ليست هناك مسألة شائكة قد اختلف فيها التونسيون مثل الحديث عن الشخصية التونسية أى ما يميز الشعب التونسى عن غيره من الشعوب ولبست هناك مسألة تدعو الى التدبر والتروى واعمال الرأى مثل هذه لانها فى الواقع تتعلق بوجود الشعب التونسي كشعب وبمستقبله فى اجياله كأمة تريد ان يكون لها بين الامم ما يميزها ويجعلها تعطى الى البشرية لونا من الحضارة نوعيا .
فمن قائل ان الشعب التونسي خليط من الشعوب تداولت على هذه الارض وجعلت منها نقطة تفتح ينصهر فيها كل قادم ولا تتميز عن غيرها إذ هى مصب حضارات تراكبت الواحدة تلو الاخرى وأنشأت تواريخ هي تواريخ الامم الزاحفة الغازية .
ومن قائل ان الامر سهل جدا اذ ان تونس جزء من الامة العربية الاسلامية امتزجت طيلة قرون وقرون بكل ما يتعلق بالحضارة العربية الاسلامية فشخصيتها لاصقة بها لا تتميز عنها الا فى جزئيات لا قيمة لها . فازدهرت تونس عند ازدهار الامة الاسلامية وأصابها ما أصاب الشعوب الاسلامية من انحطاط فى عصور تغلبت فيها عوامل الضعف والوهن
ومنهم من يذهب الى ان الشعب التونسى ليس الا جزءا من الشعب البربرى القديم الذي تمكن من ارض المغرب وسيطر عليها وقاوم كل دخيل وثبت فى وجهه ولم يتزحزح عن مقوماته الأساسية رغم كل الظواهر ورغم ما اكتسحه من الامم المختلفة فهو هو باق على مر الدهر قد احتفظ بشخصيته فى أسسها العميقة العريقة وان هو تلبس بمظاهر عديدة قد تغرى المتطلع وتنزلق به الى الخطا الفاحش . والنظريات في هذا الباب طويلة عريضة قد لا تؤدى الى نتيجة وليس وراءها طائل يذكر . لانها لا تخضع الى المعطيات العلمية ولانها تنبني
اما على العاطفة المشبوبة او على نظرية سياسية اساسها اعتقاد مذهبى يريد ان يحقق غاية قد تكون بعيدة عن الروح التونسية الحقيقية
فما العمل إذن امام هذا الخضم من الاراء والافكار التى لا تؤيدها الا بعض الاحداث ولا يبرزها الا المجرد من الافكار المبنية على الافتراض والتكهن والتوهم ؟ ما العمل امام جزء عظيم من الشعب التونسى المثقف الذي اضناه البحث وتضافرت عليه الاحداث فاستسلم الى نوع من الطمأنينة الكاذبة والشك الدائم الزائف المريح ، وان فى الشك بابا من ابواب الراحة والطمأنينة
وما العمل امام جانب من الذين قبعوا فى ظل نظريات لا تقوم على اساس علمي ومنطقي واستناموا اليها وآثروا فيها الدعة والسكينة ؟ ثم ما العمل امام شباب يبحث عن نفسه ويريد ان يوجد او يظفر بشئ يميزه عن غيره ويبنى على اساسه مستقبل بلاده ؟
كل هذا يحفز على النظر ويدعو الى البحث عن مقومات الشخصية التونسية ، ذلك انه ليس من شك فى ان الشعب التونسى مثل الشعوب العربية كلها يحس بان هناك ما يجمع بعضه ببعض وهو يؤمن به ويؤكده واهمه اللغة والدين وبصفة اوضح الحضارة العربية الاسلامية . وهذا مما سالت فيه الاقلام وضبطه العلماء وافاضوا فيه وهو السبيل الذى لا يمكن ان نحيد عنه ولا يتسنى لاى كان ان يغير مجراه لانه خط بالدماء والدموع ومر بما أحزن وأسر وأثر فى النفوس فاصبح شعورا شعبيا تلقائيا بغيره لا يمكن ان تبنى اية حضارة فى بلادنا ولا ان تستقيم الامور لانه من روح هذا الشعب ولانه مقوم من مقومات اصالته .
