبدأ النور فى ابراز الاشياء ببطء وتخاذل ، شجرة صغيرة جرداء على اليمين صخرة أو أكثر على اليسار ، جمجمة تحت جذع الشجرة نرى الملك متعبا متهالكا على الصخر .
الهدف الاول : نريد أن يحس المتفرج بأن المكان لا حياة عليه خال من الخصب .
الهدف الثانى : يغمر النور ببطء الموجودات ليشعر المتفرج بأن يوما جديدا عانق الوجود .
الملك : يفيق من نومه بعد طلوع الشمس . على الأرض ظل الشجرة ممتد ) . يوم جديد يطل على هذه الارض القاحلة يوم يمر مسرعا كبقية الايام لكنه يفعل شيئا ، فهو يعطينى أملا جديدا أمل لقاء الملكة ، لا شك فى أنه يوم عظيم - نعم لا شك فى ذلك لاول مرة فى حياتى عرفت يوما جليلا بهذه الصورة ، ولكنى لا أرى أحدا . . وهذا ما ينغص يومى الجميل . . . تذكرت كلهم خلف الجدار ، خلف الجبل ، كلهم فى انتظارى فى انتظار عملى . ( يظهر ظل آخر حذو ظل الشجرة ) .
الملك : لمن هذا الظل يا ترى ، أنا ما رأيت فى هذا المكان أحدا منذ أن حللت به . ( يدخل الرجل الى خشبة المسرح ) .
الملك : من أنت أيها الغريب ؟ . . .
الرجل : كلنا غرباء أيها الملك ، لقد حدثنى الناس فى مدينتكم أنك فى هذا العالم ، فجئت لكى أراك . .
الملك : ومن تكون ؟ . .
الرجل : انسان ظؤه أبدى الى المعرفة . . .
الملك : وما الذى تفعله فى المدينة . . ؟
الرجل : أنحت للناس وجوههم على الرخام ، أصنع فى الليالى الباردة تماثيل وأضعها فى الساحات .
الملك : وماذا يقول المارون بها ؟ .
النحات : يبكى النساء عندما يشاهدنها ، ويصلى النساك ، أما الرجال الاشداء فيلعنونها فى شجاعة الاسد وحسرة الثكلى وعندما يراها الاطفال يرجمونها بالحجارة .
الملك : أهكذا يفعلون بكل ما تخلق من تماثيل ؟
النحات : نعم سوى تمثال واحد ؟ . .
الملك : لمن هو ؟ . .
النحات : للملكة . فلقد صنعتها كما يصنع العنكبوت خيوطه ، وأطعمت صورتها قلبى ووهبت رسمها دمى ، ولما أتممتها وضعت التمثال فى الساحة ليرى الناس ، وجاؤوا كلهم ، وظننت أنهم سوف يفعلون بها مثل ما فعلوه من ذى قبل ، لكنهم سجدوا كلهم الا أنا . . .
الملك : ولماذا لم تسجد أنت . . .
النحات : لاننى عانقت الملكة ليلتئذ ، ووقعت بجانبها فى ذلك الطريق ، فعرفت معها مرارة الانتظار ولا جدواه . .
الملك : يا لها من خائنة جسور ، اذن أنت الرجل الذى حدثتنى عنه ، أنت الذى تحب الليل ، وتسهر كالعنكبوت فى غياهب الظلام ، تظل فى أحضان وحدتك مع تماثيلك - نعم عرفت كل شئ الآن ، ولكن لما أتيت الى عالمى بل الى هذا السجن الفسيح ، كان أحرى بك أن تبقى مع الملكة فى سكينة ودعة ، كان أحرى بك أن لا تفكر فى فأنا منعزل عنكم الى الابد . .
النحات : جئت لاعينك على تحطيم الجبل . . .
الملك : ولماذا لم يأت الآخرون للعمل معنا ؟ .
النحات : ألم تقل فى يوم من أيام حياتك أنهم ذباب وهل يستطيع الذباب أن يتسلق جبلا كالذى يفصلنا عن المدينة .
الملك : وأنا وأنت كيف مررنا اذن ؟ انه لامر عجيب حقا ؟ ؟ . . .
النحات : أنت مررت لانك تريد ، لانك ثرت على أعمدة قصرك ، ثرت على عجزك ، فأنت الارادة ؟ . . .
الملك : وأنت من تكون ؟ . . .
النحات : أنا الانجاز ألم أصنع فى الليل قلوب الناس ثم ألم أنحت وجوههم وهياكلهم على صخر جامد ميت ، أنا الخلق .
