الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

قراءة فى لوحات البشير بن سلامه القصصيه ، الرسم بالكلمات

Share

يعتبر الاستاذ البشير بن سلامة من المثقفين القلائل الذين لم تلههم مسؤولياتهم السياسية عن نشاطهم الفكرى والادبى فزيادة على رئاسه تحرير مجلة الفكر ، لا زال الاستاذ البشير بن سلامة ينتج ويؤلف : ففي ميدان الرواية انتج " عائشة فى حقل التنظير كتب"نظرية التطعيم  الايقاعى فى الفصحى : وفي الابداع القصصى يخرج لنا" لوحات قصصية " وهي موضوعنا هنا الذى ننوى الحديث عنه في الحقيقة لقد اعجبت بالعمل وحاولت أن اقرأه فاصطدمت بالعديد من المعيقات والصعوبات التى جعلتني بطريقة أو بأخرى أبرر السكوت الذي لازمه المثقفون الذين كتبوا عن "عائشة "واغفلوا هذا العمل الابداعى الذي يحمل في طياته نفحات تجديدية

يبدو لي أن صعوبة هذا العمل جاءت من أن المؤلف حاول أن يخرج بالادب التونسي والقصص منه بالخصوص عن التسطيح المغلف بغطاء الواقعية الذي كبل الادب التونسي في شتى فروعه الابداعية لمدة طويلة

   بعد وقفة أمام هذه اللوحات أو قراءة معمقة لهذه القصص يدرك الانسان ان المؤلف أراد - متعمدا - أن يهرب بالقصة التونسية عن الواقعية الضيقة الى رحاب النفس الانسانية فى تجاربها الكونية حيث : " يبدو أن غرض الادب هو الكشف عما هو أكثر عمقا من سطح التجربة اليومية العادية ، وهذا يعنى أن الادب نزعة " عقلية نفسية" تستبد باشخاص دون آخرين ويدركها المثقف قبل

المتعلم ، والمستقصى قبل المتتبع ، وان ما تفعله فى المتلقى يختلف من شخص الى آخر ، بمدى ما يمس الأثر شفافه واشتراك الارضية التى يقف عليها كاتب التجربة ومتلقيها . قد يكون هذا النوع من التجارب صوريا ذهنيا ولكن ما يهبه الحياة ارتباطه الوثيق بما هو واقعي علمي واجتماعي . فلا ثنائية بين الفكر والواقع ولكنهما قطبان للوجود تتلاحم خلالهما " الظواهر الاضداد " فتتحد من جديد في لبوس ليس واحدا منهما بالذات ولا غريبا عنهما كليا بحركة حميمة لأزمة تتعدى اطار الرواسم الشكلية " !(1)

لقد حاول المؤلف في هذه اللوحات أن يخرج عن المألوف وان يأتي بالجديد ، وان يبتعد ما امكن عن السهل والمألوف والعادى ومن هذا - على ما اعتقد - جاء غموض هذه التجربة الغموض الذي يخلف كل محاولة تجديدية . وعدم الايمان المحاولة التجديدية هو حرماننا أنفسنا من المعنى الاصيل للقصة المستمدة من الكلمة الايطالية نوفيلا ( Nouvella ) التى تعنى التجربة غير المسبوقة

   دخل الاستاذ البشر بن سلامة هذه التجربة غير المسبوقة وهذا بحد ذاته مغامرة على كافة الاصعدة : النفسية واللغوية والفكرية ، بهذا العمل دخل الكاتب فى مغامرة نفسية أساسها البحث عن كينونته البشرية ، ولغوية وسط هذا العالم الملىء بالاشارات والرموز حيث تتفق اتفاقا تاما مع المغامرة الاولى . وكانت المغامرة الثالثة هى محاولته توحيد الفنون فى فن واحد يجمع الشعر والموسيقى والرسم والسينما والمسرح

