لو أردت الذهاب فى يوم من الايام ، الى سيدى المرجاني ، لانتهيت الى بطحاء كبيرة شاسعة تحف بها أشجار عظيمة شاهقة . تحت الاشجار ، مقاعد عمومية خشبية قديمة لا لون لها . فى أحد زوايا البطحاء نهج ، ووسط النهج تنفرد قبة جميلة ، مجصصة ، بيضاء ، بابها صغير أخضر وأحمر ، نوافذها صغيرة خضراء وحمراء . . .
فهذه القبة هى قبة سيدي المرجاني . وتلك البطحاء هى بطحاء المرجانية
لو اتجهت نحو القبة ، لشاهدت أمام بابها نظيفا ، مرشوشا ماء لابعاد الغبار والذباب . . وتحت الجدار محابس قرنفل وحبق وقطمير . وصناديق صغيرة : الصندوق بجانب الصندوق وقفاف صغيرة ، القفة بجانب القفة ففي الصناديق تفاح وأجاص زمن التفاح والأجاص ، برتقال ومادالينة زمن البرتقال والمادالينة ، وتمر وسفرجل وزعرور وعناب ونبق فى فصل الخريف فى القفاف حمص مقلي وقنفيد وحلوى فى قراطيسها الشفافة وصفافير وزرابط زمن الزرابط ، وبيس زمن البيس وكور صغيرة ذات الوان زاهية طول السنة . .
وراء الصناديق ، اى امام باب القبة ، وعند عتبتها ، حصيرة صفراء مفروشة ، وفوق الحصيرة زربية مختلفة الالوان قديمة ، وعلى الزربية شيخ مسن وقور له لحية غزيرة طويلة بيضاء ، اسمر اللون ، متجعد الجبين يلبس جبة قطن بيضاء فى الصيف و " بدن " صوف وبرنسا وبريا فى الشتاء . يسبح دائما ، وشفتاه تتحركان . حكة النفة بجانبه مستديرة فضية ، عليها نقوش ، وبجانب الحكة محرمة منكمشة كانها نشاف . في ايام الصيف تجد بجانبه مروحة صقيلة اليد سوداء بيضاء السعف . لكن لا يحتاج اليها ولا تراه يرفه بها عن وجهه الا نادرا فأمام القبة ظل ظليل ، وهواء بليل ، ولو اشتد الحر فى اعماق الصيف
يلفت انتباهك - فوق باب القبة - قفص من القصب المحروق ، عقيقى التركيب ، جميل المنظر ، وعصفور يقفز ، ويحرك ذيله ، وينتصب على عود من أعواد القفص ويميل رأسه ، وينصت ثم يغنى
عيون الشيخ صغيرة مغلقة او تكاد ، لا تفتح الا قليلا . . اذا وقف امام القبة احد ، فتظهر زرقاء . . والا فهى مغلقة ، والشيخ غائب في عالم بعيد .
ترى الطفل واصحابه يقفون امام القبة - اى أمام صناديق عم بوسعيد فيختار أو يختار له أصحابه البرتقالة ، أو التفاحة ، أو الصفارة ، أو الزربوط او ربما يكثر تشاورهم ، ويطول ، ويضطرب اختيارهم ، فيحتارون . وعم بو سعيد ينظر هادئا باسما . . واخيرا يقع الاختيار ، ويمد الدورو او العشرون فيرجع البقية اذا كانت ثمة بقية ، ويذهب الاطفال فرحين ، ويعود الشيخ الى نفسه . .
بحذاء محابس الازهار كرسيان ، وتارة ثلاثة ، غليظة السيقان ، مقاعدها من سعف النخل وعلى كل مقعد وسادة
يجلس الى عم بو سعيد ، امام - مسجد المرجانية - ، الشيخ محمد الساعات الطوال الصباح كله او العشية كلها ويتخلل جلوسه القيام الى صلاة الظهر او القيام الى صلاة العصر
ويجلس الى عم بوسعيد المرزوقى ، مؤدب كتاب المرجانية ، صباح كل يوم جمعة ، ومحرك الحومة الحاج معاوية ، وبعض شيوخ البطحاء في سائر الايام فيتحدثون ، ويشربون القهوة فى الصباح ، ويشربون الشاى فى العشية ويمر رجل من رجال البطحاء فيحيى الجمع باجلال . ويمر بعض رجال فيقفون امام عم بو سعيد والجالسين اليه ويتحدثون ثم يمضون في سبيلهم
وكل صباح يمر سى الهادى ، حارس حديقة البلفدير عائدا من عمله فوق دراجته . فلا ينظر الى القبة . . وهو يمر امامها ، بل يسرع دراجته ، فتدور عجلاتها تطوى النهج طيا ، ويدور حول البطحاء ، وسرعان ما يختفى .
من حين الى آخر يقبل على عم بو سعيد رجل من بلاده التى لا يعرفها احد أهى الجزائر أم المغرب أم دوز أم الجريد ولم يرجع اليها منذ خمسين سنة او اكثر أو ربما لم يعد اليها منذ غادرها .
يحل الضيف ، فاذا بعم بوسعيد فرح متهلل الاسارير . . يجلس الضيف النهار كله على اقرب كرسى فى بدلة عربية جديدة بيضاء : صحته جيدة ولونه اسمر من لفح الشمس ، والهواء الطلق . . فيتحدثان عن البلد البعيد بصوت خاقت وعم بو سعيد مغتبط ، منشرح الصدر يسأل ويسأل والضيف يجيب
يبقى الضيف : الشهر والشهرين الصيف كله أو ربما الصيف والخريف وبعضا من الشتاء ويختفى يوما ويغيب ولا يعود أبدا . .
