" جرى هذا الحوار الممتع بين ثلاثة اصدقاء ادباء فآثرنا نقله حرفيا لقراء المنهل تكملة لفكرة الشهر الاقتصادية "
سمير : من رأيى ان اتصال جزء من وطن ما ، بالخارج فى مواصلاته بواسطة الخطوط الحديدية اجدى نفعا لذلك القسم من اتصاله بجزء اخر من الوطن ، لان اتصاله بالخارج يفيض عليه خيرات تنعشه وتنهضه اذ تتدفق اليه الجماهير وتقطنه فيكون بينهم وبين المواطنين تفاعل حيوى ، وبذلك يرتفع مستوى الحياة فى الوطن ويزخر بالسكان وتتزاحم فيه الاقدام على طلب الرزق ، ويكثر تبادل المصالح بينه وبين العالم الخارجي
عارف : أرى غير ما تراه ، فارتباط جزء من وطن بجزء آخر منه بالمواصلات الحديدية أوسع فائدة للوطن عامة ولذلك الجزء خاصة مما إذا ارتبط بالخارج ، فذلك الارتباط سيكون نواة لانشاء شبكة من خطوط مماثلة تنتظم المدن والقرى والبادية فى دائرتها وتكون لحياة البلاد ونهضتها كالشرايين فى الجسم التى تمده بالأيد وتفيض عليه الحيوية والاشراق
وليس نفع هذا الارتباط " الداخلى " مقصورا على الاقتصاد فحسب : بل انه يشمل الاقتصاد والعمران والاجتماع وسائر وجوه التقدم ، ذلك انه اذا انتظم هذا اللون الحديث المواصلات في بلاد متنائية الاطراف ، متنوعة الطبيعة، من خصب وقاحل ، وعامر وغامر ، فان الخصب يفيض بمنتوجاته على القاحل ، والعامر تتمدد عمارته الى الغامر ، وخذ مثلا النتاج الزراعي إذا وجد في قرية
ثانية كانت مختصة به ، فانه على ضوء اتصالها بما سواها اتصالا منظما سريعا تصدر نتاجها الى المدن والقرى التى هى بحاجة ماسة اليه ، فيستفيد المزارعون بما يتسلمونه من أثمان بضاعتهم ويستفيد المستهلكون بما يتلقونه من نتاج وطني غير باهظ الاثمان وفي الحالتين لا تطير الثروة من البلاد بل يخرج من شمال إلى يمين أو من يمين إلى شمال ؛ لتزكو وتزكى الحياة والخصب والعمران .
هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فان شبكة الخطوط الحديدية الداخلية ستنشا لها محطات في مواقع معينة متقاربة ، لتزويدها بالوقود والماء واللوازم وبهذه المحطات تتجمع بطبيعة الحال كتل صغيرة من الافراد ذوى المصالح ، وهذه الكتل الصغيرة ستتسع تدريجيا فتكون منها قريات ، وستتحول القريات إلى قرى ، والقرى إلى مدن عامرة ، كما حصل في امريكا مثلا ، وبذلك تنشأ صناعات جديدة ومصانع ، وزراعات ومزارع ، وتجارات ومتاجر ، وسيلحق بهذا كله حركة ثقافية ناشطة ، وحركة اجتماعية تقدمية ، وتمدد فى العمران جميل ، وسيتم ذلك سريعا ، لأن سرعة العمران وبطاه مربوطان بعجلة المواصلات سرعة وبطئا ، ولأن الحافز الأول لسرعة العمران واقف بالمرصاد ، ألا وهو حفظ ثروة البلاد في داخل البلاد ، فيد وطنية تسلم محصولاتها الى يد وطنية أخرى بتعويض نقدي وطنى ، وهذه النقود تستعمل فى صالح البلاد متنقلة من هنا إلى هنا تنشر الحركة والنمو والتقدم
ومتانة المواصلات الداخلية بشبكات الخطوط الحديدية تكفل انثيال الجماهير العاملة من الخارج اليه ، لان الانسان ، ظل تابع لمصالحه فى الارض وحسبنا شاهدا على ذلك عمران امريكا بمختلف المهاجرين الذين جاؤا اليها من اقطار العالم ، بعد ان قام الرواد الاولون والتالون لهم بمهمة تعميرها على اساس مد الشبكات الحديدية فى ارجائها ، فلقد عمرت امريكا التى كانت قاحلة بالسكان ودارت عجلة الحياة الضخمة فى انحائها بشكل لم يسبق له مثيل ، حتى اضطرت اخيرا الى ايصاد ابواب الهجرة ، لأن القارة على اتساعها قد اصبحت مكتظة بالسكان مستفحلة العمران .
