محاولة فى ابعاد حركة غير العمودى والحر عن الشعر المنثور
" زيتونة لا شرقية ولا غربية "
ذلك ما يجب أن نسلم به لشعر " غير العمودى والحر لانه قد عن لبعضهم أن يلحقه بقصائد النثر فى لبنان أو " قصيدة النثر " فى الادب الفرنسى
والحقيقة أن قصيدة النثر فى لبنان هى حركة متأثرة بالحركة الغربية قلبا وقاليا وقد يكون السبب هو اطلاع اللبنانيين على الادب الغربى وتأثرهم به تأثرا مباشرا .
والقصيدة النثرية تمتاز بكثافة وفكرة قائمة بذاتها وهي حسب تعريف للشاعر ادونيس " شاملة متمركزة كثيفة ذات اطار هى عالم مغلق . . . وكتلة مشعة بلا نهاية من الايحاءات قادرة أن تهز كياننا فى أعماقه ) 1 ( وهي وان امتازت بهذه الكثافة والايحاء فانها خالية تماما من الموسيقى وهذا ما من شأنه ان يبعد غير العمودى والحر عن الشعر المنثور لان غير العمودى والحر ) ما اطول هذه التسمية سامحكم الله ! ( يمتاز - رغم هجره للعروض والتفعيله بموسيقى داخلية هي تطور حقيقي للشعر هذا التطور الذى " يقع على صعيد الموسيقى الشعرية " ) 2 ( وهكذا تم هذا التطور لغير العمودى والحر بالتخلى عن العروض تماما . ومحاولة إيجاد موسيقى أخرى وذلك لكى لا يتسم هذا الشعر ولا يلحق بالنثرية البسيطة وفي هذا المجال نذكر محاولات الشابين ابن عمر وبوحوش بمجلة الفكر لايجاد أو استخلاص موسيقى شعرية جديدة وعلى القارىء الرجوع اليها ) 3 (
وفي الحقيقة فان هذه الموسيقى المتحررة موجودة فلعلا فى هذا الشعر وهى تتمثل سواء فى القافية أو فى الكمية الصوتية للمقاطع التى يأنس اليها السمع اذا تجرد من موسيقى الخليل فلنستمع الى هذا المقطع من قصيد جسمك ) 4 ( للزناد
جسمك تجسيمى وتقسيمى
جسمك تقويمى وتنظيمى
جسمك تسميمي وتنويمي
جسمك تطعيمى وتنغيمي
فلا يكاد يمر الست " الاول حتى تتوالى الابيات على نفس النغمة مما يخلق توقيعا موحد وقافية ) فى أول البيت وآخره ! ( نسأنس بها شيئا فشيئا والأمثلة كثيرة فى هذا الصدد ، وانما الذى أردت أن أبينه هو أن غير العمودي والحر يختلف عن القصيدة النثرية بمحاولة الالتزام بموسيقى خاصة كما ذكرنا .
أما القصيدة النثرية فانها فاقدة للموسيقى ولو الداخلية . يقول أنسى الحاج وهو من رواد القصيد النثرى . متحدثا عن المرأة :
طلعت من فخذ الهاجس اليك وأسطورتى ترن على بلاط الليل .
اسكتيني يا من تزينها قشعريرتى
ولينطلق عرسنا من الابواب الاخرى . . ) 5 (
هذا هو القصيد النثرى فهو حقيقة يعبر عن عالم مظلم متشائم نوعا ما بدون أية نغمة مميزة . بل هو نثر يمتاز عن النثر بضبابية قاتمة ورؤية بعيدة واحساس عاطفي . ولكنه لا يصل الى مرتبة الشعر اذا اعتبرنا موسيقاه .
