I - أصوات
هى المرض . أما المصاب فأنا . . والحب هو ما بيننا . . . تصوروا يا نظارة المأساة التى كتبها ( لست أدرى من ؟ ) وكنا ( أنا وهى ) الجرح والخنجر معا . الجرثومة والجسم معا . النار والهشيم معا . .
" تقولون أسطورة بالية " " تقولون مهزلة قديمة كالعالم " " يقول البعض منكم هى هذا وذلك " . .
أما أنا فلن أدعو زفرة تنفلت من فمى ، يا نظارة ! أما أنا فعنقى هذا الذى لم ينج هو الآخر من الداء ، فهو سيظل مرتفعا ، عموديا ، حتى المنتهى !
" تقولون هذا عبث " " تقولون هذا افتعال . . " " يقول البعض منكم تعسف ، غطرسة . . "
أما أنا فلن أقول شيئا ، يا نظارة ، لأن الداء الذى يزحف بجسمى من الداخل ، يتسلل فى دمى بصمت ، يصل الى أذنى ولسانى دون ضجيج هو عدو يهوى الرمز فكيف تريدون أن تكون عبارتى مثل تصريح ديبلوماسى . .
المرض هى . أما أنا فالمصاب . والحب هو ما بيننا .
تقولون أين الفصل الاخير . تقولون أضاع بطل القصة بقية الدور . يقول البعض منكم لماذا لم يمزق الجزء المصاب من جسمه . .
ولكن ! ماذا تريدون ؟
II - قتيل العقلاء
( من وحى معركة بنزرت )
وظيفته اليومية الجريان فى الشوارع الصاخبة أو الزقاق الخرساء ببنزرت وهى وظيفة لم يخترها أحد سواه فيما أعلم فيما مضى وعلى ما أعتقد شخصيا الى حد الآن والى أن يأتى ما يخالف ذلك . . !
نسيت أن أقول إنه فى الواقع لم يختر هذه الوظيفة المرهقة - اللاهادفة - ولكنها اختارته دون كل أبناء المدن المناضلة بشكل أو بآخر أمثال قصر هلال أو باجة أو المنستير أو صفاقس أو غيرها والتى كنت قد حفظت كل " وظائف " سكانها عن ظهر قلب بحكم تنقلاتى المتعددة ونشاطى " اللامركزى " . . .
أليس مرهقا للاعصاب ، مثيرا للتساؤل وربما للسخرية ، وربما للشفقة وربما للرثاء أن يختار الانسان وظيفة الجريان " اليومى " فى الشوارع التى تتغير شكلا ومضمونا ، قلبا وقالبا بحسب الطقس والفصول والاعياد القومية واللاقومية وكل ذلك دون أن يطرأ أى تغيير يذكر على وظيفة الجريان هذه . . !
نسيت أن أقول إن صاحب هذه الوظيفة لا يتقاضى مرتبا على تلك الوظيفة ولا يتحاسب فى شأنها مع أى كان من مواطنية أو من بقايا المسؤولين الاجانب الذين أرادت فرنسا أن يبقوا بالرغم منا فى أرضنا باعتبار أن بنزرت قاعدة حربية لهم !
أليس مدهشا حقا ، مدعاة للحيرة والضحك وربما للبعد عن الجادة أن يقوم كائن من بنى آدم بوظيفة " الجريان " هذه وأن يكون ذلك دون رغبة فى الرياضة أو الربح المادى أو الامساك بشئ أو الفرار من شئ ، أو حتى البحث عن ازمنة ضائعة ؟ . حتى أهل البطالة الذين لا شغل لهم إلا اخصاب زوجاتهم وتضخيم النسل والانتظار ، حتى هؤلاء لا أظن لحظة واحدة أنهم يستطيعون أن يمارسوا هاته الهواية اليومية التى يقوم بها
صاحبنا " البنزرتى " بدون انقطاع ، فلا يقف قط ولا يجلس قط ولكنه يجرى ليلا ونهارا كمن له هدف دائم أمامه دائما وأبدا ، فترى ذلك المسكين صيفا وشتاء وربيعا وخريفا ، فى جريانه ذاك الذى لا ينقطع الا لحظة " النوم " . فهو لا يعرف الوقوف ولا يعرف الجلوس بأنواعه ولكنه يجرى ثم ينام ثم يجرى . . .
نسيت أن أقول إن ما قلته ليس حكاية تحكى لغرض من الأغراض لكنها حقيقة لرجل مجنون برئ ليس كالمجانين لا يقذف الناس ولو بكلمة أو بحجارة أو بنظرة أو بتكشيرة ولكن كل جنونه كان فى وظيفة الجريان تلك .
