حين لفظتنى أرحام أمى فى ليلة شنيعة فى أدغال الدنى ، مزق بكارة سمعى زئير مكهرب الصدى صفعنى بأحرف ملحة المعنى نقشت فورا فوق جدران الخضوع والشقاء .. (( ابتكرت مهزلة الانسان لتتسلى بها عرائس القدر .. تغرق سآمة فى دعاية اللانسان )) ! صرخت جزعة وأنا أتخبط فى أكفانى الدامية المهترئة . بكر الليل ، والليل صديق . هرب القمر وبأحشائه ألغام تفرقع ، وصبابات تحترق ، تطمس أعين الكون برمادها القاتم .
تردد الصوت النائح فى الفضاء . ضحكت الطبيعة من الطفل الميت الحى الذى ما زال دم أمه يعمى عينيه بحزن عميق . سحيق . لكن الصوت ضاع فى رحاب المستحيل . الحياة سبيل الارواح الشاردة . والبقاء مصير من كان له الرفض جلادا ومقصلة .
لكمة على صدغى المتورم .. ابتلعت حنظل خيبتى ، واختنق الصوت فى سرداب حلقى .
تواطأ الله مع الزمن . جئت شبه انسان . عن عمد أم عن خطأ ؟ انما جئت فى يوم كان الدهر موثوق القدمين ، مصلوبا على رأسه تنزف مناخره سخطا .
جثت !!!
انتحب الليل لمجيئى زجرت الملائكة ناقمة : (( لابد أن تقتل . كفى الايام وباء !! الابالسة هازئة )) لا بل ستعيش .. الزمن جائع . القحط يهدده . والفناء يترصده . سلب جل ما يملك ، فهل سنسلبه آخر ما بقى له .. الغذاء اليومى ؟!!
قهقه الزمن وهو يبصرنى أتدحرج مرتقة الجسم لادفن فى سفح أشجانه . أيهفو البشر الى الفرار من مخالبى . هيهات ان يستجيب القدر . رصد الانسان
ليكون قبلة تسليتى . من لحمه غذائى . ومن عظامه جمراتى التى أتدفأ بها فى الليالى الباردة .
عجز صوتى المذبوح عن الصراخ . ناحت الاحزان معى .. ألا بد من البقاء ؟ ألا بد من العذاب ؟
أبرق الرعد ساخرا : وما لدنيا من غير عذاب ثمرة لحظة هوس وحمق أيرفع الصوت من لفظته بؤرة الفسق والزنا ؟
بقيت أتأرجح بحبل عجزى المقطوع . عندها تف الاله فى وجهى بكل اباء ، كلمة مسعورة الايقاع ، حصدت ما بقى من سنابل تساؤلى ورفضى (( عيشى للعذاب .. له خلقت )) وراح يخفى تشفيه وسط خيمة مثقوبة الضياء . ارتكن فى احدى زواياها ليرمق من حين لآخر عربة النحس تجوب بى دهاليز العناء .
من يومها وأعضائى تحترق بخورا فى مدفأة الزمن . من يومها ودمى يغسل منعرجات الوجود . يسقى أتربته العطشى . من يومها وجسمى ينسلخ كل يوم . يجرد من جلده . يفرم لحمه . يطبخ فى فرن التعاسة يمكن ان يلتهم . دوما لا بد أن يلتهم !!
ينتزعنى ملاك الليل . يرتق جلدى الممزق . يضمد جراح جسمى المسلوخ يسيل على عباءة حنان مراوغ . خبيث الطيبة . أرتشف ترياقه المسموم . أنام وساحرات الزيف يرتلن طقوس الموت فى مأتم الحياة . لحظات رأفة . أجثو فوق صدر السراب . أرتقى سلالم الوهم هاربة من حوافر الحقيقة التى تدوس كيانى .. تعلكنى الساعات . أنام .. تزدرد الشمس الجائعة رغيف الليل الاسود . لا تبقى منه فتاتة . يجلدنى سوط الواقع المر . يسعل النهار فى قوقعة مدوية . يعود الزمن يفتح فمه الابخر ، تصطك أسنانه ترقبا . وأعود أهيئ جسمى وليمة شهية لبطنه الجاحد النهم .
