الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

في النقد من خلال الغربال

Share

كنا درسنا فى السنة الجامعية الاخيرة ناحية طريفة من نواحى الادب ألا وهى النقد . وقد عن لى أن طالعت كتاب الغربال لميخائيل نعيمة . وما إن وجدت هذا الكتاب ممتعا حتى اسرعت بدراسته وبتبيان النقد من خلاله . والنقد كما نعته الاستاذ المنجى الشملى - فى مجلة الفكر : جانفى 1967 - .

" . . . ليس عملية اعتباطية تنشأ نشأة ذاتية غامضة ، بل هو وسيط بين المؤلف والجمهور تربطهما لحمة النتاج الفكرى الاصيل . .  . "

فاذا كان النقد إذن وسيطا بين الكاتب والقارئ ، فما هى انواعه ؟ وما هى مواضيعه ؟ ثم كيف يحسن ان يكون الناقد ؟ . هذا ما سنعلمه من خلال الغربال لنعيمة .

إن الناظر في هذا الكتاب يلاحظ نقدين اثنين : نقدا نظريا ونقدا تطبيقيا . وقد استهل نعيمة كتابه ببيان مختلف آرائه النظرية ، ثم اتمه بأن عمد الى بعض الآثار فطبق عليها تلك الآراء .

والآن سننظر فى هذه الآراء ، وسنحاول أن نعرف كيف وقع تطبيقها على مواضيع الادب .

فى الغربال نظريات وآراء وتوجيهات ينبغى على الناقد الحصيف اعتبارها . ومن بين هذه النظريات النقدية نذكر ما يلى :

- إن محور الادب هو الانسان . وما النقد الا خلق وابداع ، وليس مجرد استحسان او استقباح .

- النقد هو التميز بين الصالح والطالح ، ولا نعتبر الضعيف فى ناحية ما ضعيفا فى جميع النواحى .

- الناقد قد يخطئ وتزل به القدم ، وذلك لانه بشر غير معصوم .

- قلما اتفق ناقدان يوما على رأى واحد ، وذلك لأن لكل ناقد غرباله .

- لا يكون الناقد ناقدا اذا تجرد من العقل وراح ينقد حسب القواعد المقررة .

- الناقد مولد . فهو عندما يستحسن امرا فلأن هذا الامر ينطبق على آرائه فى الحسن ، والعكس .

- الناقد مرشد . إذ كثيرا ما يرد كاتبا الى صوابه .

- يجب ان لا يكون الناقد شاعرا حتى يرد على الشعراء ، ما دام هذا الناقد لا يعوقه شئ عن ادراك اللذة الروحية .

هذه هى اهم الآراء النظرية فى النقد كما نستشفها من خلال الغربال . ونريد ان نعلم الآن كيف عالج نعيمة مختلف المواضيع مبتدئين بــ :

اللغة :

يرى نعيمة ان الادب رسول بين روح الكاتب وروح القارىء . والاديب الحق هو الذي يزود رسوله من قلبه دون أن تكون لغة هذا الرسول معرضا للازياء والزخارف اللغوية ، فالمهم - عند الاديب - هو سبيل النفس لا سبيل المعجم . يريد نعيمة اذن أن يبسط اللغة شيئا ما إلا أنه يجد نفسه فى ضيق لا يستطيع الخروج منه . وهذا الضيق يتمثل فى كيفية كتابة الرواية التمثيلية . فهو يدعو فى الاول الى كتابتها باللغة العامية ، وذلك لان الفلاح الأمي مثلا فى الرواية لا يتكلم الفصحى . والمؤلف الذي يتكلم الفصحى يكون قد ظلمه . ولكن نعيمة يتبين له فى الاخير انه اذا كانت كل الروايات بالعامية ، فان الفصحى ستنقرض . لذلك هو لا يجد حلا لهذه المشكلة . وكل ما وصل اليه هو انه يجعل المثقف يتكلم فى الرواية بالفصحى ويجعل الأمي يتكلم بالعامية .