وان هذا الشعور الذى يباركه كل عربي والذى بالغ فيه كل مبالغ والذى لم يتعد فى كثير من الاحيان مجرد العاطفة وحاول بعضهم اقامة نظريات على اساسه قد ادى فى بعض الاحيان الى الكوارث لأن اصحابه لم يقيموا وزن لشعور آخر هو فى نفس القوة وفي نفس الاهمية وهو شعور التونسي أو الجزائرى أو المغربي أو المصرى أو غيرهم بانه ينتمى الى شعب معين الى الشعب التونسي أو الجزائرى أو المغربي أو المصري او غيرها من الشعوب العربية الأخرى .
هذا الشعور الثاني الذي لا يمكن ان ينكره احد والمتأصل فى نفوس افراد كل شعب عربي لم يقرأ له حساب بل حاول الكثيرون طمسه ومن هنا أتت
الكوارث : وبقدر ما انكب المفكرون على الشعور الاول يقننونه ويضفون عليه ثوب العلم اهملوا الشعور الثاني الذي هو طابع العصر وبدونه لا يسلم ولا يستقيم الشعور الاول
هذا الشعور الثاني تركه الباحثون والمفكرون الى الصدف بينما هو الذى يغذى الشعور الاول اذ هو فرع من اصل واذا كانت الفروع غير يانعة قد انتابها الكسر ونزلت على اوراقها الآفات وسكنت نسغها الديدان فان الشجرة العظيمة لا تلبث ان تذبل فتيبس وتأكلها العواصف
وقديما لم تزدهر ولم تينع هذه الشجرة الا بما درته الفروع من خيرات شخصياتها المتميزة المتنوعة اذ ذاك وقد احتفظت بمقوماتها والاسلام على جدته والعربية لم تتغلغل فيها ثم لما فقدت بطول الزمن ما يميزها غفلة ونضوب حياة واختلط الشعور الاول بالثانى كان خريف الشجرة العظيمة ولم تنتفع بالربيع الا عندما تميز الشعور الاول عن الشعور الثاني ولن يكون الازدهار الحقيقى الا عندما تنشأ جدلية مثمرة بين الشعورين تنقلب الى حقيقة ماثلة وواقع بين واضح .
وهذه الجدلية لن تنشأ الا اذا وقع تجسيم الشعورين علميا وبحث كل شعب عن مقومات شخصيته لينمى فيه ما تميز به حتى تزهر به الشجرة العظيمة وتثرى بها شجرة الانسانية العظمى فلقد آن الأوان إذن ان يبحث كل شعب من الشعوب العربية عن كل ما يميزه عن شقيقه وهذا يمكن ان نصل اليها بالبحث فى المقومات التاريخية والنفسانية والحضارية لشخصية كل شعب وفيما يخصنا نحن التونسيين من السهل ان نجسم ذلك بالبحوث المفردة وبالاختبارات العديدة التى يقوم بها الجامعيون فى مخابرهم وفي قاعات البحث
وهذا يجب ان يشمل عدة ميادين من فنون المعرفة من حيث تاريخها مثل الفن المعماري والآداب العربية واللغة الدارجة . وان هناك مادة هي التى تمكن من معرفة خصائص كل شعب عربي وهي اللهجات العامية ومنها التونسية .
فلا يخفى على احد ان اللغة العربية التى دخلت مع الاسلام شعوبا عديدة وتغلغلت فيها استحالت اليوم الى لهجات عامية متفرعة عن الأم . ويمكن ان نضبط علميا لغة القبائل التى حلت بكل قطر فى القديم وتقارن بين التغييرات الواقعة من حيث الرصيد اللغوي والاصوات وهيكل الجملة فى مختلف العصور لنتبين العوامل القارة التى اثرت فى اللغة الاولى لتحيلها الى ما وصلت اليه اليوم . إذ من المعقول ان نبحث استنادا الى هذه الفكرة فى هذا الذي غير اللغة
الأم الاولى فصارت ينطق بها فى هذا القطر بصورة غير التى ينطق بها فى القطر الآخر . هذه ظاهرة واضحة لا يمكن ان ينكرها أحد وهى التى يتميز بها اليوم التونسى عن الجزائرى أو المغربي أو غيرهما وهي التى تكمن فيها مقومات كل شخصية من شخصيات هذه الشعوب . وبطبيعة الحال فان عملا مثل هذا يتطلب تضافر الجهود ولا يتأتى الا بالدرس والتمحيص
ولكن يقول القائل ما الفائدة من دراسة العامية ؟ وهى شنشنة قديمة قدم الاستعمار عرفناها عندما انكب المستشرقون على اللهجة الدارجة يقننونها ويقعدونها وليس لهم من غرض الا القضاء على العربية واحلال العامية محلها . وهي غاية لم يصل فيها المستعمر ولو ربع شوط بل زاد ذلك القوم تمسكا بلغة الضاد وصيانة لها كما لم تؤثر فيها ولم تقض عليها مساعى الاتراك فى احلال لغتهم محل لغتنا .