لقد بدا وكانه استحاب لمتطلبات الحياة الانسانية عامة وحياة المثقف خاصة فى هذا العصر المأزوم ، حيث " تفرض حركة الحياة على الانسان العربي المعاصر انواعا مختلفة من السلوك مبدعا ومتلقيا تعتبر مقدمة لازمة لتفاعله الاجتماعى وجزءا لا ينفصم عن مجرى صيرورته التطورية ، وخلال هذه الرحلة تتمزق اطر عديدة كانت تشكل نسيج حياته الفردية وتتلاشى متجزئة فيلتئتم بعضها بالمعطيات الجديدة ويندثر بعضها الآخر لغرابته عن الاطر الواقعية الفاعلة ويفقد قيمته " ( 2 )  

  والشئ الذي استرعى انتباهى فى هذه اللوحات القصصية اكثر من غيره هو هذا العالم الرهيب للغة التى نحتها الاستاذ البشير بن سلامة فاثبت بذلك قدرة هذه اللغة على الاستجابة لمتطلبات العصر التعبيرية اذ انه استطاع أن يخلق لغة العبور مما هو حاضر الى ما هو مستقبلى والتى يجب أن تتحقق فيها خصيصة التجاوز التى تجعل الادب أداة بناء وتكوين وتشكيل

عالم البناء والتكوين والتشكيل هو عالم جديد ، عالم المستقبل بالتالي هو عالم لم تتركز قواعده بعد ، ولم ترسخ قيمة كل شئ لا يزال فى طور البحث والتحريب ولذلك خرج فى هذا الثوب الغامض ، هذا هو عالم الاستاذ البشير من سلامة الموصوف في لوحاته القصصية ، فهذا التنافر وهذا الغموض هو شعريا الغرابة والجميل غريب دائما كما يقول بودلير ، فكل شئ غامض في هذا الوجود وهذه الحياة الانسانية " فالحقائق غامضة والغايات خفية والشبهات كثيرة والافهام التى هى العدة غير مأمونة الغلط فطريق النظر معفي الاثر والباحث المتهد غير معصوم من الزلل فلذلك تكثر الحيرة عند المباحث اللطيفة وتتشتت الآراء وتتفرق الظنون وتختلف النتائج ويتعذر اليقين .." ( 3) .

هذه اللوحات التى تداخل فيها الزمان والمكان وصار التنوع فى اللحظة بنظم تجاور العصور وديمومتها . يخيل للقارئ أنه يستحم فى عالم تتجاوب داخله القرون والاصقاع وتتحاور فيه الانسانية مع الحيوانية وتتصارع فيه الروح والجسد والوجود والعدم ، والبقاء والفناء ، المادية والصوفية ، عالم المثال وعالم المادة

فهذه اللوحات القصصية فيها " من الشعر ولعه بالانسان وفيها من العلم استسناده الفكر وظل كذلك يناوب هذا عن ذاك يلبس المنطق حينا ويلوذ بالاسطورة أحيانا ، يعرج إلى الشعر حين تخاله أشرف على الحقيقة المجردة : ويعوذ بالمنطق حين تحسبه ضاع فى مغاور الالتباس .." (4 ) .

اذن ، محاولة خطيرة أقدمت عليها ولكن ما من ذلك بد ، فلذلك اسميتها

قراءة أو وقفة أمام هذه اللوحات ان صح التعبير ، وبعد كل وقفة أمام لوحة معينة لابد أن ترتسم في ذهن الانسان فكرة ولو كانت غامضة غموض العمل نفسه ولكن لا مفر من ذلك خاصة بعد أن وقفت طويلا أمام هذه اللوحات حتى اعياني الوقوف ، وفي الحقيقة لم أشف غليلي نظرا لأني لم أفهم الشئ الكثير وكم يصعب على الانسان أن يقول لم أفهم ولكن الابداع إذا فهم مات ، فحياتة وروعته فى غموضه ، فى استعصائه على الفهم والتشريح