لهذا ما ذنبى وصورة ذلك " المجنون " تداهم شفقتى ، تتحدى نسيانى فى تنقلاتى ونشاطى اللامركزى وفى تلاشى وغرقى فى الزحام والضجة وفى جبهات الصراحة وأسواق النفاق والمجاملات ، وتفرض نفسها ( أى تلك الصورة ) على الذاكرة والعين . . !
وذات يوم بعد معركة بنزرت وخروج آخر جندى أجنبى بلا رجعة من ترابنا وبعد احصاء الشهداء وإعطائهم حقهم بحثت عن صاحبنا ثم سألت عنه فقيل لى إنه قتل بأول رصاصة اندلعت بعدها المعركة !
الأوغاد ! الجبناء ! ألا يسلم من توحشهم حتى برئ بلا عقل ؟ حتى مجنون لا يحيا ضمن مقاييسهم وتصوراتهم . . ؟
III - التحدى
- عبثا فتحت النوافذ والباب وعينى . أنا الذى تحتوى حناياه شوقا الى البعيد . . أنا الذى بقاياه لا تزال تحن الى الضجيج والشمس . .
- عبثا جريت . لهثت بحثا عن الخلاص وأنت تسدين الطريق تغلقين الأفق . . .
- عبثا قمت من الغطيط ، نفضت أضغاث الاحلام من أجفانى . أنا الذى أطلاله أضناها الغبار ، نسى تاريخها الحارس ، لكن كيف أعرف اليوم والساعة والعام ما دمت لا أرى إلا . . . !
- عبثا فكرت فى حصانى والفارس الذى كنته . . أنا الذى تعرف السهول والجبال غزواته وغاراته .
أنا الذى . . . !
قيدى أنت وأنت القيد . لتشد على حبال الظنون فحريتى أكثر . . ليوضع فى الوريد الخنجر فعزمى أطول . . قيثارتى القديمة والجمهور أين الآن ؟ اتركوا لسانى على المشواة فكلماتى لن يبتلعها السوق مهما كان الثمن . . !
- اسطوانة فى عينين وايقاع آخر ( * )
لقائى بهما كان معا . . أى لقائى بعينى فتاة فى نغمة اسطوانة ولقائى بتلك النغمة فى عينى تلك الفتاة التى لم تشأ أن تصدق . .
الاولى كلماتها ليست فى ثغرها بل كلماتها فى عينيها فقط . الثانية أى الاسطوانة ترجمة موسيقية لتلك الكلمات التى فى عينيها . والنتيجة واحدة إن نظرت أو أصغيت فقط . فالنظر الى عينى هذه الفتاة التى لا تعلم بذلك هو حتما وبالضرورة يساوى الاستماع الى الاسطوانة التى فى عينى الفتاة والعكس يصح ، على قياس واحد . .
لقائى بهما كان معا . . وكان لا بد أن أضم احساسى الى العينين فقط أو الاسطوانة فقط . نعم كان لا بد . كان لا بد . كان لا بد .
أنظر الى الفتاة فأضيع فى نغمة ساخنة تنساب من عينيها . نغمة ساخنة مثلها نقاوة وطهرا وحنانا وحنينا . أنظر فأضيع وابحث عن شئ يعيدنى الى نفسى . أبحث عن تراب لصحوى فاذا بأقدامى وفكرى على ضفة نهر الجنون .
ثم أغرق كل يوم مع الناس فى زحمة الحياة وأكاد أنسى حتى تنتشلنى الاسطوانة وتجعل من عينى الفتاة والنغمة المطلة على منهما حضورا دائما لا ينتهى . لا ينتهى . لا ينتهى . . !
لقائى بهما كان معا . أى لقائى بعينى فتاة فى نغمة اسطوانة ولقائى بتلك النغمة فى عينى تلك الفتاة التى لم تشأ أن تصدق . . .
الاولى عيناها يهلان على . . يشردان خيالى فى الليل . . يدفعان بقلبى الى نهر الجنون .
الثانية أى الاسطوانة ، رسوم بالنغم فيها خيالى المشرد فى الليل ، فيها قلبى على ضفة نهر الجنون ، فيها أيضا عينا الفتاة . . .
والايقاع الذى فى صدرى هو من العينين ومن الاسطوانة ، وكذلك نبضات قلبى ، وركضة الحنين فى عروقى ، وهذا الشئ الذى يفسر . . .
