ان المحاولات الاستقرائية الحديثة (*) للأدب الروائى انصبت أساسيا على تبطن العمق المضمونى واستكناهه فى جدليته الداخلية باعتبارها حاملة لتهيكلات الرواية المعنوية والمادية ، ، وفى هذا جانب قويم يصحح مسار الاستقراء ويقربه من ساحة التعامل العلمى ، الا ان الصفة العلمية تبقى منقوصة إذا لم يصاحبها تفهم موضوعى لنوعية البطل وتوجهاته الفكرية وتحركاته الاجتماعية مما يشكل نسيجا متكافئا متكاملا .
وتحديد هويه البطل تساهم بكثافة لا فى تصنيف الادب مضمونيا الى أدب ملتزم وآخر رجعى فقط ، ، بل فى طرفى معادلة قراءة الادب على ضوء تداخلات وتناقضات المجتمع الذى افرزه انطلاقا من مقولة : إن العطاء الفكرى مهما تلونت أساليبه وتعددت أفانينه وأطروحاته ، فانه دوما يتصف بالتجذر داخل التركيبة الاجتماعية أو على الأقل ينقل خيوطا تعكس خصوصيات ومواصفات العصر .
ولا أكون مخطئا اذا ما قلت : إن مدارس فى أوربا استعاضت فعلا عن القراءة التاريخية Historiographique التسجيلية للآداب والأحداث ، وعمدت الى معرفة هوية المجتمع وأبرز حركياته الاجتماعية الاجتماعية من خلال الابداعات الفكرية والأدبية .
والمتتبع لتطورات الأبطال الروائيين عبر المسار الزمانى والظرفى يلاحظ تناسقا وتوافقا بين القيم والمثل السائدة التى هى انعكاس للثنائية التاريخية المجسدة فى علاقات الانتاج وقوى الانتاج من جهة ، والمثل والقيم التى تتراءى وتترسم فى سلوكيات وتحركات البطل من جهة ثانية .
ويكفي . أن نشير الى مدرسة " كولون ولسون " التى تعتبر اضاءة الفترات الغامضة فى التاريخ الانسانى رهينه باستقراء آدابها وفنونها ونوعية الأبطال المعبر عنها من خلال الآثار المكتوبة ، بل حتى الحكايات والنوادر المتناقلة . ومن ثم فهذا الشرط ضرورة لا مندوحة عنها وصولا الى النفاذ الى صميم العمل الأدبى ولبابه والافلات من قبضة التعامل المسطح واستقراء القشرة الخارجية التى بقدر ما تسئ الى المحمل المضمونى ،، تسئ الى المنهجيات المتبعة أساسا ، ولذلك فالاب الادبى وان تعددت مداخله وطرق فهمه واستيعاب دلالته فهو يبقى رهين تحديد شخصية أبطاله وادراك توجهاتها إيحائيا وتقريريا . فالقراءة الرؤيوية والشمولية لا تكون ناجحة الا عند استبعابها للحركة المحورية والدائرية التى تشد البطل الى المجتمع والعكس بالعكس ... ولعل اولى مؤشرات هذا التأثير هو أن الايديلوجيا سواء فى بنيانها السلبي أو الايجابى تكون دائما الموجه لمواقف البطل التى لن تخرج البتة عن دائرة الرفض والقبول أو الاثنين معا ( البطل المضطرب ) .
فمن الأبطال من يكون سلوكهم امتدادا لمنظومات البنية الفوقية الفكرية ومن الابطال من تتشكل مسيرتهم الحياتية تجاوزا وتنكرا لايديلوجيه عصرهم .
ولذلك فشخصيه البطل تحدد صبغة الادب وتداعياته خصوصا فى الدول النامية التى يتوجب أن يكون فيها العطاء الابداعى ثائرا على مشكلات التخلف الاقتصادى والاجتماعى والتبعية الثقافية والاقتصادية واعدا بالتغيرات الشاملة والقيم الثورية . وعلى قدر تعفن الاوضاع تكون الثورية وأصالة الرفض ...