يصلى عم بو سعيد الصلوات الخمس فى أوقاتها كلها . فقبل صلاة الظهر او صلاة العصر يقوم ويقف على حافة صندوق من صناديقه ويتناول سجادته المعلقة على الحائط بجانب الباب ، ويطرحها على الزربية ، ويصلي . .
يأتى الاطفال ، فيترقبون او يبقون ينظرون الى الشيخ ، والشيخ يصلى . . وما امتدت يد مرة ، واختلست رمانة ، او كرة من صناديق عم بو سعيد ولا فر احد ولم يدفع ثمنا
أما صلاة المغرب ، او قبل صلاة المغرب بساعة ، يقوم عم بو سعيد ، ويطوى زربيته ، ثم يطوى حصيرته ، ويدخلها الى القبة . ثم يقف على حافة احدى صناديقه ، وينزل عصفوره ، ويدخله الى القبة ثم يدخل القفاف : قفة ، قفة ، ثم الصناديق : صندوقا ، صندوقا ، فالكراسى : كرسيا ، كرسيا ، فالازهار زهرة زهرة الاولى اولا والثانية ثانيا ، ثم يتناول محرمته ، وحكة النفة ويتناول مفتاحا كبيرا معلقا داخل القبة ويغلق الباب ، ويتجه الى المسجد
فعم بوسعيد قصير القامة اذا وقف ، وبلغته صغيرة اذا وضعها فى رجليه ، وخطواته بطيئة اذا مشى ، وفى يده اليمني عكازه ، وفي يده اليسري مسبحته تتدلى سوداء حتى ركبتيه ، محرمته كبيرة اذا طرحت لكن يمسكها من نصفها فتنحدر بجانب عكازه حتى نصفه او اكثر .
ينتهى عم بو سعيد من صلاة المغرب ، فيبقى فى المسجد ساعة للذكر ، والترتيل ، او لتلاوة القرآن . . اى حتى صلاة العشاء ، بعد صلاة العشاء يعود الى القبة بخطواته الوئيدة ، فيغلق بابها من خلفه ، ويشعل شمعة او قازا صغيرا ، أو قنديلا ويبقى النور الشاحب زمنا ثم يختفى . ويفتح عم بو سعيد الباب ويخرج بعد تناول عشائه ، للتجول فى البطحاء وحولها .
فكل ليلة يتمشى قليلا تحت شجر الكلاتوس ، ثم يمضي متأنيا بين جبانة سيدى سفيان المطلة على البطحاء وجنب الكنيسة التى تمتد حتى البطحاء ايضا . وحين يقترب من واجهة الكنيسة يخترق الطريق ، ويدور يمنة ، ويسير بين جبانة سيدى سفيان ، وجبانة سيدى المرجاني تاركا الكنيسة وراءه وبالاخص بابها الرئيسى فعلى الباب صليب طويل رهيب أسود اللون .
ولا يمر تحت نوافذ مبيت الرهبان واذا سمعهم على بعد يتحدثون او يقهقهون او يتلون بصوت مرتفع ، يرتعد جسمه ، ويسرع خطاه ، ويهرول وهو يقرأ سورة " قل هو الله احد " جهرا حتى تختفى عنه الاصوات . . عند ذلك يخفف من سيره . . واذا مر بجانبه راهب يدير وجهه ، ويتمتم ، ويدير الراهب وجهه أو لا يديره ولا يشتم أو يشتم بدون ان يحرك شفتيه ، وهو يبتسم وعيناه تبرقان . . عندما يصل الى البطحاء يجلس دائما على نفس المقعد الخشبي موليا الكنيسة ظهره ، وقبالته صف طويل من مخازن وحوانيت في نصف دائرة او يكاد فمن اليمين او من اقصى اليمين مطلع نهج سيدى عبد الحق وفوق النهج مصباح يرسل ضوءا شاحبا وتحت المصباح حانوت عطار ينبعث منه ضوء قوى . وبعد الحانوت مدخل عمارة فمستودع لسيارة احد سكان العمارة فمخزن كبير بابه من حديد ، فحانوت عطار آخر صغير قصير الباب مغلق وتليه دار عربي عتيقة منخفضة الباب ، منخفضة الجدران . ومن الدار يفتح حانوت صفائحى ثم حانوت حلاق منفرد الشكل ، والبناء ، جدرانه عالية بابه كبير جديد حديث الدهن ، يلى هذا الحانوت مخزن للخمور عظيم الباب مرتفع ، ثم حانوت حلاق آخر عادى بسيط لا قيمة له . وفي النهاية ضوء شاحب لمصباح فوق المنعطف المؤدى الى نهج الرمانة .
بعد نهج الرمانة ، تظهر احدى زوايا جبانة سيدى سفيان ، وعلى اليسار وطوال الجبانة نهج سيدى عبد الحق من جديد ، فالنهج يأتى من اقصى اليمين ، ويخترق البطحاء طوال الحوانيت والمخازن كلها ، ويمتد بين جبانة سيدى سفيان ، وجنب الكنيسة ، وينتهي عند التقائه بجبانة سيدى المرجاني وبنهج البروتستان المنبعث من اقصى يسار واجهة الكنيسة والسائر بين الجبانتين حتى نهايتهما
ووراء الشيخ ، الكنيسة كلها ، فهي تبتدئ عند انتهاء نهج سيدى عبد الحق ، وترتمي حتى البطحاء . وعند منتهاها فى اقصى اليسار يظهر نهج
المرجانية ، ويظهر معه نهج سيدى بوزين ويلتقيان عند البطحاء ، وبينهما سبالة .
