رأيته ذات فجر ، وانا اقوم برياضة المشى في الصباح المبكر . . رأيته - وقد انطلق من اصطبله ، وكسر طوق قيده الحديدى ، ومضى ببقية السلسلة التى كانت تطوق ذراعيه .. رأيته يعدو، فى غفلة من صاحبه .. الى طريقه حيث يشاء ..
وفي أقل من بضع دقائق وصل الى مفترق الطرق : الطريق الخاص الذي جاء منه الى هذا المفترق ، والطريق العام الرحب الذي تنهب فيه السيارات الارض نهبا . . وهنا شاهدته يقف دفعة واحدة ، كما تقف السيارة ذات الضوابط ( الفرامل ) القوية شاهد سائقها من كثب ، مفاجأة خطرة امامه .
ورفع - اذنيه الطويلتين المؤللتين الشبيهتين بأنبوتى " بوص " جعلتا على هيئة قلمين ضخمين متوازيين ، بينهما ( دواة ) كبيرة هي رأسه واطل بعينيه الكبيرتين ، يمنة ويسرة . . وانتصبت قوائمه على مكانها من الارض لا تريم عنه حولا ، حتى لكأنها اعمدة مرمرية بيضاء ثبتت على طبقة سوداء من البلاط .
وكأني به ساعتئذ ، مستغرق - بحكم غريزته الحيوانية فى تفكير عميق عجل ، وكأنما يقول لنفسه او تقول له : يا ترى ! فى أى درب أنت منساق الآن ؟ أتسير فى درب الخير والسعادة التى انطلقت من معقلك تنشدها ؟ ام فى درب التعاسة والهوان والشقاء ؟ وهل كان ما اقتحمته - توا - فى انطلاقتك المرتجلة من " قمقم " حوش سيدك سعيد ، عبر هذا الشارع الذى تعرفه جيدا ، لكثرة ما سرت عليه جيئة وذهابا ، وانت تجر وراءك عربة " البلوكات " - خيرا لك من الخير ؟ ام شرا عليك من الشر ؟ وقد يخال المرء فى بعض الاحيان انه سائر فى طريق خيره ومستقبله
المزدهر ، ولكن يكون الامر بالعكس مما قدر . . كما يتخيل العكس ، فى آن آخر ، والحقيقة على خلاف ما تخيل . . ثم . . هل من الخير لك ان تستمر فى سيرك على هذا المنوال الى آخر الشوط . . الى ذلك العالم المجهول . الى ذلك الغيب الغامض المحاط بأشباح الجوع والمرض والشقاء والهزال والمتاعب الجمة والحسرة الكاربة والندامة الدائمة ؟ ام من الخير لك ، وانت في أول الطريق ، ان تنقلب من الآن فورا ، وتؤوب إلى " حلتك " التى ربيت فيها وغذيت بنعمائها ، والفت فيها الخير والنعيم وتمتعت فيها بالرى والشبع ، وجر عربة البلوكات الى عملاء صاحبك الطيب القلب السيد سعيد ذى الكرش الكبير والحوش الكبير الذى تمرح فيه وتنهق وتتريض . . والكرش الكبير دليل ملموس على طيبة صاحبك وكثرة خيراته ورفاهيته والحوش الكبير دليل على نجح مشروعه . .
ولم تختلط مقاييس الامور ولم تشتبه على صاحبنا ، كما تختلط وتشتبه فى احيان كثيرة على من هم ارقى منه من البشر اثناء انزلاقهم فى مثل هذا الموقف الجارف . . فقد
أقنعته عزيزته الملهمة الى شئ ما . . وسرعان ما وصل الى قرار حاسم فى امره . . فلمحته وهو ينكص على عقبيه ، جاريا فى نفس طريق عودته الى مكانه الذى زايله منذ برهة . . وحينما اقترب منه فعلا خفف من علواء عدوه ، واحكم ارهاف اذنيه فصارتا حادتين حدة أعواد " البامبو " التى اتخذ منها الاندونيسيون ايام كفاحهم للاستعمار الهولندى حرابا قاتلة . . وسدد عيونه النجل الى الامام . وكأنما كان يتحسس بكل ذلك ما وراء جدران الحوش الكبير الذى هو الآن على بضعة أمتار منه . . ثم أرخى رأسه كما يرخيه التائب النادم على ما فعل ...
ووقف صاحب الحوش الكبير المملوء بالبلوكات المرصوصة فيه الى جانب من جوانب شارع عرفات بجدة ، وبأحد جوانبه الخلفية اكوام من طعام الحمار نفسه ، معبأ بعضها في اكياس شعير ، وملقي بعضها على بعض ، وهذا البعض الملقي يتمثل فى لفائف من نبات جاف ، الى جرة كبيرة واسعة الفم ، فيها ماء نمير كثير أعد لرى الحمار الذي هو سيارة سعيد التى يوصل على ظهرها او بالادق على ظهر العربة القديمة التى ركب فيها عجلات حديثة من المطاط ، كل ما يلزمه ايصاله إلى من يعاملهم ويبيع عليهم بضاعته المزجاة الثقيلة من البلوكات الاسمنتية الغير الدقيقة الصنع . .
وكان سعيد فى وقفته تلك بباب حوشه الكبير يترصد عودة حماره الهارب منه لغير سبب مفهوم لديه . . وقد ادرك بفطرته الانسانية اللماحة انه لا بد تائب وآيب اليه
عما قريب ، من هروبه المفاجئ المرتجل . فالى اين هو يسير ؟ وماذا يبتغي ؟ وماذا ينال مهما أطال الغيبة والتجوال ؟ بل لعله سيدرك بغريزة الحيوان التى تسيره وتهديه انه لن ينال اكثر مما ناله عنده ، وقد يدرك ايضا لن ينال مثل ما كدسه له من طعام لذيذ وشراب وفير ، الى عمل غير مرهق له ولا مستديم . .
وما شعر بقدومه ، في همهمته الهادئة ، ومشيته الرزينة حتى اطمأن الى ان رأيه - فى حماره - كان صوابا مائة في المائة .
وتدانى بعضهما من بعض ، وما ان لمس صاحبه طرف عرفه حتى انطلقت من فم الحمار " نهقة " عبر بها عن مدى شعوره بالغبطة والفرح .. كنتيجة لايابه هذا المفعم بالتعقل ثم بالوفاء والولاء. وقابلها سعيد بهمسة معتادة بينهما ، ثم ربت على ظهره ، لزيادة الاستئناس والقبول .
وهكذا ادرك هذا الحيوان الاعجم بغريزته ما يجب ان يكون اليه مصيره ، فسلك سبيل الرشاد وقد تفاهم مع سيده العطوف ، وبذلك سلم من الانزلاق فى طريق المجهول الذى كان قد ركض اليه ركضا فى غير وعى ولا تقدير ، لعواقب الامور .