وفيما يخص الفصحى ، فقد هاجم نعيمة اولئك الذين يتعصبون لها تعصبا شديدا . فهو تارة يعتبرهم كالحباحب التى تخدع الناس بنورها ليلا ، وتارة يعتبرها كالضفادع التى تنقنق فى مستنقعاتها بلا انقطاع . فالمدافعون عن الفصحى هم زمرة من المدافعين عن ماضيهم بعبارات عاطفية ، غيبية ، دينية ، وهم مصابون بداء الشهرة اصابة الخطيب المتقعر الذى يعتلى المنبر حبا فى حديث الناس عنه أو اصابة الشاعر الذى لا تستحى أن تصفعه .

وقد اجاد نعيمة - اذ شبه المتزمت تزمتا لغويا بمحراث الحقل . هذا المحراث الذى تهطل عليه الامطار فلا يزيد إلا صدأ . فمن الواضح اذن ، ان نعيمة لا يعنى بالمطر إلا ما نعلمه من أمر الدخيل اللغوى . فالدخيل غذاء لا بد منه ، احببنا أم كرهنا . وهو موجود عند المثقفين والأميين معا . والدليل على وجوده

عند الأميين ، استعمالهم حروفا لا وجود لها بين حروفنا الهجائية ، نحو (G.E.O) . فالدخيل اذن شئ حسن وهو سبب من اسباب تنمية اللغة وترقيتها وإن كره المنقنقون . بل وإن كره خطيبهم الذي يقول نعيمة على لسانه فى ( ص : 92 من الغربال ) : وأرانا اذا غضضنا الطرف عن هذا الدخيل ، لفى خطر كبير من انتشار الفوضى فى لغتنا الشريفة المحبوبة " .

نستنتج من هذ القول ، ان كل اللغات تتطور إلا العربية . فان التطور يأتيها لا من قدامها ولا من خلفها ولا من تحتها ولا من فوقها . وذلك بسبب الضفادع التى نصبت أنفسها حراسا لها ، ولكنهم باقون فى حراستهم قعودا والحياة بهم تسير . وهكذا فان نعيمة يرى ان اللغة لا تخضع لنقيق المنقنقين ، بقدر ما هي تخضع لقوانين الحياة . فهي كالشجرة تبدل اغصانها اليابسة باغصان خضراء .

ويرى نعيمة ايضا ان الفهم هو الاساس فى اللغة . فبما انى افهمك فلا فائدة فى الرجوع الى القواميس ، وما الادب الا معرض للافكار ، وليس هو معرض للالفاء . فالفكر والعاطفة هما الجوهر ، وما اللغة الا قشور . بل ما هى الا رموز ضئيلة للافكار والعواطف المطلقة . فالافكار والعواطف اوسع بكثير من الالفاظ ، ولذلك تجدنا نقرأ مضطرين ما نسميه " بين السطور " . وهذا الذى نسميه كذلك هو اعمق مما فى السطور . ولهذا السبب فان قيمة الالفاظ مكتسبة من قيمة المعانى .

وبما ان هذه المعانى مطلقة فى كل اللغات ، فلا بأس أن نتزود منها . اما اذا قررنا بأن لغتنا شريفة كاملة لا تحتاج الى غيرها فما علينا إلا أن نكسر اقلامنا ونبقى فى منازلنا ولا فائدة فى ان نسعى الى الثقافة بجميع انواعها ، ما دامت لغتنا قد بلغت الكمال . . . وبعد أن اهتم نعيمة باللغة ، اهتم بـ :

الشعر والشاعر والعروض :

فبين ان الشعر هو الحياة بما فيها . وهو لغة النفس ، بل هو فن بصعب تحديده فى تعريف . وليس هو مجرد التراكيب والقوافى والاوزان . فالغاية من الشعر هى التعبير عن الحياة بما فيها من خير وشر .

وبما ان الشعر من الشعور ، فالشاعر الحق هو الذى يتفق مع القارىء فى شعوره ، فيجعله يكتشف عواطفه عن طريق عواطفه هو نفسه . فالشاعر لا يفعل سوى رفع الستار عن العواطف ، فاذا بالقارئ يقرأ نفسه .