  وعندما قلت قراءة أو وقفة لا أريد تمرير البصر والنظر على السطور ، وليست حتى ذلك التفاعل مع المظاهر وتأويله وبسط مضامينه ، بل هي قبل كل شئ " تفكيك رموز الكتابة قبل قراءتها " (5 ) . وما أعسر هذه المهمة خاصة عندما تكون الكتابة من نوع ابداعات الاستاذ البشير بن سلامة الذي يجمع فى كتابات بين التنظيم والابداع باحثا متسائلا وهذه ميزة من ميزات الفنان المبدع : " ان الفن يموت بموت التساؤل والبحث والتطلع الى المستقبل ، فالفن يمكن أن يموت بالأسلبة ، بالرواسم ، بالجمود حول التقليدى والمألوف والمبتذل . والفنان الحق متسائل ابدا ، ظامىء الى المعرفة المتزايدة ولا يقنع بما لديه ، ومن الواضح أن التوق الى المعرفة يتنازع مع تحريم البحث عنها . فاذا كان التحرير المفروض جماعيا على البحث والتساؤل هو الاقوى مات الابداع وأصبحت الطاعة هى الخط الهادى للسلوك الادبي ، ولا نكران أن عباقرة الفن هم من أولئك الافذاذ الذين ثابروا على البحث والتجريب وكان لهم من قوة الشخصية ما جعلهم ينظرون نقديا وبااستقلال الى كل ما طرح أمامهم ..." ( 6)

فالاستاذ البشير بن سلامة متسائل دائما ، باحث باستمرار عن الجديد والمثير والمحير ، فهو من الادباء التونسيين الذين يطرحون الجديد على الدوام وهذا الجديد طبعا يلقى من المعارضين ما يلقى كما يلقى من الانصار المتحمسين والبشير بن سلامة يمكن أن أهمية أديبا طلائعيا نظرا لأنه فنان مصادم والمصادمة تقتضى من العنف الشئ الكثير . بعد أن قمت بجرد لمؤلفات الاستاذ

البشير بن سلامة وصلت الى نتيجة وهى أن البشير بن سلامة يهوى تفجير القنابل فهو بعمل بينها باستمرار والغريب أنه فى " النار ولا يحترق " فهو مولع بتحريك هذه المتفحرات فتصيبه أحيانا بعض الشظايا ولكن هذا من أخطار المهنة ، ولكنه دائما يخرج منتصرا . وكلمة التفجير من الكلمات التى يستعملها الاستاذ البشر بن سلامة كثيرا فى خطابه الادبي خاصة وهى ذات دلالة عميقة ، اذ ان الرجل يكره الاستكانة والاتباعية ، والمجاراة ، والتزلف الى المقدس

هذا انطباعي وأنا انتقل بين هذه اللوحات مبتسما تارة مفكرا أخرى ، متعجحا ثالثة ، متسائلا رابعة ، حائرا أمام اختلاط هذه الالوان والاشكال والاشخاص ، والاحساسات والرموز باختصار وجدت أنه يدرس الانسان في علاقته بالكون كما لو كان نجوما أو اشجارا أو سفنا سكرى فى علاقتها بالطيور والسماء والفصول والتيارات ومد البحار . ان الادب القصصى هنا تخلى عن فك البشر والواقعية البشرية

كان الادب القصصي يفسر الانسان بالانسان اما البشير بن سلامة ففسر الانسان بالعالم والعالم بالانسان