الملك : الارادة والانجاز ، نحن لا بد أن نحطم الجبل ، فهيا بنا إلى
العمل أيها الصديق لهو أجدى من التمنى الزائف أو الثرثرة الطويلة . . انه يوم عظيم حقا ، يوم يستحق الحياة فيه - لكم أنا سعيد الآن ، سعيد بأن افعل . . . أشعر أنى أصبح عملاقا قوى العزيمة بما عدت ؛ كنت دودة تزحف على فوهة بركان . . . أنا موجود ، أسمعت أيها النحات أنا موجود ، وسنحيل هذا الجبل الى عدم ان نحن شئنا .
النحات : لا تتسرع هكذا أرأيت هذه الشجرة العجوز . . .
الملك : نعم أراها كل يوم فترتسم بين عينى أشباح لا أستطيع مطاردتها ؟ . . . أرجوك لا تذكرنى بها . .
النحات : هو الزمن أيها الملك . . . فأما أن ننتصر أو لا ننتصر ، الزمن هوة بلا قاع يضيع فى جوفها صوت الانسان .
الملك : اذن نحن أمام عدوين بل جبارين ؟ .
النحات : نعم مأساتنا تلك لا تنتهى جباران يقاومان عملى وعملك .
الملك : الجبل والزمن .
النحات : الجبل والزمن أيها الملك .
- ستار -
المشهد الثالث
الديكور : بيت الناسك الشماعة على اليمين لا نرى أحدا على خشبة المسرح البيت مهمل شيئا ما النافذة مفتوحة ولكننا لا نشاهد خلفها جبلا .
الهدف : يشعر المتفرج بأن ثمة تغييرا فالشموع منطفئة . ( بعد فترة صمت يدخل الخادم بمشعل الشموع ويطفئ المشعل ) .
الخادم : الليل يزحف على العالم فويل للعراة مثلى هؤلاء الذين يشعلون شموعهم ويطفؤونها مرة كل يوم ، هؤلاء الذين يعدون أيام حياتهم عدا رتيبا مملا ولا يفعلون شيئا يا لنا من جحافل جياع على درب مقفر اننا ننتظر نهاية طريقنا التى لا بد آتية سيكون
سدا منيعا محكم البناء ذلك الذى ينتصب نحن نحدق فى عتمة سرمدية وضباب خانق . . ( يطرق الباب ويدخل الناسك وهو يأتى من بعيد ، متخاذلا ) . .
الخادم : ها أنت جئت يا سيدى . . .
الناسك : نعم ، وبعد أن أدمت يدى الطرقات العسيرة وعرقلت سيرى الاشواك وهددتنى الايام بالظمأ والجوع عدت لاستريح من شمس الوجود الملتهبة .
الخادم : لقد أصبح بيتك الجحيم بعينه ؟
الناسك : ما الذى تقول أيها العبد . . .
الخادم : ليست حياتنا راحة فتستريح أو شرابا فتنعم بها ، بل استحالت الى جحيم لا يطاق بعدها سوف نصبح كبقية الناس ، لانهم سيأتون كلهم الى هنا .
الناسك : كيف يستطيع أحد أن يقترب من عالمنا وقد زرعت فيه الحقد بدل الخير والشوك بدل الورد ونثرت على جوانبه الخراب فكان قاحلا أربد .
الخادم : سوف يفجرون فيه عيونا ترقرق ومياها تتدفق .
الناسك : أنسيت أيها الغبى أن جبلا عملاقا يفصل الناس عنا .
الخادم : الجبل اسطورة قديمة لم يعد هناك جبل يا مولاى فانظر لقد غار كما تغور أحقر الاجسام فى الارض الكبيرة فالملك والنحات أحالاه الى عدم مجهول .
الناسك : ظننت أنهما لا يفعلان شيئا .
الخادم : انها القدرة على المستحيل أيها الناسك فما عليك الا ان تمحى آمحاء كاملا انسحب الى عالم آخر ليس به معجزات فلقد طغى الانسان . ( يطأطئ الناسك رأسه ويبقى صامتا جامدا ) .
الخادم : ما الذى وجدناه على أرضك هذه المحطمة ، أشجار عارية لا تعرف الربيع وجماجم موتى قضوا لتعيش أنت أيها العبد نعم انت عبد السماء ، عبد نفسك لانك أنت الذى وهبت السماء
قدرتها عليك وأنا آسف لانى كنت عبدك مدى الايام اشعل شموعك كل غروب وأطفئها كل فجر لقد كنت سيدا وكنت عظيما وإنى الذى وهبت السماء قدرتها عليك وأنا آسف لأنى لا أثور كما فعلوا بالأمس ، أحسست بمرارة الكينونة الفارغة ، فأنا مجرد آلة بين يدى ناسك منعزل لا يحب الآخرين يعشق العراء والخراب ويبنى منهما جبلا يحجب الشمس عن عينيه .