واذا ما كان المجتمع هو المؤثر الرئيسى فى الفرد وفى تحديد أبديلوجيته ،، فان قيمة هذا الفرد ستحدد بقدر سعيه الى تحقيق طموحاته ورغباته وميوله بشكل قد يتعارض أو يتفق مع المجتمع ، مما يولد ديناميكية مميزة وتوثبا خاصا يدفع بالعمل الادبى الى التحفز والتبلور .
ونقطة البداية فى هذه الدراسة ستكون الشخصيات المحورية فى روايات غسان كنفانى الذى يتصف وسط الروائيين العرب بزخم عطاءاته وعمقها الدلالى بالاضافة الى تسيسها المفرط ، حتى نستطيع تعقب التعامل مع المجتمع ومدى تأثيره فى وجدانات وعقول الابطال لأن الذى يهمنا أكثر من غيره هو هذه الجدلية الموجودة والتفاعل المتوفر . وما دام البطل ينبع من تهيكلات المجتمع ، فيحمل ما فيه من الصفات التى تنعكس عليه ، مما يجعله تكيفا اجتماعيا خاصا يخضع الى تأثير البناء الاجتماعى ، فانه يتوجب استقراء ملامح أبطال غسان كنفانى على ضوء هذه التعليلات
ولعل الذين إطلعوا على أعمال غسان الروائية يلاحظون تعددا فى صور وصيغ الأبطال حتى يستجيب ذلك فنيا لمقتضيات حركية وديناميكية الساحة الفلسطينية التى تشهد مواقف عدة متناقضة ومتداخلة فى جوهرها .
ومن ثم فان البطل المتفرد الذى يعتنق مذهب الوحدة والانعزال عن المجموع سيصبح فى نظر الروائيين المعاصرين مرضا نفسيا بل قل مرضا اجتماعيا يجب إجتنابه وتجنبه يقول فارودى Roger Garaudy : " ان الوعى الذاتى يقتضى الشعور بالآخرين ، فهو اجتماعى فى أعمق أعماق طبيعته وانعزال الذات انعزالا مطلقا ورفضها الاتصال بأى شئ آخر خارجها أو " بالأنت " عبارة عن انتحار . . والشعور بالعزلة الحادة يميل الى أن يجعل كل شئ آخر يبدو غريبا معاديا ، وحينئذ يشعر الانسان بأنه غريب متوحد لا وطن روحيا له . . " (1) .
اذن فما هى أبرز علامات وصفات أبطال غسان كنفانى والخلفية الفكرية والاجتماعية التى يعبرون عنها من خلال مواقفهم وسلوكياتهم ؟؟
* أولا : البطل الهش المتسيب
أن يكون الروائى فلسطينيا فذلك أمر يتطلب التنزل فى كل ألوان وأشكال الهموم الفلسطينية وتعرية مأساة شعب بأكمله نفى وشرد لصالح حفنة عنصرية مستبدة للتصدى الى محاولات تصفية النضال الفلسطينى
وتمبيع قضاياه المصيرية خارجيا وداخليا عن طريق وجوه فلسطينية تحاول تكريس هذه السياسات وتمريرها .. فى مثل هذه الظروف تبرز شخصيات هامشة مهمشة ، تتحرك بطرق ملتوية باسطة أساليب وممارسات انتهازية متطفلة ، تذوب فيها الانضاجات الثورية وقوة الشخصية ، لأن كلمة فلسطينى نعنى الرفض للاستلاب والصمود من أجل الحفاظ على الذات والكينونة والوجود الحضارى المتميز . فلا يكفى انه يكون الادب تحريضيا ومشجعا على استمرارية مسيرة النضال ، بل هو كالمجهر يشع ويكشف الفئات الهامشية الطفيلية التى تمثل الخطر كله . ان التخلى عن الارض فى غمار النضال والتنصل منها يعتبر فى نظر غسان وكل انسان عاقل جريمة لا تغتفر تعنى التفريط فى الحق والوطن ، لأن ذلك يعد سقوطا فى مخططات التهجين والتدجين وتذويب الروح النضالية .