هتفت أنثى وهى تعلك ببلاهة أشلاء جيل مضى من الذل والخشوع . (( عشت دهرا سعيدة فى قمقم الالم . أرتج تحت وخزات دموعى الباسمة . لم أسأل يوما عن نهاية مهزلة أعرف أنها ستطعننى بفظاعة أسرارها !! صهل شبه ذكر بغباء وجسمه قد تكور كقنفذ ميت حشر بمسامير القهر : (( الحقيقة !! غرقت فى يم خمسين دمعة ولم أسأل لم كان الليل ليلا والنهار نهارا ؟ لم كان الضعيف ضعيفا والقوى جبارا ؟ لم نتناسل ثم نموت ؟ لم تتزاحم أكياس الذهب فى درج جارى ؟ ولم أنا دوما خاوى الجيب ؟ وكان القدر حليفى ،
دثرنى بكساء الغباء والحمول .. اختطفت السعادة التى كان لابد أن أحظى بها ما دمت مبقور الطموح ، مكسور العزيمة )) .
خلق الانسان ليكون بضاعة تباع وتشترى فى سوق الوجود . حيوانات تقضى الدهر لاهثة خلف أعشاب تقتاتها . يمتلئ جسمها . يتضخم عودها . تتناسل . تتصارع . يفتك هذا ما بيد الآخر . يخنقه . يقضى عليه . يعتصر دمه ليبيعه خمرة معتقة الى شاربى الدماء .. يحرق العظام الباقية ، يتاجر برمادها . تشتريه جنيات الاسى ، يكحلن به عيونهن قبل أن يضاجعن الابالسة المتوقدة الرغبة .
لا بد أن يروح الجميع في يوم ما وليمة دسمة لمارد الزمن ، ما دام من قبل أن تأتى قد كتب الله مصيرها فى خرقة سوداء ، بدم سفاح مجوسى ، أنها ستذهب قربانا للزمن .. أن تتلهى بنطحها قرون الزمن .. من العبث أن أتساءل .. ومن الجنون أن أصمت . من الحمق أن أقضى العمر كحصاة مفتتة تتقاذفها أقدام القدر بغبطة مفجعة .. ومن الجنون أن أركع لجلادي ولا أرفض.. ألعق تعسفه قانعة.. خرساء .. (( عندما يتفاقم الجنون يكون اللا إنسان قد وصل إلى ذروة التبصر الانسانى .. ويكون العقل قد ابتلعته شرنقة الحياة الجريحة ، المحتضرة بين أيدى الرافضين !!
أركله باحتقارى وسرب من الصقور العطشى تحوم حولى باحثة عن منهل تروى به غلتها . أفر بما بقى لى من قوة . الخلاء شاسع . الارض ضيقة .. رحيبة .. انها الابواب موصدة . والطرق مسدودة . التراب مبلل بالدمع تمور فى خفاياه أحلام افريقية مجهوضة ، وقد كانت بها النفوس حبلى بالاوجاع .
العجوز الشمطاء جاثمة فوق الثرى المشحون بالدمار كساحرة غجرية منبوذة . نار مستعرة الوهج تتراقص أمامها . قدر كبير قاتم اللون يغلى فوق الحطب المتوقد ، يشخر كثور يذبح بمدية صدئة .
(( ضائعة . والضياع لحن ملحد .. رافضة والرفض موت مدمر .. )) تخور بقهقهة ترتج لها أغصان الغابة العرجاء .. (( هذه حقيقة العالم تطبخ فى القدر الكبير . مفاهيمها جافة ، متصلبة ، مريرة المذاق لمن كان الوعى رصيده . عذبة النكهة لمن كان الغباء والركود مصيره ))
(( المجاعة تحاصرنا .. والتشرد يطردنا ، ألهذا العذاب من نهاية ؟ ))
(( المجاعة وجهة الارواح المطاردة - المطوقة ، بسلاسل العسف ، والقيم الزائفة.. والتشرد قبلة العالم المتحضرة ، الزاحف نحو العدم. لن تكون نهاية ما دام للبؤس والظلم فى كل يوم بداية .
