لم يتحدد معنى الالتزام فى الاذهان ، رغم أن الاديب المعاصر لا بد أن ينتمى الى قضية يدافع عنها ، وينطلق فى أجوائها ، فالانتماء روح العصر ، والتملص منه مما يؤخذ على الاديب والمفكر .
لم يكن الانتماء واضحا قبل سنوات الخمسينات ، رغم أن المفاهيم الداعية الى الاشتراكية ، والى سيادة العدالة الاجتماعية وروح المساواة ، كانت قد راجت فى وسط المثقفين والمتعلمين ، برواج مفاهيم النظريات الاشتراكية بجميع مدارسها .
ومنذ ذلك الوقت أصبحت كلمة (( انتماء )) ذات دلالة وأهمية بالنسبة للاديب مثلما اصبح وصفه بأنه غير منتم نقيصة ، بل تهمة يحاسب عليها ، فأفظع ما يوجه الى انتاجه من مآخذ تصل الى حد الطعن والقول بأنه أدب غير هادف .
اعتبر الانتماء دلالة على الوعى ، فى الوقت الذى اعتبر فيه عدم الانتماء دلالة على انعدام الوعى ، مثله مثل انتماء الاديب الى طبقة حاكمة هى فى الغالب الطبقة الاقطاعية أو الطبقة المتوسطة ، فوعيه بالتالى محصور بحدود مصالح تلك الطبقة ، فلا يشرق الأفق الانسانى الذى لا يتأتى الا باحتضان مصلحة الطبقات الكادحة كالعمال والفلاحين ، فالوعى بمصالح هاتين الطبقتين هو الوعى الحقيقى ، اذ هو الوعى بحركة التاريخ ، وبأن المستقبل هو للايدى الخشنة ، والوجوه الملفوحة بالشمس ، والعيون الآملة المفتوحة على الحياة باتساعها وشمولها .
ودائما ما يحسب على الاديب الذى يدرك هذه التعريفات ، وينضوى تحتها ، الا انه يرى أن هناك أخرى جديرة بالتعبير عنها . فلا يكتفى بالتعبير على الايدى الخشنة والوجوه الملفوحة ، أقول يحسب عليه ذلك ، فيصبح انتماؤه مشكوكا فيه ، وان لديه تطلعات طبقية ، أو أن أعماقه تسكنها بقايا الروج البرجوازية أو الاقطاعية ، التى تجعله يحن الى اخلاق هاتين الطبقتين وسلوكهما مما يجعله يمجد بعض قيمهما فى حين كان عليه أن يعمل على اندثار هذه القيم ، فلم يكن ينتج عنها الا كل قبيح ، حتى ولو كان ذلك الانتاج يملك من الاشعاع ما يعشى الابصار .
يقبل الاديب على الانتماء من ذات نفسه ، فهو يحس أن ما يربطه بالمجتمع أكثر من ان يحصى ، تمثل فى دقائق داخل نفسه ، زرعها التكوين الاجتماعى الذى كونه هو عبر مراحل طويلة من التجارب - ثم ليتصورها هو بكيفية يعتقد فيها التفرد الذاتى ، وهى فى حقيقة أمرها لا تخرج عن تصور المجتمع لها ، كل ما هنالك أن الاديب يأخذ تلك النسب القائمة فيما بين الاشياء المعنوية ويخلخلها ، مثلما يأخذ فى أحيان أخرى حدودا ضيقه صغيرة فيوسعها . . الامر الذى يجعلنا نحس بالروح الابتكارية فيها ، مما يشدنا اليها ، ويدخلنا عالم الجدة والفرح والبهجة .