ولعل أبرز دليل على ذلك القبول الارادى والاختيارى لبعض أبطل رواياته الوقوع فى معتقلات خارجية مثل السفر الى كندا والبرازيل وأستراليا والكويت طلبا للعيش متناسين الوطن والانسان لتبتلعهم من بعد فوهات العمل وحياه الرفاه والزواج السعيد وبالتالى التنكر الى الجذور والمنابع . أن التمسك بالارض ورفض مصادرتها واغتصابها هو فعلا المؤشر الأول والأخبر على الوطنية والوفاء للأم " فلسطين " فالفلسطينى يبقى منشدا ومتجذرا فى التربة التى حضنته ، ويقول غسان على لسان بطل روائى صادر الصهاينة داره وقطعوا ساق إبنة أخيه متحدثا الى فلسطينى آخر أغرته الحياة فى حقول النفط : " لن آتى إليك .. بل عد أنت لنا ... عد ... لتتعلم من ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ ،، ما هى الحياة وما قيمة الوجود ... عد يا صديقى ... فكلنا ننتظرك " (2) .
ان هشاشة وتسيب هؤلاء الأبطال تجعل وطنيتهم مبتورة ينتقصها الرفض والصمود ، ، يوقعهم البريق في مصائد وفخاخ " الكارتل والتروست " الأميركية والبرجوازية العربية . فالشخصية المهمشة لا تتورع عن القبض على طرف الحبل الممدود اليها ، ومن ثم تبتدئ رحلة التنكر للنفس والعائلة وبالتالى خيانة قدسية القضية والعمل ضدها . فهؤلاء الرجال الذين احتوتهم المصائد وأطبقت عليهم فى رحلة البحث عن الضباب والكنز الدفين أناس
تقتلهم النرجسية ويذبحهم التفرد من الأوردة تمتزج فى ذاكرتهم الأنانية بجاذبية الكسب ... فيديرون ظهورهم ويخفون وجوههم عن الحقيقة الساطعة يقول كنفانى فى شفافية ظاهرية ورمزية مبسطة مشيرا الى صورة من هذه الصور الخيانية : " الأمر لا يحتاج الى ذكاء خارق ، كلهم يكفون عن ارسال النقود الى عائلاتهم حين يتزوجون أو يعشقون " (3) .
ولعل العائلة المشار اليها هى الوطن المتركبة من مجموعة عائلات يمسها جميعا ما يحدث لاحداها ...
ان هشاشة الشخصيات المدفوعة كالفقاقيع على الساحة الفلسطينية تجعل مهمة تذويب الروح النضالية سهلة وتصفيتها من الأعماق وتبت هذا الشعب من جذوره وزرع القيم والمثل أمرا أسهل ، يقول عنهم كنفانى هم فعلا أدوات الحرب النفسية ووسائلها الفتاكة فهذا سمير الشاب الأشقر بحكم تردده على احدى العواصم العربية (....) ينتدب عميلا في جهاز المخابرات المكلف بملاحقة النشاط الفلسطينى ،، ومداهمة العناصر الوطنية فى المخيمات وسحقها . فهل بعد هذه الخيانة خيانة أخرى يمكن أن ينتظر ، ، وهل بعد هذا التفريط تفريط أخطر منه ؟ وهكذا تنقلب هامشية الشخصية ورغبتها فى التفرد الأنانى الى سلاح يفتك بالأبرياء يستغله الأعداء . ولعل السبب لكل هذا هو خواء الشخصية وفراغها من كل ثقل وطنى وايديلوجى يعصمها من الزلات والانهيار ، فى حين يقدم لنا صورة أخرى مشرفة مشيرة الى الاصرار الشبابى الصامد حيث ينضج الأطفال ويصبحون رجالا تحت وطأة المحن : " وأن الخطأ كان فى أننى عاملتهم على أنهم أطفال فحسب . لقد تغاضيت عن كونهم رجالا صغارا يستطيعون الوصول الى ما يريدونه أى طريق تخطر على بالهم " (4) .