   وبعد ان تحدثنا عن هذه اللوحات بشكل عام دعنا الآن نحاول أن نعطى بعض الانطباعات من محتهد لم يصب بالتاكيد نظرا لاستحالة الاصابة فى مثل هذه الحالات الشائكة ، الغامضة ، المغرقة فى رمزيتها ، والملتفة فى ثوب "سراليتها" السميك وانا طوال حياتي كلما واجهت أمرا لم أفهمه شككت في قصورى أو لا ولم أتهم أى كاتب باية تهمة كانت ، فعندما تقف أمام اللوحة الاولى : " حب " المفتاح الوحيد أو الباب الوحيد الذي يمكن الولوج منه وسط هذا الظلام الحالك سرعان ما يسد أمامك هذا الباب فتقطب جبينك دلالة تركيز عقلك وكافة قواك المدركة او الداركة ولكن تبدو عليك علامات العجز أو قل علامات عدم الفهم فهذا الحب الذي هو من حيث المنطلق المنطقي انسانى ولكن كانك كنت معلقا فى السماء فتهوى الى قاع البحار المظلمة الملييئة بالحياة والحركة ، تسمعها ولا تراها ، تحسها ولا تفسرها ، تتلقى اشاراتها عبر الحدس ولا تستطيع نقلها الى معادلة فأول ما يلفت انتباهك هذه السمكة النشوى المنطلقة سابحة فى الماء متلهفة الى الحياة والحرية والانعتاق فهذا الماء وبالتالى هذه الحرية تسكرها سكرا صوفيا راقصا حتى تعانق الحياة والامل فى الحياة والامل فى الحب والأمان وسط أضواء باهتة فيبرز التناقض بين لمعان عين السمكة وبين خفوت النور فتنشأ من ذلك لوحة تضاد المتناقضات فى الحياة الكونية فهى

دائما بين مد وجزر ضمن هذه الثنائية الابدية : " لم تكن السمكة فى انطلاقها من ركن الى ركن تحت ألوان من الانوار الباهتة الا طرفة العين فى الظلام يشحذها بريق ، وخفقة القلب تهفو الى عبير الحياة ، أملا وتوقا ولهوا واشتياقا.. " ( 6 ) .

فالناظر هنا لهذه اللوحة كأنه يقرأ بل يقرأ شعرا لايقاعها وصورها وأثرها الحسى ، فهي رحلة متشردة وبحث فاوستى عن العالم ونهايته والكون وجدواه والوجود وماتاه والحيوان وعلاقته بالانسان والطبيعة والكون ، وسط هذا الجو الشاعرى الحزين المرح فى نفس الوقت ، فسعادة الكون ومأساته تتحدان لتعطيا صورة خليطا من البياض والسواد من الحزن والفرح من الالم والسعادة ، من  الامل واليأس ، من الحرية والقيود ، من الاسر والانعتاق ، من الجمال والماساة فهذه الثنائية هي انشودة الكون الخالدة يسمعها الانسان منذ وطأت قدماه هذه الأرض ومنذ استعمل عقله فى الوجود وماهيته فى الحياة ونهايتها والجمال وجذواه فى النفس الانسانية فهى توق الى المطلق واللامحدود والخلود من جهة وهي نسيان قهر الواقع للانسان والهروب من الانجراحات الخاصة والفردية من جهة اخرى ، رؤيتان يتعامل بهما الاستاذ البشير بن سلامة مع الفن فهو من جهة عملى يمارس الرياضات ويكابد الجسد ، فكرى يتأمل المطلق والقيم ، واحد يروض البدن وثان يصقل النفس من الداخل أو يعمل على البدن النفسي: " وافتر صبح عن سن الجفاء ولا جفاء ، فدميت أقدامه والارض صلب أنوف وانفصل الزمان عاتيا ظلوما وانتفي اللهو " ( 7)

فهذه اللوحة أو القصة التى عنونها الاستاذ البشير بن سلامة ب"حب" هى فى الحقيقة حب فى معناه المادي بنشوته الجنسية " ورجفة جناح " وحب معنوى بمعناه الصوفى الحلاجى وهو حب المطلق التوق الى الانعتاق وكشف أو هتك ستار الحقيقة الازلية تكشفه شمس الحقيقة ، وهذا المزج بين المعنيين أو بين النوعين من الحب هو فى الحقيقة سمة الحياة الانسانية دائما الباحثة عن غريزتها المادية الحيوانية الشهوانية وذلك الشعور أو الهلووسة بالبحث عن الحقيقة الوجودية للذات الانسانية والحد بينهما خيط رفيع كالحد بين العبقرية