(( لقد اختلست الذئاب كل شئ .. لم تترك غير النباح للكلاب الجائعة ..))
(( النباح نشوة من حصدته مناجل دنياه .. وعزاء من تشعبت مسالك خيره وشره )) ..
أعود مدحورة أغوص فى فجاج الآلام ، والعالم المسحوق يلفظ انفاسه فى ديجور مفاهيمه المطعونة ، ومبادئه الممزقة الخلايا .
أتمرن ثانية على العواء . أحاول خرق أغشية السماء السميكة . يزحف القدر نحوى . بقطع أسلاك صوتى النصف مذبوح . يكسر أشواكه . أبقى أتخبط فى متاهات الحزن . تنغرز أسنانه المذببة فى . أمد يدا متهشمة أجاهد فى اختلاس ولو سن منها . ينغلق فمه على يسد سبل القرار . يلوكنى . يلوكنى . ثم يبصقنى على الثرى عشبا طفيليا ، مالح الطعم كالدفلى الطازجة .
تلتقفنى أحضان رفضى المستعرة . أعود أبحث عن قبرى تحت سفح الايام العقيمة .. مفككة الاوصال ، يغلى صوتى بثورة لا لجام لها . أعود أنبح رافضة السير وسط قطيع (( اللاإنسان )) رافضة أن تنقش معالم قدرى فوق مستنقع يشحنه غثيان (( اللاإنسان ))
أصرخ .. أصرخ .. تتدلى كمامة من السماء ، سرابية الرؤية تختطفها يد لئيمة المسعى تربت فى حنان قاتل على كتفى . يلسعنى الدفء الفتاك الصقيع . يقفز قلبى فى صدرى ، يترنم بأغنية الامل الجنائزية . أبتهل الى الله .. ألثم الفضاء بأدمعى الجذلى . تغفو أحزانى لحظة ساجدة ، مترقبة . تنتهز اليد اللاذعة الحنان لحظات غفوتى لتلقى بالكمامة ، فوق فمى . تلجمنى . أحاول الزعيق . أزأر .. أعوى .. أموء .. يموت صوتى فى مقبرة حنجرتى .
يزم الزمن شفتيه مشمئزا ، ساخرا . تنتحب الايام لاهبة . يكشر القدر باسما مستمعا الى صوت الاله وهو يلقى على مسمعه للمرة الالف .. دعابة الانسان فى مهزلة الحياة !!
يعود اللاإنسان يسير مكمم الفم بالقهر والحرمان .. مفقوء العينين مكسور القوائم . يسير فى أدغال الكون . يسعى . ويسعى . يقتات الهموم . يتغذى
الشجن . يتقاتل .. يتشاجر . ينهزم . ينتصر وينتظر شهية الزمن ليروح له وحبة ساخنة ، مفعمة بالبذل والخنوع .
وتكون المهزلة قد انتهت . نزلت الستارة تحجب مأساة الانسان تخفى عن أعين الله معاناة اللاإنسان .
يندب قلبى فى عويل أبكم . أضمد يدى المبتورة الاصابع . أتعلق بحبال أحزانى . أحاول الصعود الى السماء ، اختطف رفات عمرى من براثن القدر تلفحنى رياح متعفنة الشذى . يعتصرنى غثيان كافر . أتقيأ فوق أديمها الكالح ، القاحل التربة . تخرج الملائكة من مخابئها مزمجرة حانقة يتمنطق الجلاد هراوة ملتهبة . يهوى على رأسى . يدوسه فى التراب ليلعق القيئ المنهمر من ثغرى المفتت الشفتين .