ولعل ما يقرب بين القصيد النثرى وغير العمودى والحر هو هذا الكيان القائم بذاته فالقصيدة فى كلا الشعرين لاتفهم على كونها أجزاء ورؤى متعددة بل هي كائن قائم بذاته وبكل عناصره وأجزائه
الا ان ذلك ليس من الاسباب المقربة بين هذين الشعرين لانها تنطبق على انواع أخرى من الادب كالتجريدى والفن للفن بقدر ما
والمطلع على الشعر النثرى وخاصة قصائد أنسى الحاج يلاحظ أن هذا النوع من الشعر مفرط فى " الانا " فهو يمثل عالما داخليا نفسيا يتسم بالرفض والتغيير ولكن على صعيد واحد يخص الشاعر وأحاسيسه النفسية الخاصة ، والصور التى يأتي بها انسى الحاج صور داخلية مغلقة وقاتمة .
فهو يحاول فى كل ما يكتب أن يخرج من حالة هو فيها كالتفكك والوحدة والجنس والصمت والتناقض وغير ذلك يقول فى قصائد من ديوانه " لن " :
" اهرب أين ؟ . . . ) 6 (
" أختبئ تحت امرأتى انفعل واشتعل "
ويقول فى قصيدته " لن "
" ارخيتنى ياقشة البحر لم ترخينى ، لا فرق اغرق فهذا هو ، أغرق أو أحلق أو أنام . لا وجهة لا وجهة استوطن العافية ، اهتك الستر . . "
وهكذا نلاحظ هذا العالم الذى يعيش فيه أنسى الحاج رائد القصيد المنثور فى ديوانه " لن " وفى الديوان " الرأس المقطوع " ) ( لا يتخلص الشاعر نفسه من أفكاره القاتمة بل ويعززها بثورة ولا يكون نصيبها الا الفشل والسخرية دائما .
أما فى قصائد غير العمودى والحر فاننا نلاحظ تعلقا بالحياة رغم مهازلها ومشاكلها بل ونجد محاولات لتغيير الوجود تغييرا جذريا .
عذبة عذبة عذبة
كانت ممرضتى
ترشنى بضحكتها الصباحية
ترشني كل يوم
تحنو على
وكنت مغتربا حزين
ذلك ما قاله الهمامى وهو على فراش مرضه ( 7 ) وهذا ما تقوله فضيلة الشابى :
فلسطين
إنا هنا
فلسطين
إنا هنا نقتات بالجوع . . بالحنين ..
فلسطين
سوف نفتك بالحقيقة
من جوف السنين ! ) 8 (
وهدا فان عير العمودى والحر متفتح على العالم وعلى مشاكله وان لازمته ضبابية وانقسام فانما هما من جراء ما يحيط بالعالم من هول ودمار .
وهناك نقطة أخرى أريد التعرض لها وهى مشكلة اللغة فهي تختلف في كلا الشعرين
اللغة فى غير العمودى والحر سهلة بسيطة خالية من الكليشيات القديمة فيها تفجير وخلق لصور باطنية وخارجية . وهى لغة تخاطب ايضا أفراد الشعب وتنزل الى مستواهم ) 9 ( وتتحدث عنهم
بينما اللغة فى القصيد النثرى لغة مبهمة تارة صافية تارة أخرى " ارستقراطية " محملة بكثير من المعانى التى يفرضها الشاعر عليها حتى يجعلها نمامضة غريبة . ومنفصلة تعبر عن لحظات غير مرتبطة :
" منعت النساء من الانتحار بالحية ، رميت الرسائل الزرق بالرصاص بعد ما الحاكم محاها . وفى الساحة كبتوا النار بالزيزفون ، وعند المساء لم يبق . نعس العالم ونام .
خرج العاشق من السيف " ) 5 ( من هنا وجب على كل ذى بصيرة أن ينقطع عن الادعاء والقول بأن غير العمودى والحر هو نثر بحث . نعم انه غير عمودى وغير حر وغير نثرى ايضا . وان وجدت له تسمية فهى حتما لن تكون تسمية من قبل الشعر النثرى لاننا بينا فى مقالنا هذا عدة فوارق بين هذين الشعر بن أهمها تلك الموسيقى الباطنية التى يتمتع بها غير العمودى والحر . وقد كثرت هذه الايام الاراء حول تغيير اسم هذا الشعر لانه منفي أولا وطويل ثانيا والكلمة لاصحابه على ما أعتقد .
باجة فى 30-3 1971
