" ليس فيها من الخيال الا الاسلوب "
كان كل أمل " عزوة " الشيبانية ان ترى ابنها " فالحا " وقد ملأ الفراغ الذى احدثه ابوه فى حياتها بعد استشهاده فى حرب فلسطين مع من استشهد من المجاهدين الذين ذهبوا الى تلك الديار المقدسة ليحظوا باحدى الحسنيين ، وكانت كلما ذكرت بعلها تبكى بدموع سخينة شاخصة ببصرها الى الشمال البعيد ، وكأنها ترى طيف زوجها ، وهي قابعة في تأهب عند مدخل بيتها الشعرى المتهلهل ، والدخان يتصاعد فى تعرج إلى السماء من تحت قدر زاملهم في الرخاء وها هو يشهد حاجتهم وفقرهم .
وتظل هكذا حتى تسمع وقع اقدام ابنها فتكف عن البكاء لتبدو شجاعة صابرة . . يعود حاملا على رأسه حزمة الخشيش لغنيمتيهما بعد ان يكون قد عمل طوال اليوم في تلك المبانى الشاهقة الآخذة في القيام غربى بيتها بالرياض
وحل موعد اوبته ذات مساء ثم مضى ، دون ان يعود كعادته في السنوات الثلاث الماضية .
وكفت عن الكباء . . واخذت تنظر فى قلق الى ناحية الطريق الذي اعتاد ان يسلكه فى غدوه ورواحه . .
ومضت الدقائق ثقالا عليها . . ثم ازداد قلقها . . لماذا لم يعد . . ؟
وما كان له ان يعود الا جثة هامدة فلقد اختل توازنه على " السقالة " فى الطابق الثالث وجاء سقوطه على ارض صلبة فتهشم رأسه وتناثر مخه
ومرت الايام فالشهور ، وهي لا تنفك تندب حظها الا انها والحق يقال لم تكن برمة . . وما كان لمؤمن ان يبرم بالقضاء والقدر.
واسلمت امرها الى الله ، وعمدت الى المغزل تغزل به خيوطا سوداء . . وبيضاء لتصنع منها " المفارش " ثم ترسلها الى السوق لتعيل نفسها ،
غير انها لم تكن لتستطيع ان تصنع اكثر من مفرش واحد فى العام ، لضعف بصرها ووهن جسمها . . شأن من يعيش مهموما حزينا ولا يجد الا الغث من الطعام . .
وجاءتها جارتها حصة يوما وكانت علية بحالها فاشارت قائلة :-
- وراك ما تطلبين الشيوخ يا عز كانت تعلم ان " الشيوخ " اب الجميع حقا ، ولكن هل كان لمثلها وهى الفقيرة الرئة الثياب ان تجد طريقها اليه ؟ انها تسمع الكثير عن قصص كرمه وعطائه وعطفه وحنانه على رعيته قصص وحكايات بالنسبة اليها . وأنى لها ان تعلم عما إذا كانت مجرد قصص أم حقائق.
حقا ان " الشيوخ " قد واساها عندما استشهد زوجها فى فلسطين البلد الذى لا يمكن لعربى ان ينساه ولكن من يدريه عن حالها اليوم ! . . ومن تكون هى ؟ . . واين موضعها بين هؤلاء الملايين من سكان البلاد !
وقطعت جارتها عليها حبل تفكيرها بقولها :
- والله أنك مهبولة ، اكتبى خط للشيوخ عسى الله يسلمه .
فأجابت : - وين حنا يا حصة ووين الشيوخ ربي يسلمه . . ثم اردفت وكأنها ارادت ان تنتحي بالحديث ناحية اخرى فقالت :
- عقب باكر العيد الدور السادس لابو فالح الله يرحمه .
وآوت الى فراشها ، إذا صح ان هناك ما يسمى كذلك ، فى خيمتها وحاولت ان تنام فأغمضت عينيها ،
وجاءت في خيالها اطياف لبعلها فى صور واوضاع مختلفة . . ابان ان كانوا يجوبون بادية نجد طلبا للمرعى ومساقط المياه .
وتذكرت كيف كان لا يحلو له الا ان يناديها قائلا " انت يا . . " لقد كان لهذا النداء وقع الموسيقى فى نفسها وان لم اقل : وقع انغام الحداة وهم يجتازون روضة التنهات فى ليلة مقمرة من ليالي ربيع مبارك
وارسلت زفرة عميقة من صدرها وسحبت خمارها على وجهها محاولة التلهى عن الذكريات ، فاذا بها تسمع صوتا يقول :
- انت يا . . فقامت مذعورة وهى تقول : - بسم الله من هذا ! ؟ فقال صاحب الصوت : - - انت عزوة الشيبانية زوجة الرجال الذى استشهد فى حرب اليهود ، وولدها كان طاح من العمارة
فأجابت فى حيرة ودهشة وهى تقوم من مكانها : -
- بلى فقال صاحب الصوت وهو يرسل يده نحوها بصرة : -
- خذي . . هذه عطية الشيوخ وتناولت منه صرة ثقيلة ناءت بها بدها الهزيلة المعروفة وفغرت فاها : وعقلت الدهشة لسانها .
لقد كانت ترى انها ابعد الناس عن " الشيوخ " فاذا بها تجد ان " الشيوخ " هو اقرب الناس اليها ، ولم تجد ما تقوله غير : -
- واقرب الشيوخ منا . . يانا أفدى الشيوخ يانا . .