فى نهج المرجانية وعلى اليسار - وبعد عشرة أمتار تقريبا - القبة . وفي نهج سيدي بوزين وعلى اليمين - وبعد عشرين مترا - مسجد المرجانية .
وراء المسجد ، وداخل زنقة تسمى زنقة بكار يوجد كتاب المرجانية ، وتاتي الزنقة ، فتفتح على نهج المرجانية عند قبة عم بو سعيد .
يبقى عم بوسعيد جالسا زمنا ساكنا صامتا ، والمارة كالاشباح يتقدمون ، يمرون امامه او خلفه ، يتابع من يتابع سيره فى نهج سيدى عبد الحق ويدخل من يدخل الى حانوت العطار ، وينعطف من ينعطف ، ويغيب فى نهج الرمانة ؛ ويخترق من يخترق البطحاء طولا قاصدا نهج سيد بوزين او نهج المرجانية ويبتعد من يبتعد ويتوارى بين الجبانتين ، ويقطع من يقطع البطحاء عرضا ويختفى فى نهج سيدى عبد الحق ، ويظهر رجل فيسير طوال جنب الكنيسة ويقترب من عم بوسعيد شيئا فشيئا ، وينظر اليه وينظر عم بوسعيد بدوره فلا يتبينه .
وتنبعث كروسة من اقصى اليمين اى من نهج سيدي عبد الحق فيسمع ركض خيلها ورنين اجراسها ، والكرارسي شبح قائم يطلق سوطه فى الفضاء محدثا دويا تنزعج له الخيل ، فيزداد ركضها ، ويشتد ، وتطقطق عجلات الكروسة ، مضطربة تهتز فوق الاماكن الخالية من الاسفلت . فتمر امام الحوانيت هامة سوداء متجهة نحو الكنيسة وسرعان ما تدور حولها وتختفي
يقوم عم بوسعيد ويسير رويدا رويدا يقطع البطحاء بدوره ويدخل الى نهج المرجانية ويتناول مفتاحه من جيب فرملته .
لم يذكر احد انه مر صباحا فوجد عم بوسعيد نائما وقبته مغلقة ، كما لم يذكر احد انه مر صباحا فوجد عم بوسعيد يخرج صناديقه ، او محابس الازهار ، او الكراسي
لا يغلق القبة الا عشية يوم الجمعة ، ولا يذهب الا الى جامع صاحب الطابع فى الحلفاوين ولا يجلس ، بعد الخطبة والصلاة ، الا فى قهوة العنق ، لتناول
قهوته . . وقبل المغرب بساعتين او اكثر ، يقوم لقضاء شؤونه فى الاسواق المجاورة وفي سوق الجديد على الاخص . . ثم يدب بهدوء عائدا الى قبته رويدا ، فيشرع فى السير فى نهج سوقى بلخير ورويدا رويدا يمر امام نهج النخلى ، وزنقة الفرانسيس ، وامام حوانيت عديدة يمنة ويسرة حوانيت حلاقة وعطارة ونجارة ثم يمر امام زنقة صانع الاسلحة ، فأمام نهج سيدي غرس الله فنهج الدوارة ، فزنقة الحجار ويصل الى نهج الكراسي الذي نسميه زنقة الشيشتى كان بامكانه ان يعرج يمنة فيدخل الى هذا النهج ويدور بدورانه وسرعان ما يصل الى نهج حمام الرميمي فيجتازه فاذا هو فى أول نهج سيدى عبد الحق وتظهر له اشجار الكلاتوس فى آخره وشئ من البطحاء
لكنه لا يريد ذلك ابدا فهو يفضل السير المتعب المرهق طوال نهج سوقي بلخير ونهج الخضراء ونهج باب الخضراء لانه حين يدخل نهج سيدي عبد الحق يصطدم من أوله بصراخ عجوز شمطاء ، وبمنظر شيخ وقح ، ثم بصياح وكفر مالطى يسمى صحليلو صاحب مخزن وكرارس لا يحصى عدها . . فمن اول النهج ينزع لصراخ فطومة الشمطاء وصراخ جارتها الايطالية ماريا . فهما تتخاصمان كل يوم ، فالجارة تصيح وفطومة تصيح " شوف انت ديمة مسخة ما تحبش تنظف الدار . ما حبش نظف وسط الدار انت بيتك كحلا فيها وسخ برشة دسفراساتو ، دسفراساتو انت . انا ماهبوشوا اغسلوا وسط دار ديمه انت هبو اغسلو انا . وانت ديمه هب اغسلوا اغسلوا " .
فماريا الايطالية تحاول ان تخاصم فطومة بلغة فطومة ، وفطومة تحاول ان ترجع الشتم والتعنيف بلغة ماريا . . لا يريد عم سعيد ان يسمع خصامهما وصياحهما ، كما لا يريد ان يشاهد ويدجى المالطى جالسا امام باب عمارته ودبوزة الخمر لا تفارقه ملفوفة فى قماشها المبلل ، يحرك رأسه كلما سمع خصام الجارتين ، يبتسم ، ويضحك لبعض كلمات ، ويقطب ، ويعبس لبعض كلمات ويعيد كلمة بصوت مرتفع باحثا عن معناها وفطومة تصيح ديسقراساتو ماريا ، ديسفراساتو مسخة انت موت فى وسخ امش جبانة فيسع " .
