تصادف السنة الحالية الذكرى المائوية لميلاد الاديب اللبنانى جبران خليل جبر ان الذى كان ولا يزال اشهر اديب عربى على الساحة الامريكية نظرا للدور الطلائعى الذى لعبه فى ازدهار الحركة الادبية العربية فى كل من بوسطن ونيويورك فى أوائل هذا القرن . ولا يزال لحد اليوم مؤلف جبران " النبي " يحتل مكانة مرموقة فى معظم المكتبات الامريكية بل هو يوزع فى شكل اسطوانات على غرار أهم الروائع الادبية العالمية .
وعلى الرغم من التطورات العديدة التى مرت بها الجالية العربية بعد اختفاء حيران ونعيمه ونسب عريضه وغيرهم من الساحة الادبية الامريكية فان لاجيال الجديدة من الامريكين المنحدرين من أصل عربى استطاعت الحفاظ على طابع ادبى متميز يتجلى بالخصوص فى النتاج الشعرى لعدد من المبدعين من امثال : صامويل حازو وجوزيف عواد وغريغورى أورفيلا وغيرهم .
الملاحظة الاولى الجديرة بالذكر هى ان الاغلبية الساحقة من هذا الانتاج وردت باللغة الانحليزية وذلك خلافا لما هو الحال فى كثير من الاحوال بالنسبة للجاليات العربية المستقرة فى أمريكا اللاتينية حيث لا يزال للغة العربية عند احفاد المهاجرين الاوائل دور هام ، ولكن تلك قضية أخرى ...
اما الملاحظة الثانية فهى ندرة الاهتمام بالنتاجات ، الشعرية الصادرة عن الامريكيين العرب ويعزى ذلك الى اسباب مختلفة من بينها " عودة الوعي"
المتاخرة لدى الاجيال الاخيرة من الامريكيين المنحدرين من اصل عربى فقبل نكسة جوان من سنة 1967 وما تمخض عنها من معاناة وشعور بالجيف عظيمين لم يكن لدى احفاد المهاجرين العرب الاوائل احساس قوي بانتمانهم التاريخي الى الحضارة العربية مما نتج عنه فى كثير من الاحيان انصهار كامل فى بوتقة المجتمع الامريكى . ومن ناحية أخرى فان رغبة المهاجرين العرب انفسهم فى فرض وجودهم داخل مجتمع تسيره دوافع الربح والمنافسة جعلت هؤلاء يوجهون كل اهتمامهم الى النشاطات الاقتصادية دون غيرها . فى هذا الصدد يقول غريغورى اورفيلا فى تقديمه لمجموعة شعرية نشرها سنة 1981 (*) :
" يمكن للمرء ان يطالع مجموعات شعرية لكل الاقليات العرقيات الامريكية ، الزنجية منها أو الاسبانية أو اليهودية أو الهندية أو الصينية أو اليابانية وغيرها ، ولكن لحد الآن لا توجد مجموعة شعرية واحدة تضم نتاج الشعراء الامريكيين العرب المعاصرين " . فى هذا الاطار يبدو من الطبيعى عندئذ عدم وجود أية " رابطة قلمية " أو مدرسة أدبية أخرى توحد صفوف " أدباء المهجر " الجدد فى الربع الاخير من القرن العشرين .
إن كانت الاغراض التى تحدث فيها الشعراء الامريكيون العرب المعاصرون كثيرة ومتعددة فان هناك عددا من الهواجس المشتركة تلتقى فيها قرائحهم. من بين الهواجس المشتركة بلا شك الشعور الدافق بالحنين الى الوطن الأم وهو شعور مشحون فى معظم الاحيان بالتحرق على فراق الاهل والاحباب.
تقول إلماز أبى نادر ، وهي مدرسة جامعية متحررة من أصل لبنانى ، فى قصيدة لها بعنوان : " رسائل من الوطن الى أبى " :
كل مرة تجهش بالبكاء
أحس سطح احد الانهر ينفجر ..
تمسك أنت بخديك
وتقرأ بصوت عال
رسالة من الوطن العريق
أرقب تموج الحروف عبر الصفحات
المجردة
جالسة على الارض
بينما اخوتك حولك ملتفون
فلا أفهم لغة الرسالة
ولكنى أحس شعورا باللوعة واحدا
يملأ ارجاء الغرفة (*)
غير ان الانصهار بين حب العائلة وحب الوطن الاصلى يبلغ أوجه فى العديد من قصائد سام حمود الذى يتولى حاليا فى العاصمة الامريكية اصدار صحيفة "اخبار العالم الثالث "(THIRD WORLD NE7 )
يقول حمود المصطبغ شعره أكثر من أى شاعر أمريكى عربى آخر بروح اسلامية عميقة فى رثاء أبيه الذى كان من أول الائمة فى ولاية إنديانا :
ما زال أبي يحرس المسجد
وفى صمت يصلي
جالسا على العتبة ينظر
متحسسا صدره والرصاصة
التى اخترقت صلاته
..........