ولو فرضنا اننا توصلنا الى ضبط معالم الشخصية التونسية فما الفائدة من ذلك وما هى الغايات التى نريد ان نصل اليها من وراء بحث طويل مضن فى لهجة ليس لها من مستقبل فى بناء حضارتنا وتدعيم كياننا ؟
لهذا فانه من المفروض ان نضبط قبل كل شئ الغايات التى نريد الوصول اليها من هذه الدراسة والا فان عملنا يتحول الى نوع من الفن للفن فى فترة نحن احوج فيها الى ما يرقى بنا اجتماعيا وثقافيا وحضاريا .
هذه الغايات هي لسانية وتعليمية تربوية ونفسانية واجتماعية وتاريخية ووطنية وحضارية . وهى من هذه الوجهة ضرورية لكياننا اذ هى تتعلق بمختلف مناح حياتنا والوان نشاطنا .
واول هذه الغايات هي خدمة لغة الضاد من حيث هى لغة متطورة حركية مفتوحة على العصر . إذ بدراسة أطوار العامية وبتحليل ما وصلت اليه في عصرنا الحاضر من مقومات الحياة حتى السلبية منها نتمكن من ان نضبط ما يمكن ان نطعم به الفصحى من عناصر جديدة فى هيكل الجملة وطاقتها البلاغية ذلك ان الكثيرين ممن درسوا اللغة الفصحى من المستشرقين او من اهلها الغيورين عليها عابوا عليها بعدها عن الحياة وقصورها عن التعبير عن مفاهيم العصر وفي الواقع فان اهلها هم الذين لم يقدروا على ذلك كما انهم وجدوا فى العامية من مواضع القوة فى التعبير عن الصق المفاهيم بحياتنا ما جعلهم يأسفون على الضاد .
ولكن إذا نحن عرفنا مواضع القوة في العامية وأحكمنا نوعيتها وأبرزنا مقوماتها بصفة علمية أمكن لنا أن نحول بالطرق اللسانية الحكيمة مواضع الضعف فى الفصحى الى مواضع قوة . وهكذا فان دراسة العامية هى فى الحقيقة خدمة للغتنا وبعث لها من جديد لتكون لغة الحياة ولغة التعامل ولغة الحضارة .
والغاية الثانية هي تعليمية تربوية بيداغوجية . ذلك انه لا يمكن ان تدرس العربية للطفل بصفة ناجعة إلا إذا عرفنا لغة الطفل قبل كل شئ التى هى جزء من نفسيته وعقليته ومرآة لنفسه بصفة عامة . فضبط خصائص لغتة التى يتحدث بها تمكننا من معرفة الاصول التى يجب أن نبدأ بها فى تدريس الفصحى ونقدم له الاسهل القريب منه ونترك الصعب الذى تنغلق له مواهبه الى ما بعد وفي ظني إن هذه هي العقبة الكبيرة فى تلقين الطفل التونسى مبادىء الفصحى لانه لا يجد ذلك التدرج المعقول الطبيعى الذى يجده فى دروس الفرنسية المعدة له من معلمين وبيداغوجيين فرنسيين قد حاولوا إن يفهموا عقليته ونفسيته ليقدم له دروسا سهلة حية قريبة منه ولعل اقبال جيل الاستقلال من التونسيين على الفرنسية مرده الى ان دراسة الفرنسية من الابتدائى الى الثانوى مراعي فيها مدى تجاوبها مع بيئة الطفل والتلميذ : فظهر مجهود محمود سعد به الكتاب المدرسي الفرنسى فأتى مشوقا نافذا الى عقول الاطفال بينما لم نر هذا المجهود قد غزا الكتاب المدرسي العربى اذ بقيت بعض الكتب التى درسنا فيها العربية منذ أكثر من خمس وعشرين سنة هى هي لم تتغير من نص العقعق الاعور الى نص الحلاق الثرثار وما فيه من لعنة السياسة والسياسيين وهي البذرة التى كان يريد الاحتلال زرعها فى الطفل التونسى حتى لا يهتم بالسياسة وانعكاساتها على مصيره ومصير وطنه .