وتصيح ماريا " انا امشو جبانو ! انا امشو جبانو ! انت امشو جبانو يا عجوز يا هطبو انا ما زلت صغير اللطف على رب معايو "
وتصيح فطومة ربي معاك ، انت ربي معاك ! أنت كافرة كول حلوف كول ديمة حلوف خشم حلوف ساق حلوف رأس حلوف واشرب شراب انت امشى للنار يا مسخة يا عافنة " .
وتصرخ ماريا بشدة : " انا امشو نار نار ، انت امشو نار أنت مهبول مهبول ، ديمة صيح صيح وانت مسخ كافر منتن عندو ديمة كديد منتن أكهل انت ديمة مسخ عندو " .
وتصيح فطومة وتولول : " كديد منتن يا عافنة ؟ كديد منتن ؟ قديد كالمسك يشره يا حسره عليك قلت يا حسرة عليك شوف ماريا نخرج من شفاعة محمد نخرج من ديني ودين أجدادى اليوم يومك انت جنك وسط الدار وما تحبش تنظف وسط الدار وانت ديمة عافنة مكعله " .
يقهقه ويدجى ويمد يده ، ويتناول دبوزته ويتجرع جرعة هائلة ، ويزداد ضحكه ، وتزداد قهقهاته ويغص ويسعل ، ويهتز وينتفض مقهقها والدبوزة فى يده والخمر يسيل من فمه فيتجرع جرعة ثانية لتشفى الاولى ، ويضرب كفا على كف ، ويصيح إمكهلة . . إمكهلة " . لقد يجلس ويسكن وسرعان ما يعود اليه ضحكه ، فينطلق ثانية ويضحك ، ويضحك ويتلوى فوق كرسيه وتفيض دموعه ويحمر وجهه ، ثم ينقطع له النفس ، فيتوقف عن الضحك ويبقى يلهث ماسكا بجنبيه ودموعه تسيل . .
وويدجى عبارة عن تنين فى مريول ازرق او عبارة عن كرة عظيمة فوق كرسى ، وعليها كرة اخرى ، وفوق الكل قبعة أو بالاحرى عبارة عن برميل خمر ! .
عمارته نظيفة دائما ، جليز جدرانها نظيف ، رخامها نظيف . يدخل سكان العمارة فيحييهم ، او يحيونه ، تناديه اخته من داخل العمارة لتناول الغداء فيصيح فيها " ان تسكتى " إذا سمع خصام الجارتين . ويصيح فى كلبه المتمدد داخل العمارة ان يكف عن النباح
وتصرخ فطومة كول برشه لوح زبله برشه فى وسط الدار ، كول مقرونه صب ماء إسخون فى وسط الدار ، فين ما شيه فين بالوسخ متاعك يا دين أمي ؟ " .
وتصرخ ماريا " يادونومو كوزى كاى ، كوزى كاى فاتيني فاتيني ستاسيزى بورد جيلو انت ديمة أخزر أخزر أنا أش اعملو وانت ديمه امش امش ادخل اخرج ادخل بيت اخرج جلد كبش فى صباه كركركر ، كركركر انفض جلد
كبش ادخل بيت أخرج جلد كبش كركركر ، كركركر ادخل بيت اخرج ملحفة فل فل فل ، فل فل فل انت مهبوله ، مهبول برشه برش برش " .
تصرخ فطومة " انا برشه مهبول انا برش مهبول على خاطر نظيفة ؟ انا نظيفة بفداية ومعناية أنا ما عندوش عنكبوت في بيتو ، فى السقف انا ما عندوش عنكبوت تسمع والا " . يلتفت ويدجى الى جهة البطحاء وينسى فطومة وماريا وينسى صياحهما الشديد حين تطل جوجى الايطالية الجميلة الفاتنة وهي تنظر الى البطحاء .
وتصيح ماريا " أنا امشو نادى بوليس توا امشو نادى بوليس انت مرا ديمه تصيح ديمه تحب شماطه اعمل ديمه شماطه انا ما ارقدش انت ديمه وسط الدار هب اكنس ديمه كاعد وسط الدار كاعد إسكيفه أنا امش بوليس " .
تصرخ فطومة " يا هاملة تحب تعيط بوليس فى الدار انت متاع شوهة وفضايح بوليس فى الدار متاعي جيب بوليس نجبدله عينيه اخرج جيب بوليس بره جيب بوليس انت تجيب بوليس انا حوايجك إنحطهم لك فى الزنقه . . "
ينظر ويدجى الى جوجى ، وتنظر جوجى الى البطحاء يضطرب ويدجى ، ويتأوه علانية وما تنفك اخته تناديه الى الغداء ، وتصيح فلا يسمعها ، وتخرج جوجى الى النهج مرة فيهتز لخروجها جسم ويدجى ، وقد ظهرت قامتها وبرز جمالها كله ، فيغني ويزداد طربه فينبح له كلبه داخل العمارة فيحدث صدى هائلا مزعجا . .
تصرخ فطومة الليلة إنسكر باب الدار على راجلك والله فى ثم والله ما يحط ساقه فى الدار وانت تخرج تسكر الباب وبره اشكى وبره اسكن فى الجبانه متاع بورجل " .
تصرخ ماريا : " انا اسكن فى جبانه انت سكر باب دار انا كسر باب ادخل راجلى يحرك باب اقعد دار متاعك بلاش باب كورى ، وانت ابك ابك هب ديمة دار باهي وسط الدار باهى سطه باهى سقف باهى انت مهبول مهبول والله مهبول .
