اجتاح البلاد موجة عارمة من الوعى واصبح كل فرد يتطلع الى تحسين مستوى معيشته ويتلفت حوله يتحسس موضع الداء ليجد له الدواء وكان صاحبنا ممن أصابهم هذا الوعى بل ممن حركه فى النفوس وساعد على تنميته . . كيف لا وهو الاديب الكبير . والكاتب المعروف . . لم يكن بالرجل الذى صاحبه وعيه منذ نعومة أظافره - وهذا أمر مستحيل - ولم ينشأ فى بيئة واعية تهديه سواء السبيل أيام طيشه وريثما يتم له الرشد فيصبح سيد نفسه وقد أمن سقطات الزمن والطيش . . كان عليه ان يعانى الكثير من نتائج لم يكن هو فيها الجانى الاول وان كنا لا نستطيع ان نبرئه كليا منها . .
وفى لحظة من لحظات ثورته افاق الى نفسه وانتبه الى وضعه وقارن ما بين يديه بالذى بيد الآخرين من يعجبونه ويعتبرهم يعيشون الحياة الراغدة الهنيئة فرأى الفرق شاسعا والهوة سحيقة كان لا يزال فى الأربعين من عمره . . فى قمة الحياة . . قد اكتملت رجولته ووضحت معالم شخصيته . . عارك الحياة وحنكته التجارب . . وبقى فيه شىء بل كثير من القوة . . انه يحس بشبابه وبقوته كأحسن ما احس بها
فى حياته . . لم لا يعيش كهؤلاء . . عيشة فكرية رائعة تخالطها عيشة هنيئة فى بيت يسوده التفاهم ويخيم عليه النظام ويبعث البهجة فى ارجائه أطفال يظهر للرائى أنهم قد انشئوا تنشئة صحيحة قائمة على الاسس التربوية الحديثة قد خلت حياتهم من العقد فلا الضيوف يخيفون ، ولا وضع اليد فى الفم حرام ، ولا الحديث عيب . . فهم يتجنبون السيىء لمعرفتهم موضع السوء فيه ولاقتناعهم بكونه سيئا ويأتون بالحسن لفهمهم موضع الحسن فيه . . لم لا يعيش مع زوجة تفهمه وتقدر احاسيسه ومشاعره . . تحاوره وتناقشه وتكون على صلة دائمة بالمجتمع وبالحياة العامة . .
وللمرة الاولى فى حياته تمنى لو انه يخلق من جديد . . يخلق رجلا كما هو الآن ، ولكن لا صلة له بأحد فى العالم ولا صلة لهم به . . واستبد به هذا الخاطر وأحس ببغض لكل شىء حوله . . كيف له ذلك ووراءه هذا الجيش من الاولاد هو مسئول عنهم وأمهم التى لا يشعر بوجودها الا اذا دخل الدار . . لو كان الامر يقتصر على النقود لباع كل ما يملك واعطاهم اياه واستراح ، ولكن حتى هذا لا يخلصه منهم . . أصبح لا يرى فى
الاشياء الا الجانب السيىء منها ولا تقع عينه الا على القبيح من الامور فيزداد مقتا للحياة وما فيها ، اسودت الدنيا فى عينيه واظلمت ورأى انه ان بقى على هذا الحال فنهايته المحتمة معروفه فهى اما الانتحار - وهذا لن يقدم عليه - أو مستشفى المجاذيب ، وهذا لن يرضاه لنفسه ما دامت فيه بقية من عقل يستطيع انقاذها . .
وفكر صاحبنا واطال التفكير ، واخيرا وصل الى نتيجة ظن فيها الخلاص من محنته ، ماذا لو تزوج زواجا ثانيا ينسى فيه متاعبه . . زواجا تتوافر فيه الشروط التى اختطها ، ويسدد النقص الذى لمسه . .
ثم سمع هاتفا من الاعماق يقول أبعد هذا العمر الطويل تحركك الشهوة يا هذا . . ؟ فسارع يقول : ليست الشهوة ما أبغى . . كل ما اطلبه هو الهناء والسعادة . . أريد الراحة فى بيتى ، أريد أن أركن الى انسان يفهمنى ويسعدنى . . أريد التربية الصالحة القويمة . . واحتد الخصام بين نفسه وبين هذا الهاتف ، وتساوت الادلة والبراهين ولم يبق مخرج من هذا النقاش الا التحكيم ، فقال صاحبنا اخيرا لن اتمسك برأيى عنادا ولن انفذه دون استشارة . . سأذهب الى صديقى فلان فهو ذو حنكة ومعرفة وهو الى جانب ذلك قد تزوج حديثا وسمعت منه الكثير عن حياته الهانئة فلعله حين يرى تعاستى ويقارنها بما هو عليه من سعادة ، أن يرق لى وينصح لى بالزواج ، وان كان
غير ذلك فنصحه مقبول لانه لا غرض له فى أن يثنينى عن عزمى سوى حبه الخير لى أن أرى فى ذلك خيرا . . ومن جهة أخرى فلديه قريبات تتوفر فيهن الصفات التى أريد ، فيكون الطلب أهون ان كان رده الايجاب . .