وقد يأخذ الاديب شيئا من نفسه نما بتجاربه الخاصة ، فلا يجعله يتحوصل فى ركن قصى ، بل يقفز به الى المواجهة بواسطة أداء فنى امتلكه وأعانه على تواجد تجاربه وفهمه ، وكيفية تناوله للامور ، مما يجعل الفعل الخاص بعد ذلك وقد اكتسب صفة الفعل العام . انه رغم كتمانه لحدود التجربة الخاصة ، وعلاقاته وتداخلها مع الحدود العامة للتجربة - لا يخفى انتماءه للمجتمع الذى يغوص فى علاقاته ، وفيما بين بعضها والبعض الآخر ، وفيما بين هذه العلاقات وما تعطيه من دلالات ذهنية واجتماعية جديدة ، انه يحقق الانتماء دون أن يقوله أو يحكى عنه .
لقد كسبت كلمة (( انتماء )) دلالة سياسية ، واعطيت أبعادا لا تحتملها الكلمة ، فالفعل الارادى الطبيعى الذى يقترب من العفوية ، والذي تدل عليه الكلمة ، انتقل ليصبح التزاما ، أو هو أمر قريب من الالزام . ان الانطلاق من الداخل ، أى خروج الفعل من الذات ، تريد أن تتكامل اجتماعيا - هو ما تدل عليه الكلمة ، فالانتماء الى الأب هو الانتساب اليه ، وعندما نقول إن فلانا ينمى الى حسب وينتمى اليه ، فمعنى ذلك انه يرتفع اليه ، فهى كلمة ذات
منطلق فردى ومردود اجتماعى - بل هى أصدق كلمة تدل على ذلك الحوار المستمر بين الفرد والمجتمع . ولكنها تحولت فى المجال السياسى الى اشراك فى التعبير عن مبادئ سواء كانت توافق ميول الاديب أو لا توافقها ، وقد يتناقض معها وجوديا فلا تمس مكامن الابداع فى نفسه بل ربما لا تقترب منها أقل اقتراب .
قد يكون التزام الاديب بالخطوط السياسية العريضة لحزب أو تنظيم لا يلزمه بحدود ضيقة فى مجالاته الابداعية ، ولكن هذا لا يكون الا فى احزاب الطبقة المتوسطة فى حالة صعودها ، وسيطرتها على السلطة وايمانها بالحرية الاقتصادية والفكرية ، أما عندما تقع الازمة وتتشبت الطبقة بالسلطة ، فانها تتحول ضد الحرية بمفهومها هى ، ولا ترى فى الحرية الابداعية المتسعة التى يمارسها الاديب الا طنينا فارغا لا ضرورة مثلما يرى حزب عقائدى ، مثل هذه الرؤية فى حالة عدم تعبير الاديب عن شعاراته بكل وضوح ، وبصوته المرتفع الذى يصل الى حد الصراخ . ان دائرة الانتماء تضيق حتى تصبح الآن حلقة محكمة توضع حول رقبة صاحب القلم ، فلم يعد أمامه غير السكوت ، أو الالحاق .
الانتماء الحقيقى هو انتماء الاديب الى الوطن ، انه ليس نظرية ، وليس مبادىء يضعها عدد من الافراد ، كما انه لم يكن نظرية تملك من السيطرة والاقناع ما يجعل الفكاك منها يصعب على كل فكر - ذلك أن الانتماء هنا هو المولد والمنشأ والمصير ، والوطن كلمة امتكلت الوجدان منذ نشأتها ، أعنى تواجد المقومات التى دعت الى اطلاقها - ولا يعنينى هنا أن يكون منشأ الكلمة مرتبطا بالطبقة المتوسطة ومصالحها وعملها من أجل أن يكون لهذه المصالح مجال لا ينافسها فيه أحد ، وكذلك لا يهمنى كثيرا أن الادب الوجدانى قد امتلأ بالنماذج والمقطوعات التى تمجد الوطن والموت فى سبيله ، ولكن ما يعنينى هو أن هذا الشكل من التواجد الاجتماعى الذى تكون بعد مراحل تاريخية طويلة ، لم يوجد بعده ما يلغيه أو يفرغه من محتواه .