تزوغ عيناى تبحثان عن الله لينقذنى من مخالب العدم . لكن الضباب كثيف ، والظلام متمرد السحب يحجبنى عن أعين الله . أبحث عنه . لا أجده . أظل الطريق . يهرول مختبئا . يتجاهلنى عن عمد لا عن خطأ !!!
تحيط بى آلاف الارواح الحاقدة ، تزغرد فى نشوة مفجعة النواح . أنقاد لعرسها الدامى . تلتف بي الابالسة النهمة ، تمزق فستان عرسى القاتم . تتسلق جسمى عنوة تنهش أنوثتى غصبا . تنتزع المتعة منى قصرا . تنقش وشمها فوق نهدى المحترقين .
أصفعها . أخرمش وجهها باظافرى . لكن أصابعى مبتورة . مكسورة الاظافر تركلنى ثائرة بعد أن كومت بقايا أنوثتى ، لترمى بها لكلاب الجحيم تنهشى فتاتها . تمتص ما بقى منها من رحيق .
تلقى بى على الرصيف الموحل . يتفتت رأسى . يسحق كحفنة تراب جافة . أعود أجرى عبر مسالك الوجود .. أسائل عذاب الدجى ، هل وجدن أشلاء ذاتى ؟ هل رأين شظايا رأسى المتحطم ؟
تعانقنى الاشجان مواسية (( سعادة اللاإنسان هى أن يجهل حقيقة الانسان. يبقى بلا وعى .. بلا عقل .. بلا تخمة تفكير . ان وجد نفسه يوما ، أضاع ذاته تحت ركام تعاسة اللاإنسان ))
أظل أبحث وأنا أخشى أن أجد نفسى . أخشى أن يزج الدهر بى فى حضيرة اللامعقول ، مع قطيع ماشية الانسان ..
أمتطى جواد الهموم المتناحرة حولى . أصرخ بصمت .. متى يستفيق اللاإنسان ؟ الى متى تبهر عقولنا الصدئة دعابة الانسان ؟
أرفض . أندب . ولا من مجيب . الحمير ما تزال ناهقة ، تبحث عن حشرات تدوسها بحوافرها . وأشباه البشر يتقابلون . يتنازعون فى الصباح ، ليتصالحوا فى المساء . يبتسمون . يلثمون الوجوه علانية ، ويجلدون بعضهم بعضا فى الخفاء .
يتسابق هذا لتسلق هامة الآخر كى يصل قمة جبل متهدم ، ملغم الاحشاء ينحنى لحظة لتناحرهم ، ثم يلفظ فجأة نيران براكينه يلتهم الكل . تنسفهم مجانيق القدر الازلية ، بعد أن عاشوا دهرا للغباء والجشع مطية .
وأنا دوما أتعثر فى حظيرة الدنى مشروخة المعالم ، أبحث عن الحقيقة . عن مقر تحت خباء الفضاء الممزق . ترمقنى مقلة القدر الغاضبة . ترجمنى لعنة الملائكة الساخطة ، وصوت الرياح يلطم أذنى .. يا عالم الموؤودين الضائعين أما سمعتم معزوفة الغضب ؟
أما مارستم نشوة الرفض ؟ أما علمتم أن مناشدة الحقيقة ضرب من الخبل والعدل درب من دروب الفناء والاضمحلال ؟؟
يعصف البكم ، يقصم الرقاب . يقصم الاعناق .. يذر بقية غبار انهيارى ورفضى ويكون الله بعد أن انساق لخرافة الحياة ، اجترفته مهزلة الزمن فى معترك القرف والملل ، قد نسى فى تخمة اللا مبالاة والسأم أسخف نادرة عرفها الوجود .. وأمر علكة لا تفتأ تجترها وحوش القدر .. حقيقة الانسان .
يعود الى سباته وقد ابتسم لحظة للمهزلة المؤلمة ، انما حتما لن تهمه فى شئ بلاهة أطوارها .
متى اهتم الله بقصة تافهة ، ميتة المعانى . مقتولة المغزى عنوانها .. (( مأساة الانسان .. فى عالم اللاإنسان !!! ))