واستراح لهذا الخاطر فهو عند هذا الصديق سيجد القبول ، وسيحظى بزوجة عن طريقه فيصيب هدفين بسهم واحد . . بدأ يتحين الفرصة للاجتماع بهذا الصديق الى أن من الله عليه بلقياه بعد يومين فدعاه الى نزهة خلوية (( نجلو بها الصدأ عن أنفسنا )) كما وصفها له . .
وسارت بهما السيارة طويلا قبل أن يبدأ الكلام ، وترددت الكلمة الاولى طويلا قبل ان تخرج الى حيز الوجود ، واخيرا قال (( اعلم ياصاحبى اننى دعوتك الى هذه النزهة لامر فى نفس يعقوب . . دعوتك اليها لتجلو الصدأ عن نفسى أنا ، ولست أدرى بأية صورة أبدأ لك بعرض مشكلتى )) ، لم يستطع صاحبه أن يفعل شيئا أمام هذه المقدمة ولم يعرف طريقة يساعده فيها على بدء الكلام سوى أن يأخذ وضع المستمع الذى يهتم باستماع ما يقال له ، وساد الصمت برهة ثم عاد صاحبنا الى الحديث : تمر بى الآن أيام عصيبة لا أدرى هل اخرج منها سالما صحيحا أو أقع فى منتصف الطريق ، لست فى ضائقة مالية فانا ولله الحمد موفور الثراء ، انها ضائقة نفسية . . لا أستطيع تحديد بدئها بالضبط . . ولكنها وجدت وتضخمت وأحسست
بها وزاد شعورى بها مع الايام ، انها الحياة الزوجية الهانئة . . وكلما سمعت أحدا يتحدث عن راحته وهنائه تبين لى الفرق الواسع بينى وبينه . . وأحسست أننى اغبطه من أعماقى ، واخاف ان تنقلب الغبطة مع الايام الى حسد فأكتوى بناره . . واخيرا فكرت فى زواج ثان على أن أجد فيه أنا الآخر ما يجده هؤلاء ، فانسى نفسى المتعبة وأعيش حياة جديدة . . ففغر الصديق فاه دهشة واستنكارا وقال زواجا جديدا ؟ . . هل تزيد المصائب على رأسك . . ؟ ولكن اسمع هل أنت مستعد قبل كل شىء لتقبل ما أقوله لك مهما بلغ من القسوة والصراحة . . أنت تعرفنى صريحا لا أخشى فى الحق أحدا واقوله ولو على نفسى . . فان كنت على استعداد لكلام قد يكون أشد وقعا من النبال فلنتابع حديثنا والا فقاطعه صاحبنا قائلا : ولهذا اخترتك فلا تخش شيئا وقل ما بدا لك . .
فقال : قبل أن تفكر بالزوجة الجديدة تعال نتعرف على موضع العلة فى القديمة . . ما الذى ترجوه فى زوجتك الجديدة ولا تجده فى الاخرى
لم يكن هذا السؤال مفاجئا لصاحبنا فقد فكر فيه طويلا ، وبحثه ساعات وساعات . . نعم ما الذى ينقصه من زوجته ؟ طالما ردد على مسامع نفسه هذه الاجابة ووجد فيها الاقناع بل الافحام . . وسيقولها له وعندها لن يسعه الا أن يذعن له ويقر بهذا النقص فيمد اليه يد المساعدة ،
والتفت اليه يعدد النواقص . . يسردها سردا وكأنه يحفظها عن ظهر قلب . . انها غير متعلمة ، ثم انها لا تفهمنى ، ولا تعرف كيف تربى الاطفال ولا تستطيع أن تخلق فى البيت النظام ولا . .
فقال صاحبه مقاطعا : على مهلك فلنأخذ كل واحدة على حدة . . أما انها غير متعلمة فليس هذا ذنبها ، وان أنت أقدمت على الزواج من غيرها فلن تكون من بلدها ، ستبحث عنها فى البلدان المجاورة وما يدريك لعلك لا تظفر بالمتعلمة وان ظفرت بها فلن تكون المتعلمة العاقلة ، لانها سترضى بك طمعا بما لديك ، لن تكون فى نظرها الا مصرفا منه تسحب ما تشاء عندما تشاء . . هل تجهل زوجتك القراءة والكتابة ؟ . . فأجاب صاحبنا انها تعرفها وتقرأ القرآن وتطالع الصحف . .