كثيرة هى النظريات التى اعتبرت الوطن مجرد شكل من أشكال الاجتماع ، ليس هناك ما يدعو الى المغالاة فى التمسك به ، ذلك أن شروطه يمكن تجاوزها بواسطة حركات سياسية واجتماعية كثيرة ، فهو دائم أو خالد ، بل إن علماء النفس اعتبروا التمسك به وحبه مرضا نفسا ، فالانسان المعاصر مطالب بأن يتجاوز اعتبارات كثيرة ، من بينها الوجدانيات التى
ترتبط بمسقط الرأس ، انهم يريدون أن يجعلوا الفرد يتجاوز وشائج ومقومات وجوده ذلك أن الآراء الداعية الى ذلك لم تطرح بديلا فى مستوى الوطن ، وأعنى بذلك ما للوطن من جذور تاريخية وجغرافية واجتماعية ونفسية .
ان حالة التشبع الاجتماعى فى الوطن كمحتوى لم تتغير ولم تصبح فاقدة لمعنى وجودها ، هذا بالاضافة الى أن تراكمات هذا المحتوى لم تفض الى تغير كيفى يتطلب تغيرا فى العلاقات فيما بين الوطن وبين غيره من الاوطان .
ان الوطن لم تستطع التطورات أن تفرغه من محتواه ، ذلك أن التغيرات التى تحدث فى داخله تأخذ فعالياتها من وجودها فى اطاره ، فلو كانت فى غير اطاره لنتج عنها مالا يعطيها أى معنى اذ تتحول إلى تجمع فتشتت فى تتابع ميكانيكى ، ويفقد الاجتماع أهم عنصر من عناصر وجوده ، وهو حيوية الظاهرة الاجتماعية واشعاعها ، لقد كانت الوحدات الاجتماعية تأخذ صفة الوطن ، وكان الارتباط بها من علامات تلك المرحلة ، ولكنها لم تكن قادرة على التطور ذاتيا ، فتطورها كان نتيجة احتكاك بعضها ببعض ، وتصادمها ليترتب عن اندماجها أو تشتتها تغيرات كيفية .
- ما هو البديل عن الوطن ؟
هل هو مجرد تجميع أوطان فى وحدة تترتب عليها كثرة عددية ، ولكن لا يترتب عليها تبدل كيفى ، مهما كانت الكثرة . فالكثرة العددية هنا ليست تراكما نوعيا ، انها عملية ميكانيكية فى حين أن عملية التراكم النوعى عملية ديناميكية اننا نجمع وحدات اجتماعية متفاعلة فعالة ، كل منها بمجاله الخاص بها ، لنضعها جنبا الى جنب . النتيجة هى اطار كبير بداخله عدد من الخلايا الحية كل منها يمارس حياته بعيدا عن الآخر .
هناك دائما جواب على ذلك بأن الزمن سيفعل فعله فى أن يخلق منها خلية واحدة قد تكون ذات نوى ، والاجابة على الجواب هى أن هذا سيكون حتى دون أن نضع الاطار ، اننى لا أغفل عاملى الارادة والوعى ، وفى نفسى لا أتغاضى عن عوامل رد الفعل الواعية وغير الواعية كالتقوقع والروح الانقسامية ، وحيوية جزء وسيطرته على بقية الاجزاء .
الوطن هذا التجمع الجغرافى التاريخى النفسى ، والذى يحمل تناقضات هى فى حالة صراع دائم من أجل امكانية الحل لتحل محلها تناقضات جديدة فى سبيل تشكيل تكوين متلائم متكامل ، ومحاولة دائمة للاشعاع الانسانى تكاملا وتفاعلا من منطلق له كيانه وأصالة تكوينه وبشريته والظروف التى ساعدت على ذلك مما جعل بعد ذلك للاعراف والنظم والقوانين منشأ واحدا ونفسية واحدة متقبلة - هذا الوطن عندما يتحاور فى مجتمع انسانى شامل - أصبحنا نطلق عليه اسم المجتمع الدولى - يكون حواره من أرضية ثابتة - مرتبطا غير منفلت مضيفا عاملا فعالا ، لا يكون عبءا ، بقدر ما يكون عضوا مهما بلغت درجته فى سلم الحضارة . وهذا ما لا يستطيع ان يمتلكه اذا افتقد تشكله ، أعنى دأبه وتحصيله الاجتماعى بواسطة استكمال لكيانه .