ولهذا فان ضبط خصائص لغتنا العامية أمر حتمى للانطلاق بالطفل التونسي من اللغة التى لقنها فى المهد وهي المنحدرة بعد أطوار وأطوار من اللغة الأم التى دخلت أرضنا على لسان الفاتحين ثم أعراب بني هلال وسليم الى لغة الضاد . هذا العنصر إذن هام الى جانب عناصر نفسانية اخرى بغيره لا يمكن إن يكون تعليم العربية للطفل فى مستوى الفرنسية خاصة وأنه يصاب بتعلم لغة ثانية ابتداء من السنة الثانية .
أما الغاية الثالثة من ضبط العوامل التى طورت العامية والتى لن تكون إلا من مقومات الشخصية التونسية أو على الأقل الشعب الموجود على أديم هذه الارض فهي نفسانية اذ ليس من شك في ان الشباب مهما كان وفي أى بلاد من الارض فى حاجة الى ما يجعله يعتز بقومه فى العائلة الكبرى أولا ثم فى العائلة
الصغرى . فالفرنسى مثلا عندما يكون تجاه شرقي تراه يعتز بانتسابه الى الحضارة الغربية التى قامت بدور حضاري كبير ابتداء من القرن الثامن عشر ويمكن له أن يحدد أهم مقوماتها التى تختلف عن مقومات الحضارات الاخرى ولكنه عندما يكون تجاه انقليزى أو ألمانى فانه يحاول ان يبرز خصائص عبقرية الروح الفرنسية ذلك انه رضع فى المهد كل ما يمكن ان يعتز به الفرنسي في لغته وثقافته وحضارته كذلك بالنسبة للتونسى فانه من واجبنا ان نعلمه كيف بعث بحضارته العربية الاسلامية وبخصائصها التى جعلت منها تسود العالم في العصور القديمة وكذلك من واجبنا ان نعلمه كيف يتميز ايجابيا عن أخيه المصرى أو الجزائرى أو المغربى حتى يشعر بعزة وطنه الاصغر امام وطنه الاكبر سنة الله فى الكون ولن تجد لسنة الله تبديلا فى عصر طغت عليه الوطنيات وضبطت فيه مصالح كل بلد واصبح كل شعب حي متطور واع يذود عن كيانه ولا يقبل ان يذوب فى غيره وان تداس مصالحه المرتبطة بقيمه ومقومات وجوده
فدراسة العامية من هذه الوجهة تبرز خصائص العقلية التونسية فى جوانبها الايجابية والسلبية وتجعلنا ننظر الى انفسنا نظرة موضوعية ليس فيها افراط ولا تفريط فلا هو الغرور الذى يعمى ويصم ولا هو مركب النقص المكبل المحطم للعزائم
ولعل أعظم ما يشكو منه الشباب التونسى اليوم هو نوع من الضياع والفراغ الذي لا يسمح له بان يجد ما يميزه عن غيره من شباب الامم الاخرى فهو يتوق بطبيعة الحال ككل انسان الى ان ينسجم مع العالم الذى يعيش فيه وان ينصهر فيه . ولكن بما يأتى له به ايضا من خصائصه وعصارة ذاته . فالبحث عما يميزه عن غيره لا يجعله منغلقا بل يعطيه قسطا كبيرا من الاعتزاز والنخوة والكرامة وهذا البحث يمكن ان يستنبط من دراسة تطور العامية .
إذن فالاتجاه فى البحث هذه الوجهة يخدم العربية ويعطى للتعليم ركائز متينة بها يتطور ويؤثر ويمكن التونسي من معرفة نفسه .