يصيح ويدجى ويغنى اغنية مالطية رائعة ، فيطغى غناؤه على صياح الجارتين ويميل رأسه ، ويترنم ، ويرفع دبوزته - والماء يتقاطر من قماشها - ويتناول
جرعة اكثر من فمه ، وعيناه لا تفارقان جوجى ، وجوجى لا تفارق البطحاء : تذهب وتجئ بين كرارس صحليلو ، رشيقة فرعاء : قائمة النهد قائمة الانف شماء فيعلو غناء ويدجى ، ويزداد تمايله فوق كرسيه فتبتسم له نصف ابتسامة ، وتنظر اليه بمؤخر عينها نصف نظرة ، وتميل رأسها لارسال شعرها الى الخلف ، فيضطرب ويدجى ، ويرفع يديه طالبا التئام المحبين وتآلف القلبين . . وجوجى خضراء العينين بيضاء البشرة حمراؤها ، صقيلة الوجه والمعصم أسيلة الخدين صافية الثغر ، حلوة الابتسامة ، عميقة النظر ، جذابة خلابة ساحرة ، رائعة فى صوتها نغم وبحة خفيفة دافئة يهتز لها قلب ويدجى ويختلج لها فؤاده . . .
يلوح خطيب جوجى بين الاشجار ، وسط البطحاء ، فتخف اليه بين الكرارسى ، متهادية ، تموج موجا ، تضحك ، ملوحة بيديها . . يلتقيان ويتعانقان فيدير وجهه فى وجهها ويقدمان الى حانوت والدى جوجى فى عناق وابتسام ويجلسان على العتبة وتهمس له فى اذنه ، ويهمس لها فى اذنها وتقبله ويقبلها ، ثم يتحدثان ، ويطول حديثهما ، ويكثر ضحكهما . . ثم تنظر جوجى فى يد خطيبها فتقوم ، وتدخل الحانوت ، وتأتى بملقاط صغير وتجعل تجذب له شوكة فيصيح ويتأوه عمدا ثم تقلع له بملقاطها شعرة هائجة على خده وهو يتلوى ، ويتمنع ، وهي ماسكة به لا تتركه ، يصيح ويصيح فتعض شفتها السفلى ثم تبتسم ابتسامة عريضة فتظهر اسنانها البيضاء الصافية ، وتطلق ضحكة رنانة ، يهتز لها خطيبها ، ويضطرب لها جسم ويدجى فينهض لحينه ، ويتناول دبوزته فى يد ، وكرسيه فى يد ويدخل عمارته قفزا على ساقه الوحيدة ، ويغلق الباب وراءه بعنف وهو يغمغم لاعنا شاتما
خطيب جوجى حسن الوجه ، اسمر اللون ، اسود شعر الرأس والحاجبين ، على صدره سلسلة ذهبية يتدلى منها صليب . وعلى صدر جوجى سلسلة ذهبية تتدلى منها صورة خطيبها .
يطول تعابثهما وضحكهما ووالد جوجى يتناول عشاءه على مائدة ، جالسا على كرسى صغير . عضلاته بارزة بيضاء موشمة ، شعر صدره رمادى منتفش رافع مريوله الخلعة ، يداه سمراوان ، وجهه اسمر ، كتفاه بيضاوان شديدا البياض ، شعر رأسه هائج ، قائم ، كثيف ، اشيب ؛ لا يلتفت الى ابنته وخطيبها ، يفكر اولا يفكر . يتناول عشاءه بأناة . ويأتى خطيب أخت جوجى الصغرى ، ويسلم على الجالسين ، ويتحدث مع خطيب جوجى وتقوم جوجى
لتنادى اختها داخل الحانوت . . تخرج الاخت بعد حين . تقول كلمتين لاختها وكلمة لابيها وتبتعد مع خطيبها . . يسيران بين كرارس المالطي صحليلو الواقفة يمنة ويسرة طوال نهج سيدى عبد الحق حتى البطحاء ويمران بجانب المعلم صحليلو ، وهو فى اقصى هيجانه يصرخ ، يحذر ، ويشتم ، يزبد ، ويرغي ، ويحمر وجهه ، وينتفض . ويسعل ويكفر ثم يصهل . . آمرا العملة باعادة ربط كروسة ، واعادة اصلاح عجلة ، واعادة تنظيف حصان ، واعادة ترقيع خرج ، ثم يقلب الكرارس : كروسة كروسة ويقلب الخيل : حصانا حصانا ، ينظر فى عين الحيوان ، يربت على ظهره ثم ينادى خادمه زنفير ليذهب بها الى السبالة
يقود زنفير الخيل الى البطحاء حصانين حصانين . تتدافع الخيل امام السبالة ويغطس الحصان الاول رأسه فى السطل ، وينفخ في الماء ، ويشخر ثم يجعل يشرب بسرعة والماء نازل من السبالة الى السطل ، صاعد طوال رقبته نحو بطنه . يرف جلد الحيوان فجأة عند وقوع ذبابة او للاشئ ، ثم يرفع رأسه بقوة ، ويبقى الماء يسيل من فمه زمنا ، والحصان قائم الرأس لا يتحرك ، ثم يعيد الكرة . .
ينتهى زنفير من سقي الخيل فيترك حصانين او ثلاثة تعود وحدها الى المخزن ، ويوثق البعض فى شجر الكلاتوس ، وسط البطحاء ، والبعض في نوافذ المخزن ، ونوافذ المخازن والديار المجاورة . . تمر الساعات والخيل مقيدة ، تدق الارض ، بحوافرها ، وتذب باذيالها يمينا وشمالا ، لشدة تهافت الذباب عليها .
