ان اهل هذه الارض لم يذوبوا فى اى كان من الشعوب التى زحفت للتغلب عليهم ولم يستكينوا لهم الا ليعاودوا الكرة ويزحزحوا كابوس الحكم الذى لا يرضونه ناهيك ان بعضهم ظن ان هؤلاء وهم البربر قد ذابوا فى العرب بينما العرب ذابوا فيهم . وقد قال ابن خلدون فى هذا الباب وبعد ان عدد دول العرب التى تداولت على هذه البلاد : (( وذهبت ريح العرب ودولتهم من المغرب وافريقية فلم يكن لهم بعد دولة الى هذا العهد وصار الملك للبربر وقبائلهم يتداولونه طائفة بعد اخرى وجيلا بعد آخر تارة يدعون الى الامويين الخلفاء بالاندلس وتارة الى الهاشميين من بنى العباس وبنى الحسن ثم استقلوا بالدعوة لانفسهم اخرا )) . هذا فى عهد ابن خلدون ولكن النكسات ستأتى فيما بعد .
وان الذى جعلهم لا يذوبون فى الشعوب المتغلبة عليهم هو ان الغاية التى كانت تحدو سلمهم او حربهم ، تعاونهم او مناوأتهم ، تآلفهم او تناحرهم هى استقلالهم بالدعوة لانفسهم ؛ هذه الغاية هى التى كانت فى الواقع الحافز والدافع لكل اعمالهم ؛ وان ما رآه ابن خلدون من اسباب قيام الدول البربرية بالعصبية وانهيارها بترف الملك انما هى مظاهر وعوارض لمبدأ اساسى تجلى فى هذه الرقعة من الارض وهو السعى وراء الاستقلال بالدعوة ، كما يقول ابن خلدون ، والتحكم فى المصير كما نقول نحن اليوم
و كذلك ما شكاه العرب من انتقاض سكان هذه الرقعة من الارض وسماه فيما بعد الافرنج الشيطان البربرى le Démon berbère انما هو ايضا مظهر من مظاهر هذا المقوم الذى جعل البربر لا يستكينون لسلطان طويلا ولا يرضون بحكم انفسهم بديلا .
ولعل منشأ ذلك هو انهم احتكوا بالامبراطوريات الكبيرة ولم يشتد عودهم بعد ، وهم كما قال ابن خلدون : (( فى تخلقهم بالفضائل الانسانية وتنافسهم فى الخلال الحميدة ، وما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة الشرف والرفعة بين الامم ، ومدعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار وحماية
النزيل ورعى الأذمة والوسائل ، والوفاء بالقول والعهد ، والصبر على المكاره ، والثبات فى الشدائد ، وحسن الملكة ، والاغضاء عن العيوب ، والتجافى عن الانتقام ، ورحمة المسكين ، وبر الكبير وتوقير اهل العلم ، وحمل الكل وكسب المعدوم ، وقرى الضيف ، والاعانة على النوائب ، وعلو الهمة ، واباية الضيم ، ومشاقة الدول ، ومقارنة الخطوب ، وغلاب الملك ، وبيع النفوس من الله فى نصر دينه )) . ان فى تخلقهم بهذه الفضائل اذن (( لآثار نقلها الخلف عن السلف لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون اسوة لمتبعيه من الامم وحسبك ما اكتسبوه من حميدها واتصفوا به من شريفها أن قادتهم الى مراقى العز ، وأوفت بهم على ثنايا الملك حتى علت على الأيدى أيديهم ومضت فى الخلق بالقبض والبسط احكامهم )) .
هؤلاء الذين عرفوا بهذه الفضائل عاشوا فى رقعة جغرافية وملابسات تاريخية جعلتهم ينوؤون الاحقاب تلو الاحقاب تحت كلكل السلطان الاجنبى وهم الذين نشأوا على الحرية وتغلغت فيهم فكرة (( الاستقلال بالدعوة لانفسهم )) . واى حر فطر على العزة وسكنت فى مهجته بذرة الاباء يستكين لذلك ويرضى بالمهانة مهما طوحت به ظروف العيش ورمته رياح الزمان العاتية فى الشعاب الملتوية .