وليس بخاف ان ضبط مقومات الشخصية التونسية الثابتة القارة عبر العصور يعين دارس الادب على استشفاف نوعية التأليف التى ظهرت في زمان معين ومكان مضبوط من هذه الارض فنحن اذا درسنا أبا نواس او ابن الرومى أو ابن زيدون مثلا لا نستنكف ، حسب ما أقره دارسو الادب فى النهضة الحديثة من ان ترجع خصائص شعر أبى نواس الى اصله الفارسي وثقافته الفارسية كما اننا لا نستغرب من يحدثنا عن رواسب الطبع الرومى عند ابن الرومى
ونسلم بتأثير الطبيعة الاندلسية على شعر ابن زيدون . اما اذا نحن اتجهنا الى دراسة ادب ابن رشيق والحصرى وابن هاني ولا فائدة فى الاشارة هنا الى الشابى والمسعدى والدوعاجى واكدنا على ضرورة الاهتمام بما ميز ابن رشيق عن غيره من النقاد العرب نظرا لاختلاف البيئة وانتسابه الى شعب معين وتربة معينة واهتممنا بشعر الحصرى فى رثائة خاصة ودعونا الى ربط نوعية شعره بالطبع التونسى ، فاننا نرمى بالتعصب والاقليمية الضيقة . فلندرس إذن ادبنا التونسى القديم والحديث كما تدرس اداب الدنيا كلها وكما يدرس الادب العربى المنبث من الجزيرة العربية ومن بغداد ومصر والاندلس ولا نكتفى بما فيه من العناصر العربية البحتة والنوازع الاسلامية التى هى مشتركة بين جميع البلاد العربية وتعد من بين مقومات شخصية كل شعب من الشعوب العربية فى القديم عندما كانت شعوبا فقط وفي الحديث عندما اصبحت أمما بأتم معنى الكلمة ولكنها ليست وحدها هى المميزة لادب بلد دون آخر بل هناك مقومات أخرى هى التى عملت على ان تبرز طرافة هذا الشاعر وذاك الناقد وهى متعلقة اولا وبالذات بانتسابه الى شعب معين من أرض معينة .
لهذا فانه من الطريف جدا ان نقارن مثلا بين المقومات التى عملت على ان يكون ادب اغسطينوس مثلا ذاك الادب وان يكون انتاج ابليوس ذاك الانتاج بما فيه من مقومات رومانية ومسيحية ولكنها ليست وحدها بل هناك مقومات افريقية ضبطها الدارسون وصدعوا بها منذ القديم وبين المقومات التى ابرزت أدب ابن رشيق وابن شرف والحصرى ومن الطريف أيضا أن نقارن بين الحياة الدينية فى قرطاج فى عهد اغسطينوس والحياة الدينية في القيروان فى عهد سحنون وان نقارن بين شخصية القديس وبين شخصية الامام . لو حاولنا هذا لظفرنا باشياء غريبة محيرة وهى وجوه شبه لعلى سأضبطها فى يوم من الايام وليس لها من تفسير الا وجود سنة أدبية وفكرية ممتدة على مر الدهر اساسها الانتساب الى هذه الارض بمناخها وبما فيها من شعب يصهر كل من احتك به ويضفى عليه من مقوماته ما يجعله فى آخر الامر فردا من افراده . هذه المقومات التى سنضبطها إذن هي ذات أهمية إذ هي التى تفاقمت واخذت تبرز حتى اصبحت من مقومات الامة التونسية وهذا هو المد المسترسل الذى يدعو الباحث الى ان يخرجه من الغموض ومن الخوف الذي يعترى اهل العربية تحاشيا من الاصداع بوجود فوارق طبيعية بين الامم العربية وهو أمر لا حرج فى الاصداع به لانه هو الذي سيمكن الامم العربية من ان تكمل الواحدة الاخرى وان تكون هذه الامة المتقدمة العصرية العظيمة التى تجمع بينها العربية والاسلام بطبيعة الحال ولكنه يجب ان تجمع بينها
عن اقتناع مقومات أخرى لا نعرفها الا اذا ضبطناها ولا نتحاشى الاحتلاف من جرائها الا اذا حللناها وسلمنا بها .