والشاعر عند نعيمة هو نبىء وفيلسوف ومصور وموسيقى وكاهن . هو ذاك

الذي يكون مدفوعا الى الكتابة بعامل داخلى هو سيده . فالشاعر هو الذى يخبرنا بما فى قلبه الهائج ( كشكسبير ) . هو اذن ترجمان النفس . هكذا ، لا يعتبر نعيمة احدهم شاعرا إلا إذا تأثر فأثر . وما عدا ذلك فيعتبرهم نظامين سرعان ما ينسى نظمهم .

فالتأثر والتأثير هما اذن شرطان اساسيان فى نجاح الشاعر . فهو عندما يصور لنا حيرته تتصور امامنا حيرتنا . لان عواطفنا جميعا مشتركة ومصدرها النفس .

وهذه النفس لا تحفل بما نسميه " عروضا " . فهى لا تهتم بالاوزان والقوافى بقدر ما تهتم بما فى هذه الاوزان والقوافى من عواطف .

فالشعر اذن عاطفة " لا صناعة " . وكم هم الذين أتقنوا البحور وحفظوا الزحافات والعلل ومع ذلك لا يستطيعون ان يقولوا شعرا .

وقد نظر نعيمة فى ما نسميه بالقافية ، فاعتبر ان القافية الواحدة تقيد العواطف . ولذلك هو ينادى بتنوع هذه القافية . وكلما تنوعت كان المدى اوسع فى الشعر . اى كان الشاعر اكثر حرية .

والجدير بالذكر ان نعيمة يعتمد فى نقده على الاختيار . فهو يفضل بيتا واحدا من الشعر يلمس فيه نسمة الحياة وحرارتها على ديوان كامل ولكنه بارد .

وفى خصوص ترجمة الشعر ، فان نعيمة يطالب المترجمين بأن يترجموه عن الاصل المباشر لا عن ترجمة الترجمة . لان ذلك من شأنه ان يوضح المرامى ويفهم المعانى التى قصدها الشاعر الذى نترجم اشعاره .

هذه هي تقريبا اهم اراء نعيمة فى الشعر والشاعر والعروض ، فما هى آراؤه فى :

النثر :

لقد اهتم نعيمة - في الغربال - اهتماما كبيرا باللغة وبالشعر ولكنه قصر فى موضوع النثر . ورغم هذا التقصير ، فقد كانت له فيه نظريات من بينها :

- ان للنثر المنظوم موسيقاه . اى للجملة العربية موسيقاها .

- النثر لا ينحصر فى السجع . وهذه خطوة الى تهديم البديع ، والى حرية التعبير لذلك نادى نعيمة باتباع الشعر المنثور . على ان الذى يعنيه من النثر

هو ما في الكلمة الواحدة من روح مقدسة . فالمعاني عند نعيمة اكبر من الكلمات .

والذى يلفت انتباهنا فى موضوع النثر هو ان نعيمة أراد ان يدخل فى الادب العربى موضوع الرواية التمثيلية . وهذه ناحية تجديدية طيبة . ذلك ان الرواية لم تكن تشغل بال الادباء العرب فى مطلع هذا القرن ، فى حين انها قد رفعت النهضة الادبية الاروبية . قلت لم تكن تشغل بالهم وذلك لانهم لم يدركوا اهمية التمثيل فى الحياة . فالشعب العربى ما زال يعتبر الممثل بهلوانا الممثلة عاهرا . وما زال حتى المثقفون انفسهم يعتبرون المسرح مفسدة للاخلاق الطاهرة اى مفسدة .

هكذا يرى نعيمة ان المسرح هو الذى يربى الذوق ويرفع الآداب ، كما يرى - من جهة أخرى - انه لا فائدة - اثناء الكتابة - ان نستعمل كلمات حوشية قديمة ثم نجعل أمامها ارقاما . ثم نضطر الى تفسير هذه الكلمات فيما بعد فى اسفل الصفحة ، بعد ان نكون قد وضعنا انوفنا فى القواميس وقتا طويلا . يقول نعميمة فى فصل [ شكسبير خليل مطران ] ما يلى : " على المعرب ان يبتعد عن الالفاظ الميتة الثقيلة على السمع . ولا حاجة بنا ان نضع رقما بجانب الكلمات يرسلنا الى اسفل . فأولى به ان يخاطب اهل العربية بلغة يفهمونها . و ما يفعل المترجم لو مثلت الرواية امام السامعين ؛ فهذا يقف المثل ليفسر للسامع قائلا : " سيداتى سادتى ، اعنى بكذا كذا ، وبكذا كذا . . " ؟ .