لذا كان انتماء الاديب معبرا عن هذه الفعالية ، وهذا التفاعل الحى الواعى . ان ذلك يعتبر نقطة الانطلاق المطمئنة للاديب ، مما يدفعه للعمل من أجل مزيد من الاطمئنان ان فقدان الحد الادنى من الاطمئنان الاجتماعى بالنسبة للاديب ، يفقده دواعى الانتماء ، مما يوقعه فى بحران من الهواجس ، يتحول بواسطتها الى لاهث وراء اطمئنان كاذب ، يحسبه موجودا فى التنظيمات والاحزاب ، والدعوات الغائمة ، ولن ينقذه بعد ذلك انتماؤه الى طبقة لو كان لسان هذه الطبقة الناطق .
ان البحث عن الاطمئنان ، هو ما يجعل الاديب مفتشا عن الاخلاق ، يريدها محددة من ذاته ، لا كما يراها مطاطية تتسع فى أحيان كثيرة للمعنى ونقيضه . انه يريدها فى جزئيات منها ، ينتقل هو بعد ذلك بالجزئيات فيعممها ، بعد ما تقوم بعملية اختيار دقيقة ، حتى يحصل على القليل منها ليجعلها شروط ابداعه . فاذا تمكن من السيطرة على هذه العملية الدقيقة ، كان التزامه قويا ، أما إذا لم يتمكن ولو جزئيا من الامساك بشئ منها فانه يذهب ضحية امحال نفسى لا يقدر على تجاوزه ، بل يقع فيه وينتهى أمره .
ان بنوة الاديب لطبقة مطحونة ، أو هى طبقة تحاول مصارعة أن تصعد فتضرب - تجعله يعانى معها فقدانها لحدود اخلاقية معينة ، فهى تتذبذب وتفقد الرؤية الواضحة مما يورث الادب التردد ، فلا هو قادر على استقطاب جزئيات اخلاقية يستظل بها ابداعيا ولا هو فى نفس الوقت بمستظل بجو اخلاقى عام .
ان حدوث تشبع وهمى دعاوى يرتكز على قيم عامة يوقع الاديب فى امحال دائم مثلما امتصت الفعاليات السابقة ، فلم يترك لها امكانية الفعل .
ان كل مجتمع يستطيع مهما صغر أن يدفع الاديب بتناقضاته الداخلية الى الابداع فى ظل تقاليد وأخلاق مرعية ، ولكن جزئياتها هى ما يراها الاديب ويعايشها ، ومن هنا كان ابداعه ، فالتقاليد والاخلاق بوجودها نتيجة لمراحل طويلة وتعبيرا عن احتياجات اجتماعية ونفسية لا تكون عائقا فى طريق الابداع ، الا اذا قولبت وجمدت ، ان الحركة الداخلية الموجودة فيها هى ما يدركه الاديب ، فى الوقت الذى يحجم عنها عندما يراها وقد توقفت الحركة فيها ، فتحولت الى دوران حول بؤر وهمية .