وهذا هو فى واقع الامر من الاسباب التى جعلت الامم العربيه تختلف فى عصرنا الحاضر ولا تصل الى نتيجة فى رغبتها فى جمع كلمتها إذ انه فى ذهن الكثير من أهل العربية انه يكفى أن نقول بانه تجمع بين هذه البلدان العربية اللغة والدين ليستخلص من ذلك انه من الواجب الاتحاد وتكوين امه واحدة ولكن الواقع دل والتاريخ اثبت ان هذه البلدان بعد ان كانت فى وقت ما مجموعة متداخلة تظهر وكأنها كتلة واحدة أخذت خلال العصور ينفصل بعضها عن بعض . قالوا لتفرق الكلمة ولكن احدا لم يحاول ان يدرس السبب الاصلي في ذلك وهو حسب ظني هذه المقومات الموجودة فى كل شعب من الشعوب العربية التى تفاقمت وقويت بمر الزمن حتى اصبحت سببا فى الانفصال عن الامة الواحدة لتكوين بذور وطنيات بالمعنى العصرى وهى سنة درجت عليها شعوب اخرى كالشعوب الاوربية مثلا لتكوين أمم وأوطان متميزة هذه المقومات التى كانت سببا فى الانفصال هى التى يجب دراستها ومعرفتها لتصبح اليوم سببا في الوحدة إذ بدون ذلك يكون سلوكنا سلوك النعامه عندما يدهمها الخطر
فلنعتبر بما وقع عند الامم الاروبية فبعد ان تميزت كل أمة من هذه الأمم بمقومات مضبوطة معروفة اليوم وبعد ان كانت هذه المقومات النوعية سببا فى حروب دامية بين بريطانيا العظمى وفرنسا وبين المانيا وفرنسا مثلا اصبحت اليوم مدعاة الى التفكير في الانتفاع بخصائص كل أمة فى جميع الميادين وأصبح التفكير في إنشاء قوة أوربية اقتصادية ثم الوصول الى قوة سياسية هي ما سماه شارل ديفول أوربا الاوطان ) l Europe des patries فلماذا نحن العرب لا نعرف انفسنا اولا ونضبط طاقاتنا ونبرز نوعياتنا ثم نلتقى كأمم ناضجة بلغت من ارتفاع القيم ما يجعلها تبنى وحدة كلمتها على أسس علمية مضبوطة .
رأيتم كيف ان ضبط مقومات الشخصية التونسية لا يفيد دراسه الادب فقط بل هو يتعداها الى مصير الامم العربية . ولكن لنبدأ قبل كل شئ بحصرها حتى ينتفع بها الادب ونثرى الدراسات الادبية القديمة والحديثه ولنتخلص من العقد في دراسة أدبنا ولا نخشى ان نقول ان الشابى تميز فى شعره العربي عن الشعراء العرب لا بنفسيته فقط ولا بمرضه الذي استنتج منه بعض الباحثين استنتاجات غريبة ولكن بانتسابه الى شعب اولا وأمة ثانيا لها مقوماتها وعقليتها وسنتها الادبية والفكرية . هذا هو المهم لأن هذا هو
الذي مكن الشابى وكل شاعر أو كاتب سما فى مجال الخلق ، من أن يكون أدبه انسانيا . وليس من الغريب إذن ان نجد لجنة تحكيم جائزة نوبل تعلل منحها الجائزة للاسكندري سلجنتسين لما لهذا الكاتب من قدرة ملحمية على مواصلة التقاليد الادبية الروسية فهل ينقص هذا من قيمة هذا الكاتب وهل ينزع عن أدبه صبغة الانسانية لا ابدا . هذا ما يجب علينا نحن العرب ان نفهمه لنخرج من الغموض الذي يخيم على علاقاتنا ولا يمكن لنا ذلك الا اذا نحن علمنا شبابنا على أسس علمية ودرسناه أدبه العربى على هذا النحو من الاتجاه وإلا بقينا نلوك اشياء تظهر من البديهيات ولكنها مجرد تعبير عن أمل فى نفوسنا نريد ان نحققه بسرعة .