وفى التصور الرؤيوى لغسان كنفانى فان العدو ليس فقط من نقف معه فى جبهة الصدام والتصدى والحذر بل يمتد الى هؤلاء الذين تطغى فى أذهانهم طموحات الثروة والاثراء على مصلحة الوطن العليا .
ومن ثم يصح أن نعتبر أدب كنفانى مصدرا توثيقيا يحمل نبوءة الثورة ويسجل بأمانة الأحداث المتواجدة على الساحة العربية ، وينقل مواقفه منها
بكل وضوح وبدون ضبابيات أو التواءات مما يميزه عن بقية الكتاب المتسيسين . ولذلك قلت فى أول الدراسة أن قيمة الأدب لا تدرك إلا من خلال ثنائية البطل وواقعه وعلاقة التفاعل بينهما ( وأعني بالتفاعل هنا سلبا أم إيجابا ) . وعلى لسان أحد الأبطال يصور غسان بكل ذكاء موقفه من قضية المفاوضات المطروحة الآن رغم شراسة الأنظمة المروجة لمقولات التفاوض :
" ان الحارس سيمهد لنا كل شئ ، ، ان الذى سيتولى البيع ليس أنا ، ولا أنت ، إنه الموظف الأمريكى الأشقر فى الوكالة . لا . لا تعجب كل شئ يصبح جائزا ومعقولا بعد الاتفاق . الأمريكى يبيع وأنا أقبض والحارس يقبض وأنت تقبض وكله بالاتفاق " (5) .
لقد نجح فنيا ومن خلال الرمز فى تأدية أفكاره ، ، فالشئ المهرب أو المسروق ليس فى حد ذاته سوى جسد الوطن المتآمر عليه ، يحوم حوله السماسرة ليبباع بالمزاد العلنى فى الأسواق العالمية ، ، وأول الرابحين طبعا فى هذه العملية هم المتاجرون الذين فقدوا الضمير والايمان بالمبادئ . الا أن مصر النفعيين والانتفاعيين هو الرفس من طرف الجماهير باعتبارهم أسقطوا الارض التى طال الزمن أم قصر لا بد أن تنتصر لعرضها وشرفها .
ان الولاء للأرض والأم الفلسطينية أمانة فى عنق الانسان الفلسطيني من صانها صانته ومن أضاعها أهدرت دمه ، هكذا تصور كنفانى النضال حتى مات فى مكتبه يروى الارض دما وعرقا ومعاناة .
* ثانيا : البطل الثورى المتجذر
وبكل ما أوتيت من قوة وثقة تقف الشابة الفلسطينية مريم لتسدد ضربة سكين فى عمق زكرياء المتآمر على الوطن والذى قام باغتصابها حتى تدفن بذلك غلها وثارها الذى ظلت تحمله سنوات طوال فى أعطافها . وعلى مستوى لدلالة الرمزية ، فان الضربة موجهة أساسا الى الاغتصاب الصهيونى الذى لم يغتصب شرف مريم فقط ، ، بل اغتصب موطن كل فلسطينى حين جعله يعيش على هبات وكالة غوث اللاجئين وهدايا الطائرات الساحقة .
ورغم محاولات التشذيب - وقص الأجنحة - والتصفية الجسدية والنفسية وكل أشكال القمع والاستلاب والتهجين الموجهة ، فان البطل الثورى المتجذر لا يسقط فى متاهات الانعزال والتقوقع والانكفاء على الذات الأمر الذى يؤدى به الى الموت التدريجى والانسحاق . وعلى العكس فهو يخوض غمار كل المساحات ومعه قيمه كفلسطينى مشرد ومنفى ، يبشر بعصم الثورة ويحرض الجماهير على الالتحام به ، فهو لا ينعزل حتى آخر ذرة من ذرات كيانه ، ، ففى حين يعلن احمد منظمى الحركة الفلسطينية تخليه عن الثورة والتحاقة بالكويت ، ، فان الشاب سالم يواصل رحلته من حي الى حي يعلم الشبان السلاح ويفضل سياسات المطاردة والتجهيل والتجويع .