سمير : إني وان كنت اعترف بمزايا الاتصال الداخلى فانني لا زلت على رأيى من أن الاتصال الخارجي لبلد شحيح الموارد قليل القطان اعمل نفعا له من الاتصال بمدن داخلية اخرى مماثلة له ، إذ إن الخارج يغذيه بالسكان العاملين ، وبالثروة التى يجلبونها معهم ، وبالمنتوجات التى يوردونها اليه فينتعش البلد ، اقتصاديا ، ومن انتعاشه هذا يفيد زميلاته المدن الداخلية الاخرى فيسري اليها ما سرى اليه ويعم العمران ويتقدم الاقتصاد والبلاد ، فالميزان التجارى معلق فى ارتفاعه والخفاضه بالمواصلات مع الخارج في كل قطر من اقطار العالم ، وما انتعش وطن الا بمواصلاته مع الخارج فمنه ترده الصناعات والصناع ، ومنه يستقبل الوجوه الجديدة والافكار الجديدة ، والأعمال الجديدة . ولن يتم ابلد انتعاش سريع إذا قصر اتصاله بالداخل في حالة معينة
عارف : وانا كذلك ، لا انكر مزايا الاتصال الخارجى ، خصوصا وإن العالم اليوم قد اصبح حلقة متماسكة ، ولكن ارجو ان تتذكر ان القانون الاقتصادى يقرر ان البلد المنتج القوي اذا احتك به اقتصاديا ، بلد غير ذي نتاج ، فان سيل القوى يطغي على الضعيف بموارده وهنا يكون استنزاف الاموال إلى الخارج ؛ وهنا يكون غنم وغرم ، غنم للخارج المصدر ، وغرم على الداخل المورد ، وإن ما تشير اليه من حصول ثراء مستجد لبعض اجزاء سبق اتصالها بالخارج هو لا شك مزية طيبة من مزايا الاتصال الخارجى ولكننا اذا عمقنا الفكرة نجدان ذلك الثراء ثراء سطحي زائف لم يتناول مقدرات البلد الحقيقية ، فلم ينقله من فقره وركوده الا الى غنى وحركة موقوتة محدودة لا عمق فيها ولا سموق ، وآية ذلك عودة البلد الى فقره بمجرد أفول ظل ذلك الاتصال ، فلو كان الاتصال تناول شرايين الحياة فى البلد لاستقرت جذوره ولنماوسما وضخم بحيث لا نستطيع اخف العواصف ولا أثقلها أن تأتي عليه من أساسه ، ولاستطاع أن يقاوم تيارات الانكماش كما فعل كثير من البلدان التى قاومت التوريد الخارجي ما استطاعت واكتفت بالاتصال الداخلى ما امكن لها ذلك لقد تضخم سكان ذلك البلد في الفترة المعينة فى ظلال الاتصال الخارجى ولكن
مواردهم المحلية نضبت بهذا الاتصال وغمرت بفيض الموارد الخارجية فكانوا موردين وعاش غيرهم على اكتافهم مصدرين
موفق : وانا ايضا لا أرى ما يراه عارف لا شك ان الاتصال الخارجي بخطوط الحديد اهم نفعا من الاتصال الداخلى فى حالات معينة ، لانه اسرع الى ايجاد انتعاش اقتصادي وعمراني في البلد الذاوى
عارف : ان انتعاشا تعقبه هوة انتكاس لحري أن يسمى افلاسا وخواءا والبلد الطيب هو الذي يخرج نباته باذن ربه . وقد عرفت الدول مزايا الارتباط الداخلى فبنت على أسسه دعائم اقتصادياتها واستكثرت ما استطاعت من ربط أجزاء اقطارها بعضها ببعض بشبكات الخطوط الحديدية ، فدخلت بلدانها فى دور جديد من الرفاهية على قدر اتساع دائرة شركات الخطوط الممتدة فيها ، ولم تكتف بذلك بل عملت على مقاومة ضغط الاتصال الخارجي الذي يفضي حتما إلى استقبال وارداته الفياضة الرتيبة كل حين ، بفرض الحماية الجمركية وبمختلف الوسائل التى تؤدى الي الاكتفاء الذاتي بقدر الامكان
قال سمير : فاذا أخذنا برأيك وكثرت المنتوجات الوطنية الزراعية مثلا فى الداخل فان قطارا واحدا تملؤه بالحبوب ليغرق مدينة باسرها فماذا نعمل بالفائض الضخم من هذا النتاج ؟
قال عارف : ماذا نعمل ؟ ! . نصدر الفائض حالا وبكل سرور إلى الخارج فنكون مصدرين ، وتزيد ثروتنا وتتقوي دعائم مستقبلنا على اساس اقتصادي مكين ، اسوة بشعوب العالم المتوثبة إلى المجد . ) ما فاض عن الداخل يصدر إلى الخارج ( .
قال سمير : فاذا لم يكن ارتباط خارجى بالخط الحديدي فكيف يصدر الوطن المنتج بضائعة الفائضة الى الخارج بسهولة ؟
قال عارف - كيف يصدر ؟ ! . . يصدر بالطرق البحرية ، التى هي طرق التجارة الحديثة فى جميع انحاء الدنيا اليوم .
وإلى هنا ) وقف جواد هذا الحوار ( إن صح هذا التعبير ، وانصرفت ) اعناق ( الحديث الى ابواب أخرى من القول ؛ والحديث دائما ذو شجون " صورة طبق الأصل "