فقال صاحبه : انك تظلمها يا هذا فان من يطالع الصحف يكون على جانب من المعرفة . . معرفة ما يحيط به من الاحداث . . لم لا ترشدها الى ما تطالع . . لم لا تأخذ بيدها وتنير لها سبيل الهداية . . لم لا توجهها الوجهة التى تريد . . انت موسر والحمد لله فلتترك زوجك أمر الاعمال المنزلية للخدم فلا يكونن لها منها الا الادارة والاشراف ، ولتصرف ما يتبقى من وقتها فى الابتداء فى التدرج نحو المعرفة ، نحو العلم . .
فنظر اليه صاحبنا نظرة ساخرة وقال : (( الله . . الله . . بعدما شاب ودوه فالكتاب . . " انك تطلب المستحيل . . فاجابه صديقه بحنو وعطف : لا تستغرب الامر ولا تستبعده ، فقد حدث مثله فعلا فى بلد عربى ناهض . . لم تنصرف المرأة الى العلم فى بيتها بل غادرته وهى المتزوجه ذات الاطفال وذهبت الى المدرسة . . أنا لا أطلب منك أن ترسلها الى المدرسة بل كن أنت المعلم المرشد . .
سيكون الامر عسيرا عليك ، وسيكون عليها اصعب . . ولكن ثق ان المرأة لا تكره شيئا فيه حياتها كرهها للضرة فهى فى سبيل التخلص منها والمحافظة على زوجها تقوم بالاعاجيب وتفعل المستحيلات هذا ان رأت فى هذا الزوج خيرا أو رجت منه الخير والا لفظته غير آسفة عليه . . هذا أمر العلم وقد تحدثت لك عنه بما فيه الكفاية والوضوح ولك أن تأخذ به أو تتركه . . والأمر الثانى صمت صاحبنا برهة وقد ارتج عليه هذا البرهان القوى الذى دفعه كقنبلة أولى ، انه يراه يتداعى ويتساقط ! ولم يعد يستطيع قيادة السيارة وكانت قد بعدت بهما عن المعمور مسافات طويلة فانتحى بها ناحية فى الشارع وأوقفها . . ثم التفت الى صاحبه وقال الامر الثاني الاولاد . . حياتهم فوضى تربيتهم عدم . . اخلاقهم رديئة . . طباعهم شرسة . . وتربية الولد من أمه . .
وهنا قال صاحبه مستنكرا : واين
أنت طيلة الوقت . . أحسبك فى عملك أو فى مكتبك تطالع وتعد المقالات . . ولا تعود الى بيتك الا ساعة الطعام فتجد الفوضى وتلوم الام عليها . .
اننا نلوم الاب على سوء تربية أولاده كما نلوم الام سواء بسواء ، ليست التربية من واجب الام فحسب بل هى من واجبات الاب ايضا . . انك تعطى المثل السيىء لابنائك ، هذا الاهمال لبيتك ، لزوجك ، ولاولادك يعودهم اهمال كل شىء وكل انسان . . ثم ما هى علاقتك بهم وما هى صلتهم بك ؛ أحسبك المتكبر القاسى الذى عندما لا تعجبه التصرفات يصرخ ، ويؤنب ويشتم ويسب . . تحسب نفسك فى كل هذا انما تهديهم وتبين لهم خطأ ما هم عليه . . المسئولية تقع عليك أكثر مما هى على الام . . انت المذنب وان لم تتدارك الامر فستكون المجرم . . نعم ، لا تبهرك هذه الكلمة . . انك ستتزوج ثانية فتهمل زوجتك وأولادك . . لا تقل انك ستمدهم بالمال ، ليس المال كل شىء فى هذه الدنيا ، بالمال لن يستطيع امرؤ أن يشترى العطف والحنان والسعادة . . انك تبحث عن السعادة لنفسك ولو على حساب حرمان الآخرين منها . . ستكون مجرما ان فعلت هذا . . فكر فى العواقب ثم اجبنى . . لم تعجب صاحبنا هذه اللهجة القاسية ، ولولا انه هو الذى سمح بها لما سكت عليها ، ولكنه مضطر الآن أن يسكت . . ثم لماذا يغضب ؟ ولو كان الكلام لغيره لوجد فيه الحق كله . . لماذا أصبح هذا
الكلام ثقيلا عليه حين وجه اليه ؟
ألم يكتب مثل هذه العبارات واقسى منها فى احدى قصصه . . الم يلم بعض الآباء على تقصيرهم لوما أشد ؟ فما باله حين وجه النوم اليه يغضب ويحنق فلتهدأ نفسه وليبرد غضبه فصاحبه على جانب كبير من الحق . . وأفاق من تفكيره على صوت صديقه يقول له : والامر الثالث . . فلم يسعه الا أن يجيب ، ولكن بصوت منخفض : انها لا تفهمنى ، لا تستطيع أن تسعدنى . . لا تشاركنى آلامى ومتاعبى . .