فالتجذر الثورى فى وعى الشباب الفلسطيني كفيل باضافة دم حار الى الدم المتدفق واستمرارية المسار التحررى ، أما الخضوع للتهجير والابعاد فذلك مؤشر على قرب اجهاض الثورة وذوبانها أمام عدو متغطرس .
لا سبيل الى إذكاء جذوة المد التحررى الا بالايمان بهذا الوطن والتطهر بترابه وربط الاجيال المتعاقبة بالتراب الفلسطينى ، أما الاجيال المتنكرة له ، فهى أجيال منبتة لا أصول لها تضرب فى عمق الارض ، تقتلعها أقل الرياح التى تهب . ويصرخ كنفانى فى وجه الاولياء أن علموا أبناءكم الايمان بالوطن والارض وأشربوهم من رحيق نداها ، ، علموهم أن لا أب ولا أم لهم سواها . ثم يضيف هذه الآية التى تختلط فيها روعة التصميم على الثأر والتحدى بوفاء الارض كل ذلك فى ذهن ثائر لبى صرخ النداء فى وجدانه : " وانزلق بين الحقول فى حذر مستمدا فى رائحة ترابه شعورا بقوة لا تقهر ، وأصابعه تطبق على سكينة فى تهيؤ وحشى " (6).
وليس من باب الصدفة أن ترتبط فى نفس الصورة الروائية والتشكيلة الفنية المبدعة قضية السلاح والارض ، فذلك لأن غسان كان دائما من الذين يرفضون أساليب التفاوض الكاذب ويؤمن بحتمية الحل الثورى ، ، رافعا شعار البندقية لكل فلسطيني حتى النصر سواء فى كتاباته الروائية ، ، وحتى فى افتتاحيات المجلات والجرائد التى ترأس تحريرها فى لبنان .
ومن ثم فالأبطال الروائيون يتحركون فى نفس هذا الحيز مما يذكرنا بمأساة الشاب الفلسطيني الذي كلف من طرف قيادته بتوزيع السلاح على
المخيمات ، وحين أغارت طائرات العدو سقطت عليه قنبلة مزقته تمزيقا ليختلط دمه بالرصاص فى فوهات البنادق . والى أن داهمته المنية وغسان يؤمن بالحل الثورى للمشكلة الفلسطينية مما أكسب كتاباته طابعا حادا سببت له مضايقات كثيرة ومتعددة كان آخرها منعه من دخول بلد عربى .
ومع كل إرتهانات الواقع العربى وتداخلاته ، فان الانسان الفلسطيني المتجذر ثوريا يستطيع استحصال السلاح والعمل به فى سبيل تحرير الارض والوطن . ان أبطال بعض روايات غسان كنفانى يمثلون فعلا الفلسطيني الملتحم واقعا وممارسة مع الجماهير سعيا لاكتسابها ، ، والمؤمن بشرعية وعدالة قضيته حتى النخاع ، فى سبيلها يهون الدم والنضال .