ثم يشرع العملة فى ادخال الكرارس الى المخزن : كروسة كروسة ، يدفعونها والمعلم صحليلو امامهم يأمر وينهى . يدخلون الى المخزن جريا ، وكثيرا ما تعترض طريقهم خنزيرة زوجة المعلم صحليلو وصغارها من حولها . فيصيح بها المعلم ، فلا تنتبه ، ولا تتحول ، فيضرب مؤخرها بكل قواه ، فتفزع . الخنزيرة ، وتنطلق صائحة عاوية ، وسرعان ما تظهر زوجة المعلم ، عند باب المطبخ ، لصياح خنزيرتها ، وتصرخ فى زوجها ، فيزعق في وجهها ، فتغلق الباب بقوة ، وينتفض الديك الرومى ، ويطيل عنقه متأملا الخنزيرة العاوية وتقلبها مندفعة ثم يتابع تجواله بوقار ، وتمايل ، وخيلاء . تخرج الخنزيرة ركضا الى النهج وأولادها من حولها تصيح . يستعيذ عم بوسعيد ، ويقشعر بدنه ، ويهرول : الخنزيرة تعوى وتصيح فى نهج سيدى عبد الحق ، واولادها
جرعة اكثر من فمه ، وعيناه لا تفارقان جوجى ، وجوجى لا تفارق البطحاء : تذهب وتجيء بين كرارس صحليلو ، رشيقة فرعاء : قائمة النهد قائمة الانف شماء فيعلو غناء ويدجى ، ويزداد تمايله فوق كرسيه فتبتسم له نصف ابتسامة ، وتنظر اليه بمؤخر عينها نصف نظرة ، وتميل رأسها لارسال شعرها الى الخلف ، فيضطرب ويدجى ، ويرفع يديه طالبا التئام المحبين وتآلف القلبين . . وجوجى خضراء العينين بيضاء البشرة حمراؤها ، صقيلة الوجه والمعصم أسيلة الخدين صافية الثغر ، حلوة الابتسامة ، عميقة النظر ، جذابة خلابة ساحرة ، رائعة فى صوتها نغم وبحة خفيفة دافئة يهتز لها قلب ويدجي ويختلج لها فؤاده . .
يلوح خطيب جوجى بين الاشجار ، وسط البطحاء ، فتخف اليه بين الكرارسي ، متهادية ، تموج موجا ، تضحك ، ملوحة بيديها . . يلتقيان ويتعانقان فيدير وجهه فى وجهها ويقدمان الى حانوت والدى جوجى فى عناق وابتسام ويجلسان على العتبة وتهمس له فى اذنه ، ويهمس لها فى اذنها وتقبله ويقبلها ، ثم يتحدثان ، ويطول حديثهما ، ويكثر ضحكهما . . ثم تنظر جوجى فى يد خطيبها فتقوم ، وتدخل الحانوت ، وتأتي بملقاط صغير وتجعل تجذب له شوكة فيصيح ويتأوه عمدا ثم تقلع له بملقاطها شعرة هائجة على خده وهو يتلوى ، ويتمنع ، وهي ماسكة به لا تتركه ، يصيح ويصيح فتعض شفتها السفلى ثم تبتسم ابتسامة عريضة فتظهر اسنانها البيضاء الصافية ، وتطلق ضحكة رنانة ، يهتز لها خطيبها ، ويضطرب لها جسم ويدجى فينهض لحينه ، ويتناول دبوزته فى يد ، وكرسيه فى يد ويدخل عمارته قفزا على ساقه الوحيدة ، ويغلق الباب وراءه بعنف وهو يغمغم لاعنا شاتما
خطيب جوجى حسن الوجه ، اسمر اللون ، اسود شعر الرأس والحاجبين ، على صدره سلسلة ذهبية يتدلى منها صليب . وعلى صدر جوجى سلسلة ذهبية تتدلى منها صورة خطيبها .
يطول تعابثهما وضحكهما ووالد جوجى يتناول عشاءه على مائدة ، جالسا على كرسى صغير . عضلاته بارزة بيضاء موشمة ، شعر صدره رمادى منتفش رافع مريوله الخلعة ، يداه سمراوان ، وجهه اسمر ، كتفاه بيضاوان شديدا البياض ، شعر رأسه هائج ، قائم ، كثيف ، اشيب ؛ لا يلتفت الى ابنته وخطيبها ، يفكر اولا يفكر . يتناول عشاءه بأناة . ويأتى خطيب أخت جوجى الصغرى ، ويسلم على الجالسين ، ويتحدث مع خطيب جوجى وتقوم جوجى
لتنادى أختها داخل الحانوت . . تخرج الاخت بعد حين . تقول كلمتين لاختها وكلمة لابيها وتبتعد مع خطيبها . . يسيران بين كرارس المالطي صححليلو الواقفة يمنة ويسرة طوال نهج سيدي عبد الحق حتى البطحاء ويمران بجانب المعلم صحليلو ، وهو فى اقصى هيجانه يصرخ ، يحذر ويشتم ، بزبد ، ويرغي ، ويحمر وجهه ، وينتفض . ويسعل ويكفر ثم يصهل . . امرا العملة باعادة ربط كروسة ، واعادة اصلاح عجلة ، واعادة تنظيف حصان ، واعادة ترقيع خرج ، ثم يقلب الكرارس : كروسة كروسة ويقلب الخيل : حصانا حصانا ، ينظر فى عين الحيوان ، يربت على ظهره ثم ينادى خادمه زنفير ليذهب بها الى السبالة
يقود زنفير الخيل الى البطحاء حصانين حصانين . تتدافع الخيل امام السبالة ويغطس الحصان الاول رأسه فى السطل ، وينفخ في الماء ، ويشخر ثم يجعل يشرب بسرعة والماء نازل من السبالة الى السطل ، صاعد طوال رقبته نحو بطنه . يرف جلد الحيوان فجأة عند وقوع ذبابة او للاشئ ، ثم يرفع رأسه بقوة ، ويبقى الماء يسيل من فمه زمنا ، والحصان قائم الرأس لا يتحرك ، ثم يعيد الكرة . .