وصلنا الى النظر فى الغايات اللسانية البحتة التى هى فى الواقع ستكون أساسا لضبط مقومات الشخصية التونسية . ذلك ان هذا العلم الجديد الذي ترعرع فى أوائل هذا القرن اصبح له شأن عظيم إذ تخلص من صبغته النحوية ومن البحوث الصوتية وتعدى الخواطر الفلسفية فى مقومات المعرفة والروابط الموجودة بين الفكر ووسائل التعبير . واصبحت الغاية منه هو البحث في هيكل الكلام وتطوره فى تشعب استعمالاته وصوره بصفة عامة . ولهذا فهدف هذا العلم فى اختلاف الوانه يجر مثل الوصول الى غايته المثلى الى النظر في اللغة من حيث الظروف الاجتماعية التى تتحكم فى تطورها والنظرة سوسيولوجية . "
كذلك يدخل الكلام بحكم وظيفته فى جملة الدلالات" إذ علم اللسان ( Linguistique )يندرج فى علم آخر غايته هو ضبط الدلالات فى المجتمعات ( Semiologie )وبما ان الكلام هو من قبيل الدلالات التى تعبر عن افكار فهو مربوط بالنشاط النفسانى للانسان ويتطرق لها الى علم النفس " . هذا كله يدل على أن الاعتناء باللغة العامية على هذه الصورة لا يضر فى شئ بل هو يخدم كما قلت سابقا اللغة الفصحى ويوجهها الى وجهة مسايرة للحياة والعصر ويبرز لكل ذى عينين ما يجب ان يتخلى عنه من صورا لتعبير فى لغتنا لنجدده ونجددها وتنكشف بذلك ترهات من يريد إحلال العامية مكان الفصحى أو من يريد التشبث بالعربية على حالتها القديمة اذ كلا الموقفين مضر بنا احدهما يجر الي الانحلال والتفسخ ويقطعنا عن تراث عظيم فيه من الامور الايجابية الصالحة لاكتمال شخصيتنا ما لا نجده فى العامية والثاني يشدنا الى الماضي ويقطعنا عن الحاضر . والموقف الرصين هو التأليف بين هذين المظهرين فى تشعبهما واختلاف مناحيهما فى الظاهر
وهكذا اذا نحن انكببنا على دراسة اللغة العامية من الناحية اللسانية التى
ذكرت ينكشف لنا الفرد التونسي فى تطوره عبر العصور وتتضح بذلك دخائل المجتمع التونسي بما فيه من سلب وايجاب وتكون الغاية عند ذلك اجتماعية . فنحن إذا عرفنا مقومات شخصيتنا فى مواطن ضعفها ومواطن قوتها امكن لنا ان نتلافى كل ما يمكن ان يجر مجتمعنا الى الانحلال والتفتت وتيسر لنا تقوية النواحي التي يمكن أن تميز بها الامم الاخرى فقديما قال سقراط : إعرف نفسك بنفسك واذا كانت هذه القاعدة صالحة لكل زمان ومكان بالنسبة للافراد عندما كان لا يجمعهم إلا الشعور بالانتساب الى عصبية محدودة فى العائلة أو القبيلة أو الطائفة فانه يمكن أن نتوجه الى كل شعب وبالتالى كل أمة قائلين لها : إعرفي نفسك بنفسك . وكما ان الفرد لا يتأنى له ان يفيد ويستفيد اذا هو لم يعرف قدره كما يقولون او إذا هو لم تكن له شخصيته النوعية التى تمكنه من البروز والانفراد بخصال تفيد المجتمع كذلك فان كل أمة فى حاجة الى ان تعرف نفسها
ومعرفة النفس بالنسبة لأمة من الامم تتفرع الى أمرين الالتفات الى الماضي والتشبت بالحاضر . أما الالتفات الى الماضي فيتمثل فى النظر الى تاريخها والانفعال مع الاطوار التى مرت بالارض التى انبتت تلك الامة وصهرتها ذاك الصهر وهى لحمة لا يمكن الاستغناء عنها فكما ان الفرد فى طفولته وعمره القصير لا يمكن ان تطلب منه الكثير ولكنه عندما يكبر ويمر بتجارب كثيرة هى تجاربه ويتعلق بكل ما أبرز شخصيته من ماضيه القريب والبعيد يمكن ان تنتظر منه النفع والافادة له ولمجتمعه ولا يمكن ان يتأتى له ذلك بتجارب غيره وباعانة غيره فقط فيصبح مجرد آلة وشخصا لا ينتفع به المجتمع الا كما ينتفع بالشئ . وكذلك الامة اذا هي لم تشعر بأن لها ماضيا يجمعها وان لها تجارب قديمة بحلوها ومرها قد وحدت صفوفها ومتنت اللحمة بينها لا يمكن لها أن تحيا بين الامم عزيزة منيعة بل هى تذوب فى غيرها وتنحل وهذا لا يتأتى الا بدراسة التاريخ الذي يجعل من الوطن والامة منطلقا الى الاوطان والامم الاخرى