عندما تتكون الدوافع الاجتماعية حركيا ، تولد الفعالية والاحتكاك الواعى ، الذى يساعد على اطلاق الفكرة والابداع مما يشحن الالفاظ بالمعانى والدلالات، فيوفر ذلك لحظات الاستكشاف المفرحة لدى كل فرد . وبالعكس من ذلك فان ظلام جانب من المجتمع يبقى بقعة ظلام فى نفس الاديب ، وهو أمر عند الانسان العادى لا يتطلب أكثر معالجة بواسطة الطب النفسى . أما ظلام جانب من المجتمع فهو أمر لا يمكن معالجته ، ويستعصى حتى على الثورات الاجتماعية . ان الكآبة الاجتماعية التى تسيطر على قطاعات من المجتمع فى حالات تغيره وتطوره هى حالة انحدار فى جانب من المجتمع يتبعها انحدار فى جوانب أخرى لذلك فان الوعى بالحركة الاجتماعية هو ما يواجه به هذا الامر، اذ هو خلاصة ما يتبلور من ملاحظات فى المجتمع داخل الضمير . وخير من يلاحظ الحركة الاجتماعية ، والحركة التى تساوقها أو تتناقض معها داخل النفوس هم الادباء . انهم لا يكتفون بجانب واحد أو عدة جوانب ، اذا هم يغوصون فى تيار الحركة . انهم لا يلاحظون الحالة ، ولا يشخصونها ، انهم لا يقومون بدراسات حقلية أو احصائية ، ولكنهم يفعلون أكثر من ذلك ، انهم فى لمحة واحدة يلتقطون استقطابا ما يدور فى المجتمع ، فيدركون التناقضات رغم أنها لا تبدو فوق السطح ، ويلاحظون مدى أهمية الفكر فى حالة وجوده أو غيابه ، ويتأملون مسيرته من أجل تكوين بناء اخلاقى ، فى الوقت الذى لا يغيب عنهم ان الاخلاق بعموميتها هى الجو العام . ان الادباء بفعلهم هذا يعانون الاستكناه الدائم الذى يشبه الاستبطان ، غير أنه أشمل ويرفده الوعى الدائم ، رغم أنهم يأخذون من ذواتهم مثلما يأخذون من المجتمع مباشرة . انهم فى ومضة واحدة يعطون حالة دائمة من الفعل المتبادل الواعى ، الذى يسيطرون بواسطته على المتناقضات ، ولا يتركون الفرصة أمامها فى السيطرة
عليهم ، ذلك انه اذا ما تمكنت المتناقضات من السيطرة ، فانها لن تجعلهم اكثر من حالات ، أما إذا ما سيطروا هم فانهم يستطيعون أن ينقلوا الحاله أو الحالات او الظاهرة إلى مجالات التأثير والفعل ، بعد مرورها بالوجدان ، بالبحث عن مخرج أو حل يتمثل فى حالة من حالات التطهير الوقتى ، الذى يشبه حالة التطهير الكلى ، الا ان حالة التطهير الكلى لا تكون الا نتيجة حل لتناقض ازلى ، وحله لا يكون على حساب صعود معنى انسانى خلقى ، وهزيمة معنى يقترب منه او يشبهه فى القداسة ، سواء تمثل هذا المعنى فى شخص أو لم يتمثل .
ان حالات التطهير الجزئى ، والمترتبة على اقتناص ظاهرة جانبية ، أو تناقض صغير ، هى التى تكون دفعات للمجتمع ، أو لنخبته لكى يبحثوا عن مخرج ، دون أن تؤرق وجداناتهم ، فهى لا تؤرق غير وجدان الاديب . ان النخبة تطمئن الى المظاهر كثيرا ، وترى فى مجمل الاخلاقيات حماية ، فى الوقت الذى تتعامل مع الشكليات التى أفرغت من محتواها ، معتقدة أن وجودها يدل على توفر المحتوى ، فالعرى الاجتماعى والنفسى مغطى بكثير من التلفيقات التى يرتاحون اليها ، فهى لا تؤرقهم ، انهم حكماء المجتمع . . وعلى العكس من ذلك شأن الاديب فان هذا ما يؤرقه ويدفعه للانتاج وخلق النماذج الباحثة عن الانتماء بصدقها الحياتى والفنى وطريقة معالجتها .