ينتهى زنفير من سقي الخيل فيترك حصانين او ثلاثة تعود وحدها الى المخزن ، ويوثق البعض فى شجر الكلاتوس ، وسط البطحاء ، والبعض في نوافذ المخزن ، ونوافذ المخازن والديار المجاورة . . تمر الساعات والخيل مقيدة ، تدق الارض ، بحوافرها ، وتذب باذيالها يمينا وشمالا ، لشدة تهافت الذباب عليها .
ثم يشرع العملة فى ادخال الكرارس الى المخزن : كروسة كروسة ، يدفعونها والمعلم صحليلو امامهم يأمر وينهى . يدخلون الى المخزن جريا ، وكثيرا ما تعترض طريقهم خنزيرة زوجة المعلم صحليلو وصغارها من حولها . فيصيح بها المعلم ، فلا تنتبه ، ولا تتحول ، فيضرب مؤخرها بكل قواه ، فتفزع الخنزيرة ، وتنطلق صائحة عاوية ، وسرعان ما تظهر زوجة المعلم ، عند باب المطبخ ، لصياح خنزيرتها ، وتصرخ فى زوجها ، فيزعق فى وجهها ، فتغلق الباب بقوة ، وينتفض الديك الرومى ، ويطيل عنقه متأملا الخنزيرة العاوية وتقلبها مندفعة ثم يتابع تجواله بوقار ، وتمايل ، وخيلاء . تخرج الخنزيرة ركضا الى النهج وأولادها من حولها تصيح . يستعيذ عم بوسعيد ، ويقشعر بدنه ، ويهرول : الخنزيرة تعوى وتصيح فى نهج سيدى عبد الحق ، واولادها
وراءها تركض ، رآها بعينيه الاثنتين تتململ ، مقذعة ، مروعة ، تترجرج فوق سيقانها القصيرة النحيفة النجسة السوداء . رآها بعينى رأسه ، تترعرع منبعثة تضطرب حمقاء ترغي وتصيح وآذانها تطربق . يتابع عم بوسعيد سيره فى نهج سوقى بلخير ، وهو يتمتم ويرتعد ، ويصل الى بطحاء باب الخضراء ، ويمر بين باعة الغلال والخضر ، وأمام سيدي الحلفاوى وهو يقرأ آيات من القرآن الكريم . ويصل الى باب الخضراء ، فيخرج من الباب الاول رويدا رويدا وقد عاد اليه بعض هدوئه . وعند الباب الثاني يدخل الى مسجد سيدى براك الجمال ويتلو الفاتحة ثم يتناول شربة ماء من المحبس الموضوع بجانب الباب امام الزاوية ، ويضع قطعة نحاس فى الصحن . ويتابع سيره فى نهج باب الخضراء ، وقد انتهى كل شئ . . يمر بزنقة القلعة وببعض حوانيت تبيع القرط والتبن والشعير وببعض شوائين وسراجين حتى يصل الى نهج المرجانية ، فيدخله ، وتظهر له فى آخره القبة ، وشئ من البطحاء . .
يفتح القبة ، ويضع ما اشتراه من اسواق الحلفاوين . وبعد برهة يخرج متجها الى مسجد المرجانية لصلاة المغرب . . . يبقى فى المسجد ، كالعادة حتى صلاة العشاء ، ثم يدخل القبة . . ولا يخرج عم بوسعيد الى جولته الليلية يوم الجمعة .
تتهيأ البطحاء شيئا فشيئا لتحيا حياتها الليلية بقدوم عربات البلدية وتتوسط البطحاء عربة عظيمة . وتنطلق البراوط لرفع الزبال ، فتتوغل فى الانهج والازقة المجاورة .
ويظهر سى الهادى من نهج سيدى عبد الحق ، كعادته كل مساء ، فوق دراجته ذاهبا الى عمله ، يدور حول البطحاء بأناة وخيلاء . ويدخل نهج سيدى المرجانى وناقوسه يحذر ، وضوء دراجته يبرق . يمر امام قبة عم بوسعيد فينظر اليها ، وهى مظلمة مغلقة ، هادئة ساكنة ، يدير ساقيه بأناة ومهل فتسعى دراجته حتى آخر نهج سيدى المرجانى ، فيزيد فى رنين ناقوسه ويدير المقود يسرة فتدور دراجته متجهة الى باب الخضراء ، ثم الى البلفدير
من حين لآخر تعود الى البطحاء برويطة ملآنة تسير بثقل ، فتوثق بسلسلة منحدرة من العربة الكبيرة وتصعد فوق سكة ببطء حتى تصل فوق العربة
فيقلبها العملة ثم يدفعونها فتعود القهقرى خفيفة مهرولة ، يتناولها صاحبها من جديد وينطلق بها عدوا الى الازقة . . وتمتلئ العربة الكبيرة بدورها فيأتى اليها محركها يهدر ، ويدخن ويسير القهقرى حتى يصطدم بها ، وتغادر البطحاء بثقل ودوى ودخان كثيف . . تمر ساعة ثم تعود خفيفة مهرولة فيصعد فوقها العملة من جديد وهكذا فى حركة دائمة حتى الفجر
عند الفجر ، ينتهى التنظيف ، وتغادر العربات البطحاء ، فتبقى خالية ، واسعة ، نظيفة الا من بعض قشور بطيخ ، وقشور هندى ، ورؤوس اسماك مبعثرة هنا وهناك والذباب ملتصق بها لا يتحرك .