الناسك : ( وهو مطأطأ الرأس لا يرفعه ) والى أين سترحل إن أنت ثرت وتركتنى .
الخادم : سأذهب الى مدينة الملك والنحات وأعيش داخل أسوارها ، فهى أحرى بالحياة من عالمك المنهار أيها الشيخ الغريب .
الناسك : حينما تصل أنت الى هناك أكون قد أصبحت رمادا تبعثره الريح فى أرجاء الخراب ، سوف أحرق بيتى وأحترق .
الخادم : ويتلاشى صوتك فى العاصمة فلا يسمعك الناس ولا تعيك الارض .
الناسك : آن . . . ان ترحل وأموت .
الخادم : وان يشرق على عالمنا فجر جديد . ( يخرج الخادم ) . . .
- ستار -
الفصل الثالث المشهد الأول
ديكور : ساحة المدينة - فوارة بدون ماء فى الوسط - مساكن تظهر فى آخر المسرح . ليس فى الساحة أحد . .
الزمن : ليل ، أضواء خافتة .
الهدف : يشعر المتفرج بأن المدينة فى نوم يضارع الموت . ( شبحان يدخلان خشبة المسرح انهما قادمان من بعيد ) . .
الملك : وأخيرا وصلنا الى مدينة البشر . . .
النحات : ولكنها تنام فى هذه الساعة نومها الخالد ، فلا ماء فى الفوارة .
الملك : انها ظاهرة غريبة حقا ، لم أعهدها فى هذه الحال .
النحات : هى كما شاءت الملكة ، فراغ وموت أبديان ، حتى الناس فانهم ألفوا هذه الحياة المخجلة فهم يزيفون الحقيقة وينامون لا يعتريهم الوجود الحق ، النوم هو الذى يخدرهم فيستلقون على أسرتهم بعد أن يذكروا خرافات الخصب والعطاء .
الملك : هذا هو الموت بعينه . . .
النحات : سوف لن يستيقظ الناس ما دامت تحكمهم زوجتك الخائنة . . .
الملك : ( متعجبا ) انك أحببتها فى يوم من الايام ، ومن العبث أن تنال منها .
النحات : أحببتها حين سجد الناس لتمثالها ، ولكننى كرهتها عندما عرفت حقيقتها ، فهى الضعف فى شكل انسان وهى طريق الناس الى حياة الخمول والتخدير ، يجب أن تعود الى حكم هذه المدينة وبذلك تنجيها من الهلاك ، فهى ستدين لك ما بقيت .
الملك : حسبى أنى حطمت الجبل أيها الرفيق ، فلقد كان يمنع عن المدينة ماء السهل .
النحات : نعم ، انا فجرنا فى قلب السهل عيونا وأصبحت الارض حبلى بالثمار والحياة خصبة بالخضرة كانها عروس فى ربيع لا يأتى عليها شتاء قط .
الملك : حسبنا ما فعلنا .
النحات : كلا يا مولاى ، ما دامت الآلاف تنام فى بيوت المدينة ولا تستفيق من أحلامها السرابية كامل الليل والنهار ، فلا الماء نافع ولا الخير عميم ، فما فائدة الخصب ان لم يكن هناك حصاد ، يجب أن يجنى الناس ما زرعنا ، وبهذا نكون قد أنجزنا المستحيل ، عد الى قصرك أيها الملك .
الملك : لا أعود الى قصرى ما دمت أحيا ، فليكن عرشى منتصبا فى ساحة المدينة عوض هذه الفوارة فسعادتى فى أن أشاهد الناس مسرورين ، وأن أرى الاطفال يلعبون حولى وهم فى بشرهم بالحياة الجديدة .
النحات : سأوقظ أهل المدينة من سباتهم ، سأخبرهم بأنا بعثنا فى
السهل حياة أخرى ، بأنا حطمنا الجبل الذى يفصل الحقيقة عنا ويحجب النور عن أعيننا . .
الملك : نعم ، اجعل ما تريده . .
النحات : ( متجها الى البيوت المطفأة ) أيها الناس ، يا أهل المدينة ، جاءكم ملككم منتصرا ، اخلعوا الملكة ، فهى الخوف والضعف ، ان الملك حقق معجزة الحياة ، فانعموا بها . أفيقوا أيها الناس . . طال سباتكم .
- ستار -
المشهد الثانى
ديكور : نفس الساحة انتصب عرش الملك مكان الفوارة وجلس عليه الملك ، يقف النحات ، الساحة أكثر اضاءة من الماضى ويأخذ الضوء فى التكاثر حتى يقتحم المدينة ويعم الساحة بأكملها . .