لقد استطاع أدب غسان الروائى استيعاب المعاناة وهضمها بمختلف أبعادها وخلفياتها باعتبارها نتاجا من نتاجات الاستعمار الصهيونى المدعوم من قبل الاستعمار العالمى فى مخطط قوامه تركيع الثائر حتى سمى بأدب النكبة والمقاومة الذى يتخذ من التأدية الايحائية والرمزية سبيلا مضمونة تنقل مضامين الرفض لواقع تشريد الانسان الفلسطيني . ولذلك فرواية " رجال فى الشمس " (7) تنغرس فى طينة التهجير وتلاحق الفلسطيني فى مسيرة البحث عن المأوى الذى يحميه . وتبتلع الصحراء كل من " أبى قيس " و " مروان " و " أسعد " فرارا من الاستعمار التوطينى ، يلفحهم وهج الحر وظروف الطبيعة القاسية . كان الأمل الوحيد الذى يشدهم هو النزوح الى أرض الذهب الأسود والارتماء فى أحضانها . فتكفيهم سنوات التشريد والانساق الا أن الحدود الاقليمية والقطرية مغلقة فى وجوههم ويمنعهم الحرس والعسس من الدخول باعتبارهم كيانات غير مرغوب فيها . ولم يكن ثمة سبيل أمام الرجال الثلاثة سوى الخضوع لأوامر وتراتيب التهريب الذى سيقوم به أبو خزيران وهو فلسطينى مثلهم يشتغل سائقا عند أحد أثرياء الكويت " انه سوف يخفيهم داخل خزان الماء " ولكن الرحلة فى حد ذاتها معاناة حيث وهج الصحراء والشمس وتفتيش الحدود ، وانعدام الهواء فى الخزان . وفى سبيل دراهم معدودات تهون الارواح : " هذه ليست أول مرة ... هل تعرف ما الذى سيحدث ؟ ستنزلون الى الخزان قبل نقطة الحدود فى صفوان بخمسين مترا ستصعدون الى فوق ، ، وكذلك على حدود الكويت سنكرر المسرحية لخمس دقائق اخرى ثم هوب ستجدون أنفسكم فى الكويت ".
وتلك هي ظروف التهريب وشروط رحلة العذاب والأمل ، ، وفى نقطة الحدود يمازح الموظفون السائق المهرب لتأخيره ،، وعندما يأمن الطريق بفتح الخزان فاذا بالرجال جثث هامدة تصاعد منها رائحة الحريق ولهب النار المتأججة .
وهكذا يدين غسان كنفانى الظروف القهرية والقسرية التى يحياها الفلسطينى اينما تواجد مما يذكى حنين الهروب والاخلاد للدعة . ان الخزان فى دلالته الرمزية ليس الا المقبرة التى طمرت فيها المأساة الفلسطينية وتنوسيت حتى قبل سنة 1936 ، أما موت الرجال فهو دليل على موت الخائنين للوطن ، الرافضين له ، وموت الأجيال الاولى التى تشردت وتاهت فى الصحراء وتناست القضية . ان الفرار من الأرض خيانة يليها الموت حتما . ولعل المصدر الاول لما يعيشه الآن الفلسطينى هو تفريطه فى الارض وتهاونه عن تأدية الواجب المقدس ...
وأمام تظاهرة عسكرية للأشبال الفلسطينيين يقول الرجل الجالس الى جانب أبى سعد : " لوهيك من الاول ، ما كان صار لنا شئ ،، ووافق أبو سعد مدهوشا من الدموع التى رآها فى عينى جاره العجوز :
يا ريت هيك من الاول " (8) .
فغسان كنفانى واحد من الأنتلجانسيا الفلسطينية الذى يحمل تعاملا تقدميا مع الهموم ويظل أدبه يتصف بالنفس الثورى الطازج الذى يشخص الارض الفلسطينية ويحول هذا الشعور بالندم الذى يغمر الانسان المشرد الى طاقة تحريكية وتحريضية على العطاء والنماء ، وتعويض الماضى . لأن الوطن ليس فقط الاستلاب البريطانى واغتصات عصابات - الهفانا والشتارن - ولا شعارات الحكام البراقة ووصايتهم على القضية ، بل هو أيضا أجيال وأفواج من أشبال المخيمات التى تطلع على العدو صاعقة وتحرقه فى عقر داره ... أما الذين لا يريدون تجاوز الماضى والشروع فى بناء الحاضر واعداد الأجيال للمستقبل فسيصلونها نارا حامية فى خزان التاريخ كما وقع لأبطال "رجال فى الشمس " . لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضى فقط ، ، ولئن كانت القرارات والتشريعات والممارسات الصهيونية وحتى الدولية منها
حولت الوطن الى أسطورة تتردد على الأفواه بفعل التهويد والاستلاب ، ، فان فلسطين الارض والوطن توجد فى قلوب الكادحين والاجيال الشبابية الثائرة التى تعتنق الرصاصة المقاتلة وتحملها على جباهها الوعد بالثأر والتحدى . ولقد كتب رواية " عائد الى حيفا " بعد عام 1967 ليطلعنا على هذا الجيل الجديد الذي يولد على أنقاض المأساة ويترعرع فى قساوة ظروف المخيمات وينمو على أعتاب المدن والحدود العربية ، قد لا يكون ولد فى فلسطين المحتلة الا أنه مؤمن بحقه وفى هذا كفاية !!
