الادب حالات وأطوار . قد يكون ثمرة المعاناة الشاقة بل الصراع العنيف مع الموضوع فكأنما الكاتب اذذاك ينحت من قلبه وهو اشبه بالمثال يقارع الصخر بالازميل يجهد ان يهبه شكلا ومعنى . فكانه فى دجنة يتحسس طريقه ، لا يهتدى اليه الا لماما . سيرا وئيدا بطيئا . ان آنس من الموضوع امكانا تصدى له وشد عليه شدا واذا وجد منه تعذرا او شموسا أدبر عنه الى حين . وهكذا كر وفر . حرب سجال . تعنت واصرار . رغم وطأة الضجر وتوالى الاخفاق . لا يني يعالجه يتمرس به حتى يذل له وينقاد ويضئ الطريق ويتضح الهدف والغاية فيفئ الكاتب الى الراحة ساعة كمن تسنم عقبة كاداء ويطمئن الى نهاية المسعى وسلامة الطريق
وصف القدامي هذه الظاهرة على طريقتهم فشبهوا الشاعر حينا بالصياد يترصد لطريدته يخاتلها يراوغها مراوغة يسهر الليل جراها ويصطبر
أبيت بأبواب القوافى كأنما أصادى بها سربا من الوحش نزعا
أكالئها حتى اعرس بعدما يكون سحيرا او بعيد فأهجعا
وشبهوه حينا أخر بصاحب الثقاف يعكف على قناته يسويها حتى تخرج من يده رمحا سويا أنيقا
وقصيدة قد بت اجمع بينها حتى اقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف فى كعوب قناته حتى يقيم ثقافة منئادها
كما انه شبه بالراعي الحاذق اللبيب لا تعييه سياسة القطيع الوافر الضخم على ما يلقى فى ذلك من عناء وجهد . قال بعضهم فى هذا المعنى يصف مظهرا من عملية الخلق الادبى :
" ينبغى لصانع الكلام ألا يتقدم الكلام تقدما ولا يتبع ذناباه تتبعا ، ولا يحملة على لسانه حملا ، فانه ان تقدم الكلام لم يتبعه خفيفة وهزيلة وأعجفه والشارد منه . وان تتبعه فاتته سوابقه ولواحقه ، وتباعدت عنه جيادة وغرره .
وان حمله على لسانه ثقلت عليه اوساقه وأعباؤه ، ودخلت مساويه فى محاسنه . ولكنه يجرى معه فلا تند عنه نادة معجبة سمنا الا كبحها ولا تتخلف عنه مثقلة هزيلة الا أرهقها . فطورا يفرقه ليختار احسنه ، وطورا يجمعه ليقرب عليه خطوة الفكر ، ويتناول اللفظ من تحت لسانه ولا يسلط الملل على قلبه ولا الاكثار على فكره . فيأخذ عفوه ويستغزر دره ، ولا يكره أبيا ، ولا يدفع أتيا . "
كل ذلك يشير الى ما يلقاه الكاتب أحيانا من العنت والضيق فى ابراز ألائر الفنى من معدنه والى ضرورة الجمع - اذ ان للكتابة سياسة خفية المعالم متشعبة المسالك - قلت ، الجمع بين الحزم والرفق واليقظة والتمهل مع اتقاء التعسف والاستكراه .
ذلك أنه يتحتم عليه جمع المتناقض وتأليف ما لا يتفق : أن يفى معا لذاته ويتجرد منها ، ويصغى الى نفسه ويعرض عنها . أن يعطف مثلا على جدران البيت الموحش الخالى فيمنحها حسا وبيانا . ويترقى الى الشمس فينفث فيها عشقا وهياما . بل أن يغازل القمر استظرافا ويداعبه فضولا . أن يعمد الى اللفظ المألوف العادى ، الصامت الكابى فيطلقه من يده مرفرفا وقد دق ورق وغنى ونطق .
وقد تكون الكتابة ضربا من التوفيق والهداية يعطى الفنان الوحى جما ولم يسأل ولم يلح فى السؤال ينصب عليه العطاء جزلا فيحار فى تناوله وجمعه
أذود القوافى عنى ذيادا ذياد غلام جرئ جرادا
فلما كثرن وعنينه تخير منهن شتى جيادا
فأعزل مرجانها جانبا وآخذ من درها المستجادا
ومن غريب ما يتفق لرجل الفن أن يعمل أحيانا وهو فى نصف عتمة ، فى شبه غيبوبة وذهول فيقع على المعنى البديع والصورة البكر ولا يطرب لهما حق الطرب شأن الاعمى يهتدى الى ضالته دون أن يشعر ، أو كمثل الرجل يعثر على كنز فيبقى فى ريب من امره لا يطمئن الى قيمة ما وجد ، يحد من سروره يلجمه الجاما حتى اذا ما لجأ الى الصيرفى قرت نفسه وحسن ظنه ورسا يقينه
ويسئ بالاحسان ظنا لاكمن يأتيك وهو بشعره مفتون