. . . تدب الحركة من جديد . فتفتح ابواب ، وتغلق ابواب ، ويمر رجال قاصدين اعمالهم في الصباح الباكر بخطوات ثقيلة ، فيسمع وقع اقدامهم على بعد ، وتسمع الهمهمات والهمسات ، ويسمع رنين نواقيس ، وركض ، ثم تخرج كروسة من كرارس صحليلو من نهج سيدى عبد الحق ، وتسرع وسط البطحاء ، والكرارسي واقف يلوح بسوطه ويصيح فى الخيل . . للناس ادب وتسامح في الصباح ، فلا يتحدثون عن مشاكلهم ولا عن اعمالهم انما يستقبلون النهار الجديد بالدعاء الطويل ، ويستقبلون بعضهم بعضا بالكلمات الطيبة بصباح الخير او نهارك سعيد . يرسل رجل دعاءه جهرا ، فيجد تجاوبا في المبكرين ، ويقع في القلوب وقعا جميلا باعثا الثقة ، والنشاط ، والاعتماد على الله وعلى السواعد ايضا .
يؤذن الشيخ محمد أمام باب مسجد المرجانية ، فيدخل بعض رجال الحي ، وبعض المارة لأداء صلاة الفجر . وتمر كروسة من كرارس صليلو فى نهج المرجانية ، ويصيح الكرارسي فى الخيل فما ان تصل الى آخر النهج ، حتى تدور يمنة ، متجهة الى باب الخضراء . ثم يسمع على بعد صياح معز ، ورنين نواقيس ، تظهر معزة وسط البطحاء ، وتتقدم الى قشور البطيخ ، ثم تتلوها ثانية ، فثالثة ، ثم تعم البطحاء جلبة من المعز تثغو ، وتتنادى ، تقفز وتتناطح . ويظهر فى آخر الجلبة المعاز يدفع بعصاه المعز يكش وينش ، ينذر ويحذر ، يؤنب ويتوعد
ويأتي طفل الى البطحاء مغموض العينين او يكاد ، منفوش الشعر ، وقبقابه كبير فى رجليه الصغيرتين يجره بثقل ، يحمل كسرونة او ما يشبه الكاسارونه وتكمض اليد الاخرى على قطع نقود فينادى المعاز معزته مريم ، او رابحة
ويخاطبها برفق . فتقبل عليه محركة رأسها ، وناقوسها فى عنقها يتدحرج ، يربت على ظهرها ، ويحدثها قليلا ، ثم يمسح لها ضرعها ويشرع فى جذبه بلطف كبير . فينبعث الحليب فى المكيال محدثا كشكشة ورغوة ، فيكاد لعابى يسيل ويمتلىء المكيال ، ويكاد الحليب يفيض . فيقلبه المعاز في الكاسارونة ، ويوفى الكيل بجذب الضرع مرة او مرتين . ثم يمد يده ويتناول الفرنكات من يدى ، واعود الى الدار بعد ان عملت عملتى وشربت جغمة او جغمتين من الحليب السخن ومسحت شفتى بظهر يدى . .
اذا كان اليوم يوم احد ، وتقدم الصباح ، تشرع نواقيس الكنيسة في القرع ، ويغادر المعاز البطحاء شيئا فشيئا دافعا معزه امامه ، ونواقيس الكنيسة تدندن معلنة صلاة السابعة . ويمر المعاز بجانب جبانة سيدى السفيان ذاهبا الى حومة الاندلس ، ونواقيس معزه وجلاجلها تشرنن معلنة انصرافها عن البطحاء بعد ان اكلت جميع قشور البطيخ المبعثر ، وجميع قشور الهندى ، وتركت بعرها منثورا .
شيئا فشيئا ، تمتلئ البطحاء نساء ورجالا ، اطفالا صغارا وشيوخا ، يسكنون حول البطحاء والانهج والازقة المجاورة ، فى ملابس يوم الاحد : الكسوة سوداء شديدة السواد ، او زرقاء كلون السماء ، والسورية بيضاء شديدة البياض ، والوجوه حمراء ، والشعور سوداء ، او شقراء ممشوطة الى الخلف تلمع بزيت " البرييانتين " أو " القامينا " . فساتين النساء مختلفة الالوان زاهية او سوداء داكنة .
يظهر ويدجى على بعد يقفز على ساقه الوحيدة وعكازه فى يده ، مرتديا كسوة سوداء ، وسورية بيضاء ، وبجانبه اخته ، وهي ما تزال في ملابسها الداكنه ، وقد فقدت أمها منذ سنين . . وتخرج راهبات الكنيسة من أبواب عديدة تفتح على البطحاء ، وعلى انهج خلفية ، ويكثرون من الخروج والدخول ، والتحاق بعضهن ببعض ، والحديث مع الامهات والاباء . . يقبل المعلم صحليلو من نهج سيدي عبد الحق ، انيقا ، فى كسوة رمادية ، ماسكا قفازا أبيض ، وبجانبه زوجته التى لا تبلغ حد كتفيه ، متشبثة بذراعه تهرول فتتململ وتترجرج ، وعلى رأسها قباعة مزدانة بوردتين بيضاوين . فيقفان ويصافحان اصدقاء لهما ويتحدثون زمنا ثم يدخلون الى الكنيسة .
تقطع جوجى البطحاء متألقة الوجه فى فستان زاه ، كلها ابتسام ، صحبة اختها وامها وابيها . . .
يتبع (