فالبطل الثورى المتجذر لا يفرط فى حبة رمل أمام عدوه حكم عليه بالاعدام من اللحظة التى إغتصب فيها الوطن ..
ويرغم الممارسات القمعية ومتطلبات الحياة اليومية والاسوار المضروبة حول الوطن المحتل ، فان سعيد وزوجته ما زالا يحلمان بالعودة الى حيفا - الموطن الأصلى - حتى يسترجعا ابنهما خلدون أو دوف كما أصبح يسمى ، وأثناء مكافحته بوالديه الأصليين يقول دوف : " منذ صغرى وأنا يهودى ، وعندما قالا لى أن والدى الأصليين عربيان لم يتغير أى شئ . ان الانسان فى نهاية الأمر قضية " (9) .
فعلا فالفلسطيني قضية ، وهذه القضية لن تكسب أو تريح الا بالكفاح المسلح والنضال لأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة .
فالوطن ليس فقط عزيمة ولا حنينا عاطفيا اليه بقدر ما هو انتماء متأصل عبر البندقية وتجذر فى تربته حتى والاسوار تفصلنا عنه ، ، ولكن الاجيال الاولى أخطأت فى حساباتها فأوكلت أمرها للأولياء والمشعوذين الذين حولوا قضية شعب الى ألقاب شرف تسبغ عليهم جزافا .
" فدوف " الرمز الحقيقى لفلسطين السليبة لا يمكن أن يسترد بالتوسلات أو التفاوض لأنه فقد ابن أشهر خمس ، ، فاسترداده يتم عبر مسلكيات البندقية ومنطق القوة الذى لا يفهم غيره فى هذا العصر ، ، ومن ثم فان غسان يشدد الخناق ويضيقه على كل هؤلاء الذين رفضوا اعتناق النضال ورفع راياته ، فاذا ما كان هؤلاء الرجال قد ظلوا الطريق السوى والمسار القويم ، فالرحلة كان يتوجب أن تتوجه الى قلب فلسطين لا الى صحراء الكويت الأمر الذى يعد جريمة لا تغتفر .
* ان البطل الثورى ولد فعلا فى رواية " عائد الى حيفا " مع خالد شقيق " دوف " أو خلدون سابقا الذى ظل مصرا على الالتحاق بالمقاومة رغم رفض والده سعيد ، ، وقد يلتقى الاخوان على صعيد الصدام والصراع الا ان الاخ الفلسطينى قد إنحاز الى خانة الانسان والصدق والطهر بينما يبقى الآخر حارسا للهمجية والفاشية والظلم . وأكاد أقول ان القاسم المشترك بين كل روايات كنفانى والرابط لها جميعا هو الأرض ، فمن أجلها يتصارع المتصارعون ويشقى شعب بأكمله وتهون الصعاب على الشيخ العجوز ويتحول الطفل الى رجل يحمل هموم الكبار كما يحمل البندقية : " لقد احتجت الى عشر سنوات كبيرة جائعة كى تصدق أنك فقدت شجراتك وبيتك وشبابك وقريتك كلها " (1) .
فهل ثمة بعد هذا التجذر تجذر أعظم وأخلد !!
* ثالثا : البطل القومى
ورغم أن قضية فلسطين هى المحور الرئيسى للمعاناة العربية المعاصرة فان غسان كنفانى يرفض الاطروحات القطرية الاقليمية ، ويتعامل معها من زاوية الالتقاء القومى حتى انك تجد أبطالا عرب يتعانقون فى المعاناة والهموم مع أبطال فلسطينيين ...