لقائى بهما كان معا . . وكان لا بد أن أضم احساسى الى العينين فقط ، أو الاسطوانة فقط . . . نعم كان لا بد . كان لا بد . كان لا بد .
هما عندى هذا الذهول ، هذا الدوار الشبيه بما لا أعرف ! عينا الفتاة هما فى ارتعاشة الاسطوانة وارتعاشة النغم فى عينى الفتاة ، وأنا كأنى فى المهب ، والحوار بين عينى ومسمعى همس ساخن لا ينتهى . لا ينتهى . لا ينتهى .
م . م . ( . . . 1968 )
رأى للنقاش . . !
[ القصائد المضادة ] ليست فنا يحتاج الى تسمية لأنها ليست شعرا كلاسيكيا أو حرا كما هو واضح . فهى تتخطى تلك " الهندسة " العروضية التى لا فضل لها الا فى كونها من تراثنا ، ومن هنا جاء معنى " الضدية " فيها الذى لا ينبغى أن يفهم على أنه معارضة بالمعنى الموروث . . الاختلاف الجذرى بين أنماط الشعر المعروف وبين ( القصائد المضادة ) يكمن فى الفرق القائم بين انسان مطمئن ، وارث فقط وبين انسان آخر معاصر يؤمن بأن احترام التراث العربى لا يكون الا بالاضافة اليه والتحاور معه ومع تراث الحضاراتالاخرى فى عصر اصبحت فيه الحدود الجغرافية وهما من الاوهام وكذلك وقع فيه ما يسمى بالانفجار بين مختلف الحدود فى كافة أصناف الخلق ( Eclatement des genres ). بناء على كل هذه الاعتبارات التى تتحدى الانغلاق والقالبية والثبات والخوف من الجديد والاحتراز من التطور ، كان لابد من ] قصائد مضادة [ فى كل اللغات بما فى ذلك اللغة العربية التى قد ترشحها حساسية ألفاظها إلى مثل هذا الاجتهاد الفنى والبحث ( Recherches ).
وفعلا ثمة من اجتهد ولم يصب وثمة العكس إلا أن ] قصائد النثر ] أو ]القصائد المضادة[ كثيرا ما كانت ضحية نمطين من الناس:
1 ) نمط المتطفل على الحرف بألفاظ مطفأة ، زائفة ( وهو موجود فى كل مكان ) .
2 ( نمط الناقد الكلاسيكى الذى يستحيل أمام القصيدة الجديدة الى ( خليل ) صغير (نسبة الى الخليل بن أحمد الفراهيدى ) الكبير . وهذا راجع الى فساد القياس فى ثقافة الناقد الكلاسيكى الذى لا يتكلم الا بما حفظ وتعلم دون اجتهاد أو تفتح . والذي آمن بحكمة قديمة كانت شرا على أجدادنا وهي ليس فى الامكان أبدع مما كان " . . .
فى الأخطاء الخطيرة المنجرة عن غموض التعريف أو عن ضعف ملكة التمييز اقتصر على خطأ واحد وقع فيه الكثيرون قديما وحديثا وهو الخلط بين القصيدة المضادة ( Anti - poeme ) أو ( A poeme ) وبين النثر الشعرى ( prose poetique )كما نراه عند( Choteubriond ) أو جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة . فالفرق بين ]القصيدة المضادة [ وبين كافة أنواع النثر وكافة أنواع الشعر هو أن [ قصيدة المضادة [ كما رآها Aloysius Bertand)) و ( Baudelaire ) الى ( سان جون بيرس ) المحرز على جائزة نوبل فى هذا النوع هو فرق كبير ! فهى خلافا للنثر والنثر الفنى ، والنثر الشعرى تمتاز بأوزان وقواف أخرى وآفاق وأوتارتنبع كل مرة من طرافة الشاعر لا من ذاكرته ومن محفوظاته . . !
عندنا فى العالم العربى ]قصائد مضادة[ ؟ الاجابة نعم بعد كثير من الاحتراز ولكن العدد قليل جدا ويكاد ينحصر في مجله) شعر ) التى اختلط فيها الحابل بالنابل ! ولعلني أعود الى موضوع القصيدة المضادة بعد افساح المجال للنقاش النزيه مع من له قول في القضية ولا شك أن الشاعر نور الدين صمود الذى خالفني شفويا له رأى ينشره وكذلك الشاعر جعفر ماجد الذى خالفني في الرأى ذات مرة فى حصة ( عرض المجلات ) الاذاعية وغيرهما . م . م .
