لما قبض على الامين وخاف على نفسه الموت قال له بعض أصحابه عن أخيه المأمون : ان الرحم ستعطفه عليك - فقال الامين : هيهات ! الملك عقيم لا رحم له !
وهذا العقم لا يعنى الكف عن الانجاب لان الحكم ولود ، وهو فى البلاد النامية التى يستحسن فيها تنظيم النسل ، القناة الوحيدة التى تترك لها حرية الولادة ولا تمارس عليها عمليات التعقيم . بل ان الولادات تتدفق منها أحيانا بنسبة تضر بالجسم فينعكس ضعفه على النسل مثلما يحدث لانواع الغلال آخر الفصل . ثم يظهر التشويه ويتزايد وتستفحل العاهات وتتوالد حتى ينشأ جنس عجيب غريب ليس من فكرة خالق ولا صنعة حاذق . ولا شك أن الامين حين قال ما قال نظر الى اشتقاق الرحم من الرحمة ، وهو أدرى بطبيعة الحكم من غيره لانه سبق أخاه المأمون الى قطع صلة الرحم حين نكث عهد ابيه الذي أودعه الكعبة وأوصى فيه للمأمون بعد الامين ، فلما صار اليه الامر نسى أنه ابن لابيه وأخ لاخيه فخلع أخاه وأوصى لابنه من بعده . والعبقرى الذي قال : ان التاريخ يعيد نفسه صور التاريخ حلبة دائرية الشكل لابد أن يقع فيها الحافر على الحافر ولا يستطيع الفارس فيها مهما كان ماهرا الا ان يبقى على مسافة قارة من مركز الدائرة .
والحكم لا رحم له ...لانه كثيرا ما ينحدر من رحم تنجب بطريقة لا عادية ولا شرعية وكم من نظام حاكم جاء الحياة متسترا كابن الحرام أو بعملية قيصرية أليمة ، فلا يكون بحاجة الى بطاقة ولادة أو شجرة نسب ويعمد الى قطع صلاته بالرحم التى دفعته الى الوجود لان الارحام ترد اليه صورته التى
لا يريد أن يراها وتذكره بسنة الحياة التى فيها قدر الموت . وصلات الرحم لا تقطع بين الآباء والابناء وحدهم أو بين الاخوة مثلما فعل المنتصر بأبيه المتوكل وما فعل الامين بالمأمون ثم المأمون بالامين بل تقطع كذلك بين كل الاقربين . فقد سمت جعدة بنت الاشعث زوجها الحسن بن على بن أبى طالب طمعا فى الزواج من يزيد بن معاوية ، ووضعت فاختة أم خالد بن يزيد مخدة على نفس زوجها مروان بن الحكم وقعدت فوقها مع جواريها حتى مات وعلق عبد الله بن الزبير أخاه بباب المسجد وقتله ضربا وغدر المتوكل بصديقه ابن الزيات فأدخله فى التنور الذى كان يعذب فيه الناس ، والأمثلة كثيرة لا تحصى .
ولكن رحم الحكم - على عقوقها - اذا حنت أغرقت الارض كالطوفان . وهي لا تغدق خيرها العميم على الاهل الاقربين والابعدين وحدهم ، بل تشمل العباد والجماد ، ولا تكتفى بالعائلة الصغيرة بل تضم اليها القبيلة والعشرة ولذلك كان ابن خلدون عبقريا حين اكتشف أن العصبية قوام الدول .
ان المجتمعات فقدت أصالتها حين ضاعت منها البداوة ، فاصطنعت فى هذا العصر أرحاما من الورق سمتها أحلافا ومعاهدات ، وكثر الاجهاض وارتفعت نسبة الوفيات فى السن الاولى رغم كل وسائل الوقاية .
وقد يكون العقم في الحكم نعمة للحاكم والمحكوم . . ولكن . . ألسنا في عصر جنين الانبوب ؟