أمر الاديب فى ذلك شبيه بأمر المصلح الاجتماعى ، ولكن هل دوره هو مثل دور المصلح الاجتماعى . قطعا الاجابة بالنفى . بل الاديب يكره أن يكون مصلحا اجتماعيا ، وان اتخذ سمته ، ونادى بما ينادى به ، ولاحظ الجوانب التى تتطلب اصلاحا معينا بقوانين أو قرارات ، أو دعا الافراد الى الاتصاف بصفات ليست عندهم ، وحرضهم على سلوك مسلك يرى فيه مستوى حضاريا . انه يفعل ذلك فى حالة رد فعل وقتى ، الا انها أمور لا تخفف من استمرارية الاستقطاب الداخلى المستمر . فالحالة عنده ليست أزمة ضمير ، يفرج عنها بكلمات ، الحالة عنده حالة تتطلب التغيير . الاديب صاحب فعل ثورى ، وليس صاحب فعل اصلاحى ، حتى ولو كان هو ابن طبقة صاعدة باستطاعتها الاستيلاء على السلطة دون عناء ، فالثورة عنده ليست ثورة دموية او انقلابا أو استيلاء ، انها عنده استمرارية الفعل وديناميكيته . الثورة عنده شمولية الحركة ، فهو لا يريد أن يترك جانبا من المجتمع دون أن يراه يتغير ويدخل فى مسار ديمومة الحركة وصيرورتها . لا يريد أن يرى جمودا ظاهريا . وهو يعرف أن هناك جوانب فيها الحركة ومستمرة ولكنها غير ظاهرة أو تتخذ مسارب جانبية فلا تلبث أن تتبعثر .
الاديب يريدها ثورة الوعى ، ففى ذهنه نظام ، ويرى أن الثورة نظام ، ويدرك أن قوانينها فى حركتها ، وأن باستطاعتها أن تجعل من الاخلاق الحية الفعالة صفاتها لا انعدام الاخلاق ، وأن الانضباط والنظام الدائمين والمرتبطين بالحركة فلا جمود هو ما يسيطر عليها لا الفوضى . هو يكره الفوضى ، فالفوضى هى الحركة فى حالة اتخاذها طريق التبعثر فالتلاشى فى مجال أقوى وأضبط . فالثورة هى الحركة فى المسار الفعال ، أما التبعثر فالتلاشى ، فهما مسارات العدم الظاهرى ، الذى يتقولب عند حدود معينة أو داخل فئة ، أو ارتباطا بقيود طبقة . ان المحدودية هنا فى الثورة هو العدم الظاهرى أما الثورة المنظمة فهى الوعى بالحركة ، وسيرا معها ، وانطلاقا منها وبها . ان الحدود والنظام هنا يتشكلان ويوجدان ويتطوران ويتحولان بالفعل الثورى المستمر ، والذى يتخذ صفة الاستقرار الظاهرى من توازن الفعل الثورى مع الحركة . انه ليس سكونا بل توازنا .
من أجل ذلك يكون الاديب ثوريا ، وليس اصلاحيا . وأعنى بالاديب هنا ذلك الخلاق فعلا بوعيه وثقافته وادراكه ، أديب هذا العصر الحقيقى ، وليس كل منتج لمنتجات باهرة لمراحله ، ذات تعبيرات ، وتجد حلولا داخلية ونفسية ، كما يفعل المصلح الاجتماعى هؤلاء لا يملكون الجذوة تلك التى بلورت الفعل والحركة ، ولكنهم يملكون حالة من حالات القلق والبحث ، وبعض جوانب التعبير ، فكانوا مصلحين يستعملون أدوات فنية .
فالاديب الذى أعنيه هو الثورى الدائم الذى امتلك المقدرة واستعصى على التحديات .
