عندما ذاع الخبر بان كل من كان فى سن التجنيد عليه ان يتأهب للرحيل ودع ميخائيل اهله مقبلا ابنيه واحدا واحدا واودع زوجته مزرعته الصغيرة نعتنى بها مدة انقطاعة الى خدمة الوطن وليست مزرعته مزرعة واسعة فهى لا تتجاوز خمسة عشر فدانا وهى بعيدة فى ارض نائية جدا فى الرمال لكنها عظيمة فى نظره لانه لم يكن يملك سواها . .
وهذه التوتات التى زرعت بالساحة فى عهد طفولته . . لن تعود اوراقها تغشى غداءه بظلها الوارف عند الزوال ولا تهمس بحفيفها لتنيمه في العشي حين تهوى حدقة الشمس الحمراء من اعلى السماء الى ما وراء السهل غير المتناهي فتتلاشى فى لجج البحار النائية لكن ميخائيل على ذلك كله كان يتغلب على اسف الفراق المرير ويسلى زوجه جازما لها بانه سوف يعود كما كان يجد فى نفسه قوة تجعله يمزح قائلا انه سيعود حاملا وسام الابطال كما عاد أبوه فى عهد غزاة بسنية (Bosnie) غير مكذب انشودة الوداع في قولها :
سأعود
بوسام الشرف
يا ملاكى الصغير
لا تزوج منك
... ويتقدم والثقة ملء نفسه يتقدم فى الهواء البارد عند ولادة الفجر لكنه ما يكاد يصل آخر منعرج طريق يمكنه منه ان يتطلع الى زوجته حتى يقف وينظر الى الوراء ويهمس فى نفسه :
- باركك الله يا زوجتى العزيزة . . باركك الله يا اسرتى العزيزة ثم يواصل سيره باعثا لآخر مرة الى منزله بزفرة طويلة مديدة
لا يبقى ميخائيل مدة طويلة مع هواجسه اذ ياتى الى الطريق الكبيرة من جميع النواحى من المسالك الصغيرة الممتدة بين الاكواخ ومن السكك الغائرة فى الاراضى الندية ياتى رجال قاصدين مثله انى يدعوهم الواجب
وسرعان ما يتجاذبون اطراف الحديث عن العدو الذى يجب عليهم ان يزحفوا عليه وعن المكان الذى سيكون الامر فيه جدا اعنى الحين الذى لم تعد فيه وظيفة الجندى تمرينا سلميا ... وكانوا يظنون ان اعداءهم سيكونون اما السرب ( ( Le Serbes و اما الروس لكنهم اطمأنوا فى آخر الامر عندما مر على بالهم انهم لا محالة سيخبرونهم بالامر هنالك عند وصولهم
وعندما فرغ الجنود من ترتيب اثاثهم فى عربة القطار امكنهم ان ينقطعوا مليا الى التفكير طيلة المسافة كلها لا سيما ميخائيل فقد وجد الوقت الكافي للتأمل على غرار نفسه فى القدر واسرار الحياة الانسانية ثم امتد ذلك الغوص الباطني شيئا فشيئا الى جميع طيات نفسه الخفية فبدا له انه اقترف ذنبا قبل ان يبارح المنزل اذ كان عليه ان يودع جاره ماتياس بودو (Mayso) ليسود طيلة غيابه وتحمل زوجه وحدها رعاية الارض واستغلالها ليسود اذ ذاك بينهما السلام والوئام ولئلا تستمر اية حيلة من حيل سوء الجوار ولم يكن في الحقيقة ماتياس جار سوء لكنه وزوجته كانا مخطئين فيما كانا عليه من شديد الضعف وقلة الصرامة ازاء ما يبديه ابناهما الشقيان من سفه ووقاحة ذانك الابنان اللذان ما كان يبلغ بهما الامر الى السرقة لكنهما كانا يتسلقان خفية سياج المكرمة (Vignoble ) ويأخذان فى هزهزة شجيرات الكروم ليتسنى لهما ان يشاهدا العنب يتعفن على التراب وكانا عند حراستهما الفرس يطلقان له العنان فيدخل زرع الغير وكانا مع ذلك يلعبان بالطين الصلب المجفف في الشمس فيصنعان منه كرات يقذفان بها بط الغير واوزهم فيقتلانها احيانا ولقد تعهد ميخائيل بتاديبهما فى بعض الفرص على تلك القبائح لذلك كان عليه ان يدخل قبل الرحيل على ماتياس بودو ليلتمس منه أن يعترف على الاقل بالحكم الالاهى فيمنع من ذلك الحين ابنية الشقيين من تعاطى الاعمال الغريبة ولو مدة بقائه على الحدود فى خدمة الوطن فحسب ...