فكما أن الفرد لا يمكن أن ينظر الى افراد المجتمع الا من خلال مظاهر وجوده اذ لولا وعية بنفسه لما امكن له ان يعى غيره كذلك لا يمكن ان تتجرد أمة من الامم فتدرس التاريخ منقطعا عما يربطه بها . إذ الموضوعية العلمية التى يتحدث عنها البعض لا يمكن أن تفرض على دراسة التاريخ بالوجه الذي يرونه لأن التاريخ لا يمكن ان تفصله عن الحياة اللاصقة بحاضر الفرد والمجتمع . فهذا من قبيل الذى يذهب به حبه للانسانية وابتعاده عن الضرر بغيره الى تعريض نفسه للهلاك وتعريض مجتمعه كذلك . أو من قبيل من ذهب به حبه للحيوان والرافة به الى جعل نفسه فريسة للوحشى منها . فالموضوعية العلمية هي
طريقة فى البحث لمعرفة الصحيح وطرح الزائف ولكنها لا تقبل أن يصبح العلم المدروس والمسألة المنظور فيها بلا غاية ولا تقع فيها .
أما التشبث بالحاضر من الوجهة التى ننظر فيها فهو مرتبط بالوجه الاول أى دراسة التاريخ ومتعلق بالغاية منه وهو غرس حب الوطن فى النفوس ومن هنا تكون معرفة مقومات الشخصية مدعاة الى الاعتزاز فى مظاهرها الايجابية ذلك انه لا يمكن لأمة من الأمم أن تحيا وان تنصهر فى البشرية خلقا وإنتاجا وأن تفرض نفسها قوة ومناعة وعزة الا اذا شعرت بكيانها وجعلت من مقوماتها واعزا لتفجير طاقاتها .
ذلك أن التطور الذي شاهدناه بالنسبة للبشرية يفرض علينا فى هذه المرحلة من تاريخها ان نجزم اننا نعيش فترة الوطنية والوطنيات بعد أن عاشت الانسانية من قبل فتراث العصبيات بألوانها . فنحن نشهد اليوم بالنسبة للامم عصبيات من نوع أرقى وأسمى هى عصبية الوطن يقول بها جميع الشعوب وتمارسها حكوماتها وفي الواقع فان هذه المزحلة لم تتم بالنسبة لشعوب كثيرة من الارض وان هي تمت فانها تكون مرحلة لعصبية اخرى هى عصبية الكتل الكبيرة والمجموعات العظيمة وعلى كل فنحن اليوم فى مرحلة الوطنيات ومن واجبنا أن نسلم بذلك وان نعمل على ابراز وطننا وأمتنا . من بين الاوطان والامم فلا نتخاذل ولا نذوب فى غيرنا ولا نتلاشى باسم نظريات هى سابقة لأوانها . كالفرد الذي يتحامل على نفسه ولا يقدر على المشي ثم يدخل بين صفوف القافلة فتدوسه .
رأينا إذن كيف أن النظر في مقومات الشخصية التونسية من خلال تطور . اللغة العامية التونسية يخدم عدة أغراض وغايات مختلفة ويساعدنا على القفز بأنفسنا والسرعة الى تدارك ضعفنا .
بقى أن نضبط بعد بيان الغايات ما هي هذه المقومات ومن هو التونسي ولن يكون عملنا فى هذا الصدد من باب التخمين بل سيرتكز على أمور ان لم تكن علمية بحتة فهى الى العلم أقرب وعلى الأقل فلن تخضع الى العاطفة ولا الى طغيان الشعور الوطني الى الحد الذى يجرنا الى اخفاء العيوب بل اننا سنذكر النواحي الايجابية الى جانب النواحي السلبية علما منا أن ذلك يعرفنا بأنفسنا فى صورة أصدق وأقرب الى الواقع حتى ننهض بأنفسنا ونجعل لحياتنا كأمة محتوى شاملا تعالج به جميع قضايانا ونضبط بمقتضاه مختلف ألوان نشاطنا حتى نفيد مجتمعنا وننصهر في العالم أقوياء أشداء .