والجنون ، يمكن تتجاوزه بسهولة عند النفس الانسانية الحائرة فى متاهات الوجود والعدم ، فى صحارى البحث وغابات المجهول وببحار الشك

 " فهنا يبدو الانسان دعوة لأن يكون ولأن ينوجد ويتقدم ، لان يسمو فوق نناقضاته وفوق نفسه ، وأن يتخطى المألوف والشائع والعمومي والعادى والعاداتي كي يخلق نفسه وعالمه وقدره ، وهنا تظهر الكرامة الصوفية خلقا او اعادة خلق بشرى للعالم والقوانين ، ويكون التصوف نداء للانسان كي يغير و يثور ويعقل الانا الصميمي وفق قيم الكمال والحكمة والبطولة . وهنا يظهر الفرد صاعدا الى المطلق مستبدل باستمرار ودون توقف للمثل طامحا للتكامل ولبلوغ ذاك المستوى الاعلى الذى يفصل الانسان عن الله ، وهنا يحاور الانسان الله ، يرضى عن الله ، يقبل الله ويجعله فى قلبه وقسما من الذات البشرية عن طوع ويقصد وحرية ، هنا الثورة الصوفية ، هنا فهمها للحرية ولله والآخر والقيم فهما من أسمى والطف ما عرفته الذات العربية وما تستطيع تقديمه للبشرية " ( 8 ) ، ويستند الاستاذ البشير بن سلامة فى هذه الظاهرة أي الظاهرة الصوفية الى تراث ضارب في الماضي السحيق ، جذوره ممتدة عبر احقاب وأزمان فأصله ثابت فى الارض وفرعه فى السماء . الاستاذ البشير بن سلامة فى تعامله مع التراث اللغوي والحضارى للامة العربية الاسلامية ينطلق من مبدأ الخلق والاضافة والتوظيف ، الخلق أى اعادة النفس الجديد والشحنة الحية لهذا التراث فهو عبارة عن الطبيب الذى يضغط على صدر من توقف قلبة عن النبض حتى يعيده للحياة وللوجود . ومن ناحية الاضافة فهو لا يتعامل مع التراث على أساس أنه مقدس وبناء عليه لا يمكن مسه أو تحريكه فابن سلامة عندما ينظر الى المصباح الذي وجده في متحف التاريخ لا ينظر اليه على حاله ويستعمله على حاله بل ينظر اليه على أساس انه كهربائى ، والتوظيف أى توظيف هذا التراث عند الاستاذ البشير بن سلامة حتى يعبر عن هموم الانسان العربى المعاصر في خضم هذه الصراعات الحضارية وفي متاهات هذا التقدم العلمي الذي اصبح العربي فيه مستهلكا وليس منتجا ، متقبلا وليس باثا ، فهذا التوظيف نابع من غيرة الاستاذ البشير بن سلامة على هذه الثقافة العربية ولغتها أساسا يريد أن يجعلها اداة ابداع وخلق وتجديد وليس أداة شروح فقهية ومعلقات ومقامات ان دقة الملاحظة وامتلاك القدرة الفائقة على تصور اللغة والالفاظ