وتكشف الروايات عن عنت القرى الصغيرة الممتدة هنا وهناك فى أطراف كثيرة من الوطن العربى ، ومن الذى يقدر على تجزئة الهموم العربية غير الانفصالى العشائرى ؟ . وكثيرون هم الاطفال فى رواياته الذين يتحركون من منظور رؤيوى شمولى للواقع تضيق أمامهم المعاناة الفردية وتتقلص لتصبح هما عربيا واحدا . ويقول أحد الأبطال مستبشرا بأن التغير الذى يحدث على احدى الساحات العربية انما هو خطوة نحو التحرر الكامل والانعتاق من الأمراض . هكذا يكون الطرح القومى او لا يكون : " إننى طالب فى كلية الحقوق فى بغداد ، وسوف تبدأ الدراسة بعد أسبوع إننى سعيد بالثورة . أليس كذلك ؟ - سعيد جدا ... إنها خطوة جيدة نحو اللد " (11).
ان ملامح ومسلكيات الأبطال تأخذ أبعادها وقسماتها وتتبلور من خلال تشربها وانغماسها فى طينة الواقع العربى باعتباره لبنة واحدة ، نعايش
فيها سلبيات واحدة عبر مسح شمولى ومتكامل لنقائص وتناقضات الوطن العربى لأن ما يحدث فى قطر من أقطاره ينعكس بتلقائية على القطر الآخر فى جدلية دائرية ، إذا ما روعى فى الاعتبار وحدة الاصول الحضارية والروحية والترابية التى جمعت أجزاء الوطن ... ومن ثم فأدب كنفانى يحمل تشربا قوميا أصيلا يلتقى فيه العربى بهمومه وهمه .
فهذا الشاب العمانى فى مجموعة " موت السرير رقم 12 " عبر مسارات الارهاق والموت اليومى والتشريد المسلط على الرقاب يكتشف أن كلمة عربى فارغة من أية دلالة حضارية ونفسية بدون حضور قومي مكثف كثيف . ويكتشف أيضا أن السلبيات والنقائص واحدة والمعاناة واحدة أينما كان العربى ... وعندما ينهكه النزف يدرك انه مات بلا ملامح ، بلا هوية ، بلا انتماء ، مات ولم تسجل دماؤه ذكراه على التراب ، ويندم بعد فوات الأوان !!
ولا تكاد تفلت ظاهرة من الظواهر أو حادثة من الحوادث إلا ويسجلها غسان تسجيلا دقيقا ويعلن موقفه منها موقفا واضحا أصيلا . ويمر الطالب الفلسطينى أسعد على الجامعات العربية ساعيا للترسيم باحداها لدراسة علم الكيمياء الا ان الاجابات كلها كانت واحدة : أنت مشبوه فيك ..عد من حيث أتيت . وهكذا تصبح كلمة فلسطينى لعنة بكل ما فى الكلمة من دلالة ،، قدمت فى سبيل مسحها الاجيال قوافل الشهداء والدماء قرابين . فكل المدن العربية من الموصل والبصرة ودمشق والقاهرة تحظى باهتمامات الكاتب الذى ينطق فى كتاباته القومية من أساسيات ثلاث متكاملة :
* الاساسية الاولى : أن الهم العربى لا سبيل الى تجزئته فهو واحد عبر كل الساحات .
* الأساسية الثانية : أن الانهاء للمعاناة لا يكون إلا بالتغيير الشمولى الكامل .
* الأساسية الثالثة : كل عملية تغير يراد لها النجاح لا بد أن تنطلق من الانسان العربى ذاته المتحرر والواعى .
ومع كل هذا فان غسان كنفانى أعطى نفسا تثوريا وبعدا جديدا للثقافة العربية حين طعمها بروائح الرصاص والنضال والعرق الفدائى ما كان لها أن تكتسبه ونحن فى ادبنا المعاصر محتاجون الى ألف غسان وألف كنفانى ...