فالاقلاع إذن عن مثل هذا الاسلوب امر لا بد منه . وقد طبق نعيمة نفسه - فى الغربال وفى غيره - الاسلوب الواضح ، واختار الالفاظ المستعملة ، فهل طبق ايضا فى مطالعاته ما كنت اشرت اليه فى بداية هذا البحث من النظريات ؟ هذا ما سنتعلمه بعد حين . سنعلمه بعد ان نذكر ما بقى لنعيمة من آراء حول :

النقد والناقد :

ان اهم الآراء التى يمكن ذكرها فى هذا الباب هو رأى نعيمة الخاص بالمقاييس الادبية . اعنى بماذا يمكن ان نقيس هذا الاثر الادبى او ذاك ؟

يجيبنا نعيمة ، بأن كل ناقد يقيس الاثر الادبى كيف شاء ، وهو لا محالة مصيب لاختلاف الاذواق . فالمقاييس اذن لا يمكن حصرها لانها مطلقة . إلا ان نعيمة رغم هذا الاطلاق يرى بعض المقاييس الثابتة التى تتجاوز الزمان والمكان . وهذه المقاييس مشتركة بين الادباء عامة ، وقد حصرها نعيمه فى اربعة اصناف :

1 - حاجتنا الى الافصاح عن كل ما ينتابنا من العوامل النفسية . 2 - حاجتنا الى نور الحقيقة . 3 - حاجتنا الى الجميل فى كل شئ . 4 - حاجتنا الى الموسيقى .

هذه هي المقاييس النابعة من الذات الانسانية ، والتى يجب ان يقاس بها الادب . فتكون قيمة هذا الادب بمقدار ما يسد من هذه الحاجات . وكلما كان الناقد قادرا اكثر على تسديد هذه الحاجات كان ناقدا ناجحا .

ولا يكون الناقد ناجحا الا اذا توفرت فيه كل أو جل الشروط الآتية : الاخلاص فى النية - المحبة للمهنة - الغيرة على الموضوع - دقة الذوق - رقة الشعور - تيقظ الفكر . . . وبذلك يقوم بوظيفته التى هى التقويم والخلق احسن قيام . وبذلك ايضا يصير ناقدا حصيفا بعيدا عن الصلف الفكرى .

وبهذا المقدار انهى الحديث عن نقد نعيمة النظرى كما جاء فى مختلف المواضيع متسائلا : هل سيكون وفيا فى تطبيق هذا النقد ؟

لقد عالج نعيمة فى الغربال عدة آثار ادبية معاصرة . ويبدو أن هذه الاثار كانت كلها موافقة لمذهبه فى النقد ، اعنى المذهب التأثرى الذاتى . وهو المذهب الذي تنبنى عليه كامل فلسفته النقدية . ومن هنا يمكن القول بأن نعيمة كان قد وفى بتطبيق آرائه على مطالعاته . ولعل وفاءه يظهر اكثر فى اطلاعنا على كيفية ممارسة الاثر الادبى .

ولئن تجلى لنا النقد من خلال الغربال ، فانه لا يفوتنا ان نبين اهمية هذا النقد . وهي اهمية تظهر خاصة فى التيار التجديدى للنقد الحديث . ذلك ان الغربال يعتبر هزة اديبة عنيفة تدعمها ثقافة متنوعة ، الى جانب الهزة الاخرى التى احدثها العقاد والمازنى في " الديوان " . وتظهر هذه الاهمية ايضا فى مدى النقد التطبيقى الذى تحلى به الغربال ، وفي تلك اللهجة التهكمية اللاذعة الكفيلة وحدها بايقاظ النائمين .

ع . ع .

اشترك في نشرتنا البريدية