وعلاقاتها وتقاطع تلك الدلالات اللفظية جعل من الاستاذ البشير خالقا لصور لغوية وتقاطعات دلالية من نوع خاص معبرا بها عن آلام الحياة وآمالها ، عن عذابات الحياة ومسراتها عن مصير الانسان وفنائه ، عن توه الانسان وسط خضم هذا الصراع الأزلي بين الكائن البشرى المحدود الفاعلية وبين الكون اللامتناهي وسخريته من الانسان " وشده اليها خيط ابرته تخز قلبه ثم تدميه وراح بكفيه يعتصر ألما شفافا من ورائه ذوب دمع وبراعم حزن ، فلم يعرف وجهه فيها ولا استشف نسيج اللهو بين خيوطها " ) 9 ( . جمل قصيرة لامعة مخالفة للمألوف دقيقة هدفها أن توحى وتوجه بين مختلف رؤى العالم هذه الوحدة التى يبحث عنها المتصوفون عبر رحلاتهم المعرفية فالاستاذ البشير بن سلامة يوحى لك بكلمات بسيطة ومعبرة عن عذابات الانسان فى هذا الوجود ، عن عذابات الانسان أمام قوى الطبيعة الباطشة الفتاكة ، عن الم الانسان الباحث دائما عن الحقيقة وسر الوجود والذي سرعان ما يصطدم بالواقع الانساني ذي الحدود الضيقة والآفاق المسدودة . كل شئ يؤلم الانسان ويدمى قلبه او بالأحرى ذلك الوخز بالابر للقلب ، القلب الانساني المتالم في عذابات الشك وآلام الوجود ذلك الوجود الذي لا يستكين الا ليعيد ثانية تذكير الانسان بعجزه وفظاعته أمام الفناء والعدم ، أمام الموت والاندثار " ثم اشتد الاسر خيوطا حريرا ولا كالحرير " فهذا السرد السحرى فى بهائه وتفرده فى تعبيره عن عجز الانسان وتصوره فى هذا الكون الشاسع الغامض الى درجة الابهام ، فرغم نعومة الحرير ودقة خيوطه فانها تبدو للانسان العاجز سلاسل وأصفادا لا يستطيع زحزحتها عن كاهله المثقل بالهموم والالم والاحزان ، الاحزان المكبلة المقيدة والقيد قيد حتى وان كان من حرير .

فالكاتب فى هذه القصة يبحث عن الولوج فى قلب القلعة فى "الضمير" فى هذا الفراغ المتوتر الذي يجده كل انسان فى أعماق ذاته ، هذا المذاق التافه فى أعماق الحنجرة ، هذا الفيض الغامض من المشاعر والافكار ، هذه الكتلة من الذكريات التى لا جدوى فيها ، هذا الشقاء ، هذه الوحدة التى وصفها سارتر وصفا مشخصا فى رواية الغثيان " ( 10) . فالوحدة تبقى وحدة والاسر يبقى

أسر وان كان في جنات عدن والقيد يبقى قيدا وحتى وان كان من حرير الدمقس هذا ما حبر نفسية الكاتب الانسان الفنان النازع دوما الى التحرر والانعتاق التواق دوما الى اكتشاف ما يحيط به من الغاز ورموز ، الباحث دوما عن سر الطبيعة وكنه الكون عن سر الوجود ومصير الانسان ، عن جدوى الحياة وماهية العدم الفناء . كان عالم الكاتب في هذه اللوحة القصة أو هذه القصة اللوحة القصيدة هو ذلك " العالم المهتاج ، هو عالم الفن التعبيري ايضا ، عالم قاتم حيث لا تخضع فيه الدوافع الانسانية لمنطق العواطف ، بل لنوع من الغضب والعجز . صميم الانسان " (11) ذلك الانسان الذي يرى الوجود مصيبة  وكارثة ولكنه بتشبث به ، ذلك الانسان الذي يعتقد أحيانا انه وصل الى مرحلة الهتك والكشف والاكتشاف ولكن سرعان ما يرجع الى جاذبيته الارضيه التى تأبى  له الفرار من عالمها وتأبي بقاءه عليها ضمن اشيائها فبقى الانسان محاولا مدى حياته محاولا ابحاد حلول لمشاكله ليس الحياتية فقط وانما ما بعد الحياة أم ما فوق الحياة فظل معلقا بين الارض والسماء لا هذه تقبله ولا هذه ترفضه ممزقا بين حاضره وماضيه ومستقبله مؤرخحا بين ايمان العجائز وايمان الحلاج بين شك الغزالي وأبى حيان وبين ايمان أبي الطيب بنفسه وايمانه بالعمل الخلاق المعوض حيث بتكثف الماضي والمستقبل ويتمركز فى حاضر مؤثر حاضر خلاق ، حاضر مبدع ، حاضر باحث ومنقب

اشترك في نشرتنا البريدية