هذه الغاية اذن هي الحافز وهي التى حركتهم على مسرح التاريخ ، وقد اعانهم الاسلام على شق الطريق لها وتحقيقها فى فترات متفرقة . وإن ابن خلدون استشف هذه الحقيقة ولكنه لم يبن عليها تاريخه وظن ان ترف الملك هو السبب فى انحلال الدول فقط بينما قرر فى الاول ان العصبية هى البانية للدول المبقية عليها . والواقع ان انتفاء العصبية هو اصل الانهيار وليست العصبية فى الواقع إلا التفاف القبائل حول رغبة ملحة ومقوم اصيل هو الاستقلال بالدعوة للنفس او التحكم فى المصير
هذه هى الفكرة التى اقامت الدول فى المغرب ومكنت القبائل من السلطان والسؤدد ، ولكن عندما تستأثر فئة بنعيم السلطان وترفه ، وتقصى البقية التى عملت معها فى نفس الصفوف يختل عند ذلك اساس اقامة تلك الدولة وهو تقرير المصير معا ، والسعى المشترك فى الاستقلال بالدعوة . فيبدو أن الترف هو السبب فى الانهيار والواقع ان العقد الذى تم ضمنيا قد فسخ فيظهر الانتقاض ، وتذر قرون التمرد ، وتستفحل الثورة
وكذلك كان شأن البربر مع العرب عندما أتاهم الاسلام فمكنهم من إبراز غايتهم الدفينة ولكنهم عندما رأوا ان القبائل العربية قد استأثرت بالسلطان ثاروا بالارتداد اولا فكانت الكاهنة وأضرابها ، ثم بالخروج ثانيا فكانت
انتفاضات الخوارج ثم ثورات القبائل على الاغالبة والعبيديين ؛ فكان البربر دائما كما لاحظه ابن خلدون (( فى الضواحى )) وهو ما يسميه الافرنج I'arrière -pays (( وراء ملك الامصار المرهوبة الحامية ما شاء من قوة وعدة وعدد وملوك ورؤساء وأقيال ، وأمراؤها لا يرامون بذل ولا ينالهم الروم والافرنج فى ضواحيهم تلك بسخطة الاساءة ))
هؤلاء الذين يسكنون الضواحى كانوا هم الذين يحملون فى انفسهم تلك الغاية الدفينة ، وهؤلاء كانوا دائما - حتى عندما استقر السلطان فيهم او فى بعضهم - هم الذين يشعرون بابتعاد اخوانهم عن غايتهم المثلى فيثورون سعيا وراءها .
هذه هى الحقيقة حسب رأى فيما عرف به سكان اهل هذه الارض من انتقاض وتمرد وثورة ، وقد تفطن ابن خلدون الى الظاهرة ولكن غاب عنه السبب الاصلى .
وكذلك تمسك الافرنج بظاهرة أخرى وهو ما سموه بالشيطان البربرى le Demon berbère وكانوا يخافونه واظهروه فى مظهر بشع لغاية فى نفس يعقوب وهم أعرف الناس بأن الحافز فيه هو اختلال الشعور بالاستقلال بالدعوة أى بالتحكم فى المصير . فكلما احتد هذا الشعور كانت الثورة وفى ظنى أن الذى وفر للحركة الوطنية الجديدة النجاح المنقطع النظير هو التفطن الى احياء هذه الغاية وهى الاستقلال بالدعوة للنفس وهى التى جمعت الشعب التونسى كله فى المدن والضواحى لمكافحة الدخيل ، وتلونت بألوان عدة بالدين واللغة والنظريات العصرية ؛ وهي التى جعلت الآلاف المؤلفة من سكان ما يسميه ابن خلدون الضواحى - أى العروش والبوادى - تلتف حول هذه الحركة الجديدة فى وحدة صماء قل ان وجدت فى تاريخ هذه البلاد .
هذه الغاية أى الشعور بالتحكم فى المصير وتقريره هى التى يجب ان نعمل على صيانتها ، وما الحكم الجمهورى الا طريقة مثلى للسير قدما فى غرسها ، كما ان الديمقراطية أسلوب من أساليب الحفاظ عليها . وكذلك فان الوحدة القومية ليست الا مظهرا من مظاهر تجسيم هذه الغاية فان اختل التوازن وشعرت فئة ، لم ينخرها سوس الانانية وحب التسلط ، بان الامر قد خرج منها وأن الأمل قد انقطع فى تحقيق الغاية كانت الكارثة . هذا هو السر فى نجاح هذه الحركة ، وسيظل هو السر فى بقاء هذه الارض عزيزة منيعة ، اذ كلما فهمنا هذه الحقيقة وجعلناها نصب اعيننا وجسمناها بالحكمة والتبصر وفرنا لهذا الشعب كل خير