أبي راحل الى الشرق
الى لبنان
حيث يتناول طبقا من "الكبى"
وتقدم له أمي عنبا وظلا (*)
اما عند بنانى الذى قضى فترة من حياته فى المغرب الاقصى فان الحنين الى الوطن حنين الى طبيعة يعشقها وطفولة بريئة يرنو اليها : يقول بن بنانى :
أين انت يا طنجه ؟
أين شمسك الصفراء الفاقعة وبحرك
المضطرب ؟
أين أبي ؟
أين عيناه
وبريقها الحريرى ؟
أين الساحة العارية
المتوسطة دارنا الواسعة
حيث الورود فى أركانها تتفتق ؟
أين انت يا طفولتى
عندما كنت أجر القطط من أذنابها
عبر وسط الدار ؟
انا وحيد الآن
وآلامى كالطيور
الباحثة لها عن اعشاش ..(*)
قد يتساءل المرء عن مبررات مثل هذا الشعور الحاد بالغربة رغم نجاح المهاجرين العرب عامة فى تبوؤ مراكز محترمة فى السلم الاجتماعى الامريكى ولكنه من الواضح أن الشاعر الامريكى المنحدر من اصل عربى فى حساسيته المفرطة بالوحشة ، فى مجتمع وظف الانسان والالة على حد السواء لفائدة الجدوى الاقتصادية مؤهل أكثر من غيره من الشعراء الامريكيين للاحساس بانهيار القيم التقليدية فى العلاقات البشرية . يعبر بنانى عن مثل هذه المشاعر بشكل تصويرى فى قصيدته " رسائل الى أمى " عندما يقول :
انا وحيد الآن
السجارة ضجرت من الدخان
الآلة الراقنة ضجرت أيضا
والآمي كالطيور
تبحث لها عن أعشاش
نعم عرفت النساء فى أمريكا :
مشاعر من الاسمنت
وجمال منحوت من الخشب
ومما يزيد فى احساس الشاعر المنحدر من اصل عربى بالاغتراب حنينه الدائم الى مجتمعه السابق الاكثر دفء ا . فى تألم يشوبة الندم يقول صامويل حازو المنحدر من اصل عراقى ولبنانى :
تركت عالما اقدم من ان يسمى
وأحيانا من أن يهجر
قاطعا بحرا واسعا باردا
نحو غلطة كولمبس
حيث الحياة ليست هي نفسها (*)
رغم كل هذه العوامل فان أهم عنصر خلق عند الشاعر الامريكى العربى شعورا بالاستلاب داخل مجتمعه هو الشعور بالضيم للمواقف الامريكية الخاطئة من القضايا العربية . وتتجاوز هذه المسألة كافة الابعاد النظرية والايديلوجية لتصبح عند الامريكى العربى واقعا يوميا معاشا يخزه كل لحظة :
يقول المغنى الامريكى العربى دين أحمد فى " أنشودة دير ياسين ":
أصعب الاشياء احتمالا
هو أن تسمع فى اخبار المساء
أكاذيب يغالط بها الصهاينة
الامريكين اليهود
كي يساندوا الدولة الصهيونية ..
لو كنت أستطيع
لعانقتهم وحدثتهم
عن الأبارتيد والكره
عن الارهاب والتعذيب ...(*)
من الاكيد أن دين احمد يعبر فى مباشريته عمن المشاعر المكبوتة لاكثر من مليونى أمريكى عربى تعمق احساسهم بالانحياز الى الجانب العربى من الصراع مع الصهيونية منذ حرب اكتوبر 1973 . ومن الطبيعى عندئذ أن يكون النزاع العربى الاسرائيلى مركز اهتمام مشترك عند معظم الشعراء الامريكيين العرب.
ومن أجمل ما كتب هؤلاء فى هذا الخصوص جاء على قلم غريغورى اورفيلا الشاعر والصحافى الامريكى المنحدر من أصل سورى ولبنانى . يقول اورفيلا فى قصيدته "القنبلة التى سقطت على حقل العم عبدو" والتى ترجمت بعد الى العربية والفنلندية واصفا غارة جوية اسرائيلية على احدى ضواحى دمشق :
فى حقل عمي المجاور
المسقي منذ أمد قصير
سقطت قنبلة
كتم الوحل انفاسها
وتحدث اليها
ثم كمثل أم
غطاها فى موتها
بقت القنبلة
بقيت القنبلة
حروف أمريكية
صامتة لم تنفجر ...
إسق جنائنك .. دوما إسقها (*)