الهدف : يحس المتفرج بأن الفجر لاح نوره وابتدأ يوم جديد . . ( فترة صمت ، ثم يمر أمام الملك رجل على كتفه فأس وتمر معه امرأته وابنه ) .
الملك : هل أفاق الناس أيها النحات ؟ .
النحات : نعم أيها الملك ، وهاهم يمرون من أمامك ، قاصدين السهل ليحصدوا ما زرعنا ويجددوا البذر ، لكأنهم بعثوا من جديد ان يومهم هذا لا شك عظيم . . ( يمر رجل آخر مع امرأته ، ثم ثالث مع ابنه وعلى اكتافهم آلات العمل ) .
الملك : ما أسعدنى فى هذه اللحظة . يتناهى الى اسماعهم صوت غريب ، صوت حجارة تتساقط ، صوت تهاطل متتابع ولكننا لا نرى شيئا ) . .
الملك : ما هذا الذى أسمعه
النحات : أخذ الناس يرجمون تمثال الملكة الشريرة ، انهم بذلك يكسرون تماثيل الامس ، ذلك الامس اللعين انهم يتمردون على ضعفهم ، طوبى لهؤلاء أيها الملك . .
الملك : نعم ، انى أحبهم الآن كما لم أحبهم قط فى حياتى ، فليعيشوا كما لم يعيشوا ، ما أروع أن يذهبوا الى السهول يغيرون خرابا وينشرون فى أرجائها وجود الانسان وقدرته . .
النحات : شئ رائع حقا . . .
الملك : سأدفع ثمن ما فعلت غاليا .
النحات : وكيف ذلك ؟ . .
الملك : يذهب الناس الى السهول ليحيوا فى ظل الامن والسعادة ، وتخلو من سكانها هذه المدينة ، وأنا ما الذى يبرر وجودى على هذه الرقعة من الارض أأبقى كى أحكم الاشياء الميتة ، يجب أن أنسحب الى الابد فأنا راض كل الرضى عن نفسى وعن صنيعى .
النحات : الا يمكن أن نشاركهم حياتهم ؟ . . .
الملك : ان قواى انهارت حين حطمت الجبل ، ولم يبق لى الا أن أمحى امحاء كاملا .
النحات : لا أدرى ما الذى أقوله لك فى هذه الساعة . . .
الملك : بجدر بك أن لا تقول شيئا ، فالصمت أعظم لغة عرفها الانسان ولم يعرفها غيره .
النحات : حين أكون صامتا ، معناه أنى أقول كل شئ .
الملك : ان يومى الاخير جميل جدا ، فيه الحب والنور ، كأنى أصبحت أمشى على أوراق الورد وآثار الطيب والعطور . . ان مدينتى جميلة جدا .
النحات : نعم جميلة كالجمال ، ولكن انسحابك يحدث فى قلبى حزنا لم أر فى حياتى حزنا يضارعه .
الملك : لا بد أن ارتحل أيها النحات . . . لا بد أن أضحى .
النحات : وداعا أيها الملك .
( يخرج فى بطء وتثاقل كأن شيئا مجهولا يشده ويعرقل سيره ، وقبل أن يغيب يكلمه النحات ) .
النحات : هل تأذن أن أقيم لك تمثالا فى ساحة المدينة لانك من أجل العظماء . . .
الملك : لا تفعل ذلك ، أبدا . . أبدا . ( ينسحب فى هدوء ) .
النحات : ( يجلس على عتبة العرش تحت أرجل الكرسى الفخم ويطأطئ رأسه مفكرا فى شبه ذهول ) لماذا . . ؟ لم أفهم . . انه يرفض أن أقيم له تمثالا فى الساحة يظل خالدا مع الايام . . . هل هناك فى الارض من لا يحب الخلود ؟ ( فترة صمت يمر أثناءها رجل فلاح وصبى صغير ) .
الرجل : انظر يا ابنى الى الملك العظيم ، فانك لن تنسى مدى حياتك مشهدا كهذا أنظر الى تمثاله فى الساحة . .
الصبى : ( ينظر حوله ) اننى لا أشاهد تمثالا يا أبتى . . .
الرجل : انك لا تراه لانك لم تدرك بعد . . . فالملك منحوت على قلبى وقلوب الناس وهذا ما هو جدير وخليق برجل انسان . . . ( يمر الرجل وصبيه ) . . .
النحات : فهمت الآن . . كل شئ . سألتحق بالملك فى عالم آخر ما أعظم الحياة التى تعلم الانسان ما يجهل . . لاول مرة عرفت حقيقة رائعة ، وعرفت ما نبحث عنه فى صحراء الليالى وجبال الايام ، عرفت أننى أعيش ، وأن هذه الارض خالدة لا محالة .
( يخرج النحات ) ( تطفأ الانوار ) . . .
- ستار الختام . . . -