وحدث ان واصل الجنود تقدمهم بينما بقى ميخائيل مسمرا فى مكانه مكسور الركبة ولو لم يكن لحسن الحظ " ملتقطو الجرحى " لبقى هنالك يبلله دمه
وبهذه المناسبة نشات صلة صداقة بينه وبينهم لما احاطوه به من لطيف الاعتناء اذ اخذوه من ابطيه وحملوا ركبته المكسورة بما تستدعيه من الحيطة والحذر واركبوه سيارة المستشفى وذهبوا به الى الضابط فتمكن ميخائيل من رتق حاله على وجه ليس بالحسن ولا بالسىء لكنه لم يعد صالحا للجندية اذ اصبحت رجله المجروحة اقصر من رجله الاخرى فقال متعجبا :
- انا .. أنا اصبح غير صالح حقا بينما كنت اغتبط اشد الاغتباط فى حالة القتال
... عندما ارسى القطار بميخائيل فى المحطة المقصودة اخذ فى الرجوع الى المنزل واذ انه كان مقاتلا خالص الضمير صادق الانقياد بدأ بالاستئذان من الثكنة فى ان يسمح له بالعودة الى اهله بزيه العسكرى ليتجاوز نظر الناس عكازتيه الى تامل لانجومه الثلاثة فحسب بل حتى وسام الحرب ولم يكن من العادة المعمول بها فى اقليمه ولو عند شيوخ ارياف بسنية ان تحمل الاوسمة على الزى المدنى
... وكانت البلاد اليوم اجمل مما كانت عليه السنة الماضية زمن الوداع ولم يشتغل الناس بالحصاد بعد فكانت اشعة الشمس تمر بلطف على السنابل المتمايلة التى كانت تموج على هبوب نسيم لطيف
وعند منعطف من منعطفات الطريق توقف ميخائيل فجأة وقد توتر جسده على عكازتيه واشرأب عنقه كالداية المحبوسة ثم نزع قبعته .. لقد لمح مزرعته فهمس - يا رب ايها المسيح الحنون لقد اعدتنى الى اسرتى الصغيرة اجل لكن كم ستعترضه من منغصات اذ ما كاد ينتهى الى المزرعة حتى تمكن من رؤية ابنى ماتياس بودو الشقيين وهما لا ينفكان يقذفان بطه فى الغدير وما من شك فى ان البط بطه اذ كانت تلوح على رؤوسها سمات زرقاء فاندفع الاعرج على عكازتيه شاتما صاخبا ففر الصبيان مذعورين لكن ميخائيل تمكن من رجم احدهما باحدى عكازتيه وهو يصيح :
- يا كلب يا خنزير . . . آه . . تسئ الى بطى . . انتظر . . انى لقاتلك . . انتظر قليلا انى لقاتلك بعكازتى
وكان ماتياس بودو خارجا اذ ذاك من منزله فامكنه ان يحضر فرار ابنيه السريع فتقدم ميخائيل عارجا حتى العكازة التى قذفها فاخذها ورفعها فوق رأسه مشيرا بها الى ماتياس من خلف الطريق قائلا :
- آه ايها الهدرة لقد كانت رجلاك تتنعمان بالدفء عندما كنت انا بعيدا هنالك وها انا اعود الى منزلى بعكازتين غير انى قتلت اربعين روسيا واسرت ثلاثين وأظن انى ما زلت قادرا بعون الله على تهشيم رؤوسكم جميعا بعكازتى . . آه . . . انكم سوف تعلمون جزاء الاساءة الى بطى
فاختفى ماتياس مذعورا وكانت زوجة ميخائيل فى نفس الوقت وراء المنزل مشتغلة بتقويم الكروم اذ سمعت دوى صوت صاخب تبينت فيه صوت زوجها فاندفعت نحو الطريق تصيح بجميع ما لها من قوة
- زوجى هذا زوجى وما كادت تمضى لحظة حتى كان امامها متكئا على عكازتيه فانتزعت يده من ذلك الحطب المؤلم وقبضت عليها ورفعتها الى شفتيها فقال : - لم اعد قادرا على تسلق سلم الطبقة لاتيك منها بالشحم
قالت : - سافعل ذلك عوضا عنك
قال : - لم أعد قادرا على دفع المحراث الى الامام
قالت : - سافعل ذلك عوضا عنك
قال : - أأنت لا تزالين اذن ترغبين فى
قالت : - انت كل شىء عندى وانت الوحيد الذى له فى نظرى قيمة
قال : - طيب الحالة اذن حسنة
وجلس على جذع شجرة أتلفها العفن فحطمها ميخائيل السنة الماضية لكن فى ذلك الحين نفسه اندفعت نحوه بنته الصغيرة وهى شقراء تبلغ من العمر ثلاث سنين فدست رأسها الى النصف فى صدر أبيها واخذت تخاطبه بلهجة صبيان الريف :
- يا ابى الصغير قص على شيئا من اخبار الحرب قل قل فضحك ميخائيل وهو جالس على جذع الشجرة وقال : - ساقص عليك . . ساقص عليك واعلمى ايها الصبية ان لى منها ما سيكون زاد فصل الشتاء كله ... لكن لنبدأ قبل كل شىء بمشاهدة المزرعة فتقدمت زوجته وعليها علامات العذاب قائلة
- الا تريد ان تاكل وتشرب وتستريح قليلا قبل ذلك ، ان لى قليلا من الخمر وشحما وفلفلا اخضر مشويين وخبز حنطة طريا قد انضج البارحة . . ما اسعدنى . . زوجى . . زوجى العزيز قد عاد الى فقال ميخائيل فى بساطة مقاطعا : - لنذهب قبل كل شئ نشاهد المزرعة
