هي "لغة الحديث ولغة الكتابة " (*) لا " العامية والفصحى " لان التعبير الثاني فيه حكم وتقويم يعقدان لبسيط ويفتحان الباب للجدال . وقد لخص المسالة احمد امين كما ياتى :
" ولعل من اهم المشاكل التى تواجه العالم العربى الان استخدامه لغتين : عمامية وفصيحة ، والفرق بينهما كبير يستعمل احداهما فى البيت وفي الشارع وفي المجالس ويستعمل الاخرى فى الكتابة والقراءة ، ولم تنجح اية محاولة فى التقريب بينهما ، وهذا اضعف من اللغة الفصحى لانها لم تكتسب الحيوية التى تاتي من طريق الاستعمال اليومى ، واضعف اللغة العلمية لانها تستفد مما ينتجه الادباء والشعراء . ولا تزال المشكلة عويصة تتطلب الحل من المصلحين " (1) .
موضوع هذا البحث هو بيان بعض الاسباب التى تؤخر التقريب بين لغة الحديث ولغة الكتابة فى البلاد المتكلمة بالعربية .
1) في سنه 1951 نشر الشاعر اللبناني ميشال طراد مجموعة قصائد بلغة الحديث اللبنانية ، وكتب المقدمة لتلك المجموعة الاديب اللبنانى سعيد عقل كتبها كذلك بلغة الحديث اللبنانية . واليك نماذج من تلك المقدمة :
" كان كل شئ بالطبيعا عميوعد بنجمي جد يدى الصخر ما عاد يقبل يطيلع بس سبيل ... كانت بلشت تنسنهر وتوجع ، تحكى للحلوى . توشوشا...
التصوير كان من خمسين سنى بلش لعبتو . داوود القوم مش شى عادى . والفلسفي ما كان بقا الا تطل . ومتل اليوم نحنا بلهفى وعينين مجروحا ناظرين تبليشة العلم ... قصائد ميشال طراد مش تانيى بها الشعر . نفلكشتها بصبيعك فيك تقرا قصة الجمال بالشرق ... اللي ما عصرتو الخصا عصر اللى ما عقصتوا ها الحيى الدهما المشرقطا اللزيرى بيكون مثل كانوا ما اجاع الوجود " .
قرات هذه المقدمة مرتين واعترف بانى لم افهم منها الا البعض من الجمل المتفرقة . واعترف مارون عبود ، وهو اديب لبنانى ، بانه قرا تلك المقدمة اربع مرات قبل ان " يحكمها " (2) هذه حجة قوية على ان لغة الحديث لا يمكن ان تحل محل لغة الكتابة ، وان التقريب بين اللغتين هو الحل الطبيعي .
2) اثبت الاستاذ عبد الله كنون ( 3 ) ان لغة الحديث فى المغرب الاقصى تحتوى على عدد كبير من الكلمات التى تستعمل فى الحديث ولا تستعمل فى الكتابة وهي مع ذلك "فضيحة" ومثل ذلك يمكن ان يقال بالنسبة الى بقية اللهجات العربية . فاجتناب الكتاب لاستعمال هذه " العامية الفصيحة " من الاسباب التى تؤخر التقريب بين لغة الحديث ولغة الكتابة .
3 ) فى القرآن سبع لغات متفرقة هي الحبشية والنبطية والسريانة والفارسية والطحاوية والرومية والعربية ... فان قيل : كيف يجوز ان يكون فى القرآن غير لغة العرب ؟ وقد قال الله تعالى " قرآنا عربيا " وقال " بلسان عربي مبين " قلنا : ان الكلمة وان كان اصلها من لغة اخرى ، فانها اذا عرفت فى العربية ، واستعمالها اهلها ، فقد صارت عربية كسائر ما تتخاطب به عليه العرب من كلامها ، لذلك جاز ان يخاطب الله بها العرب . (4) "
هذا موقف بعض القدماء من العرب والدخيل وهو موقف عملى صريح . اما نحن فاننا نتسامح كل التسامح في استعمال الكلمات الاجنبية فى الحديث ، ونتشدد
كل التشدد فى استعمالها فى الكتابة فنباعد بذلك بين اللغتين . نقول راديو وتلفون ودكتلو ، ونكتب مذياع وهاتف وراقنة .
4 ) عرف شكيب ارسلان الشعر فقال " الشعر قول ثقيل وعبء عقلي باهظ لا يستقل به سوى الخناذيذ القرح والمغاوير السبق ، ولا يجيد الا الناخعون الكمل اولو القوة الباهرة والمنة الوثيقة " واعجب مصطفى لطفى المنفلوطي بهذا التعريف فادخله فى " مختاراته " واقبل قراء العربية على تلك المختارات فبلغت الطبعة الرابعة الخناذيذ ؟ القرح ؟ الناخعون ؟
يظهر ان الكتاب والقراء يشتركون فى هذا الميل الى غير المالوف من الالفاظ والتباهى بمعرفة الغريب منها ، والا كيف يعلل انتشار مختارات المنفلوطي هذا الانتشار وبلوغه الطبعة الرابعة وهو ليس من الكتب المدرسية ؟
لا اعرف شيئا يؤخر التقريب بين لغة الحديث ولغة الكتابة مثل هذا الميل الى غير المالوف والتباهى بمعرفة الغريب والنادر .