- فهل يمكن الحاق مثل هذا الاديب ؟
يمكن الحاق المصلح الاجتماعى ، أما الاديب الحقيقى فانه يستعصى على الالحاق ، ولكنه ينتمى بإرادته ووعيه ، فالانتماء حركة وفعل وارادة . هو ثورة مستمرة . انه يحقق دوره دون أن يقوله أو يحكى عنه . أما إذا تمكنت ارادة قوية من الحاقه ، فانه يحس بالقصور عن رؤية أشياء لا يراها . انه يتحول الى انسان يحكى أو يروى عن غيره ، ولا يعيش ويجرب ويعانى فيعى ، ثم يخرج اعمالا لها معانيها وايماءاتها وبهرتها . انه يفعل ذلك بأصابعه دون أن يكون هناك من يحاول اخراج ذلك منه . . فقط ديناميكية المجتمع ودوره فيه وارتباطه وانتماؤه هو ما يفعل ذلك .
الاديب لا ينتمى الا من داخله ، انه انتساب الى تقاليد ومعان ومبادئ رآها فى نفسه فهو يعتقد بأنها منه وهو منها ، وقد لا يكون منتميا اليها فى الاساس ، الا انها ذات وشائج نفسية أو فكرية أو تربويه بالنسبة اليه . ارتضاها أساسيا حديدا ومجالا وتعلقا وارتباطا ، لكى ترسم ويساهم هو فى رسم حياته من خلالها . هو فى ذلك يمارس حرية الانتماء ، مثلما يمارس تجدد الانتماء .
وعلى العكس من ذلك هو المصلح الاجتماعى الذى من أساس تركيبه ملحق بارادته ورغبته ربما كان الامر عكس ذلك ، اذن هو يعبر عما يجيش فى نفسه فقط يطالب ويكتب ويعبر وينادى بأشياء تصلح جوانب النفس أو المجتمع لتتلاءم مع قادم جديد أو حكم جديد أو مصلحة اقتصاديه وافدة . هو يريد بعض الحركة الجانبية التى تتعثر حتى خلق المجال الجديد الذى يستوعهبا .
وليس معنى الحاق المصلح الاجتماعى أنه عمل يتم من الخارج ، وليس بارادته ورغبته ربما كان الامر عكس ذلك ، اذا يعبر هو عما يجيش فى نفسه وفى داخل نفوس أفراد كثيرين هو أمر سهل ومطلوب ، وبالتالى فهو يفيد الاشخاص أنفسهم ويجعل غيرهم يستفيدون . انها سهولة الحركة الظاهرة على السطح ، فالتقاء الرغبات أمر يشجع عليه ومطلوب ، ذلك أنه لا يكون آخذا طريق الاحتدام ، فالاصلاح تغير على مهل ، يبدأ من الظواهر والشكليات ويمس فى بعض الاحيان دواخل الظواهر ، مراعيا الا يحدث تناقضا جديدا أو يغور فى الاعماق حادا ، مفجرا اوضاعا تم التعارف عليها ، لتترتب على ذلك حركة تحتدم .
ان المصلح الاجتماعى . ومن يشبهه من الادباء يفرحون بالالحاق ، ويعتقدون انهم ارتطبوا حقيقة . انهم يوهمون أنفسهم بالانتماء ، ولم يتعدوا أن التقت رغباتهم برغبة من يريدون سيلان الحركة وانسياقها وتسطحها ، كارهين أن يكون فيها يوما احتداما أو تغيرا أو أن يضرب فيها آسفين غورا محدثا تناقضا غير متوقع .
من هنا تتضح الفروق الجذرية بين الانتماء والالحاق . فروق تدلنا على أن الاصالة والتعبير والابتكار فى الانتماء ، اصالة الحياة واتساعها وشمولها. وقوة العمل وتعبيره عن جوهر الانسان وتفرده لا فرديته فى هذا الانتماء اما الالحاق فهو عمل يكلف الفرد يؤديه بأقل جهد ، وبلا جوهر ، وبعيدا عن الابتكار . انه مواصلة لا ديمومة واستمرار لا استمرارية ، ودوام لا ديمومة. فما أحرى الاديب أن يعمل من أجل أن يكون مجال الانتماء مجالا مقدسا لمن أراد أن يعمل فى محرابه .