قال صديقه : وهل تفهمها أنت ، أو تحاول ؟ هل تسعدها أنت أو تحاول ذلك ؟ هل تشاركها آمالها وآلامها ان كانت متألمة أو كان لديها رجاء أو أمل . . لم تكون أنانيا ؟ لم أرك فى حديثنا هذا تهتم بها من أية وجهة من وجهات الحياة . . أنت المتألم الشاكى . . أنت الذى لا يسعد أنت الذى لا يفهم . . وهى ؟ . . هل وضعت لها أى أعتبار ؟ هل احللتها المكانة الملائمة واعطيتها جميع ما لها حتى تطلب منها أن تفى بجميع ما عليها ؟ هى المسكينة الشاكية ولكن لمن تشكو ؟ وهى التعيسة معك ولكنها صامتة راضية . .
اسمع ياصديقى ، ان كنت تريد أن تعيش سعيدا مع امرأة ، أى امرأة زوجتك هذه . . أو التى ستأتى . . فاجعل لها كيانا . . اشعرها بوجودها اجعلها صنوا لك ، مساوية لك ، لها
آراؤها وافكارها لها حقوقها كما ان عليها واجبات . . قبل ان تطالبها بواجبتها نحوك انظر هل اديت أنت واجباتك نحوها . . قبل ان تطلب منها حقوقك أد اليها حقوقها . . وعندها . . عندما تشعر بكيانها تجد ان امامها المجال الواسع لكى تناقش تبادل الرأى ، تفهم ما يدور حولها . . اما ان تكون أنت الحاكم بأمره . . الدكتاتور الذى لا يناقش ولا يراجع فى أوامره ، ففى هذا الجو لن تجد زوجة تفهمها ولا تفهمك ولن تسعد انت . . ولن تسعد هى . .
كان صاحبنا ذاهلا مما يسمع وهو الذى وثق ان النصر سيكون حليفه ، امتعضت نفسه لهذا الاخفاق ، ولكنه بدأ يناقشها الحساب ، وكان الهاتف فى داخله هو الذى انتصر . . لم لا يريد ان يقتنع ؟ . . هذه براهين وأدلة تثبت انه على خطأ . . هل الشهوة هى الدافع على الزواج الثانى ؟ لا . . لا . . معاذ الله ، لقد تفتحت عيناه الآن وتبين له انه حتى لو تزوج من الثانية فقد يقع فى الاخطاء نفسها ان الخطأ منه هو . . هو سيد البيت وهو الذى يستطيع ان يوجهه كما يريد ، ولكنه لم يظهر لصديقه هذا الاذعان المطلق بل قال له : وهناك يا أخى أمور تعد تافهة الى جانب هذه فقال : انك تعترف بتفاهتها واستطيع أن أقول انك لو تغلبت على تلك الامور الاكثر اهمية لزالت هذه التوافه . . كل ما فى الامر يا صديقى انه عليك مهمة شاقة يترتب عليها عيشك السعيد ، وتتخلص من الحالة التى
أنت عليها ومن الافكار السوداوية التى تنتابك . . أنت كاتب وموجه ! ما أعجب هذا ياعزيزى ! أننى أكفر بك وبأدبك . . نعم اقولها صراحة دون مواربة أو تضليل . . للكاتب رسالة يحملها ، وهو ان اخفق فى تأديتها كان نصيبه الاندثار ، وان استطاع ، نقش اسمه فى سجل الخالدين . . ان كنت نصبت نفسك كاتبا توجه الملايين من الناس تريد أن تقودهم الى حياة افضل . . افلا تستطيع ان توجه امرأة واحدة . . وتسعدها . . فتكون سعادتك فى سعادتها . . ان لم يكن لك تأثير على زوجتك وهى فرد فى المجتمع ، فهل تدعى القدرة على التأثير على مجتمع بأسره ؟ . . أو تريد أن أتلو لك الآية الشريفة : (( والشعراء يتبعهم
الغاوون . . ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون ، وانهم يقولون مالا يفعلون ))
جميل أن يرى الانسان عملا يبدعه واجمل منه ان يبعث الابداع فى انسان ويحركه الى العقل والى التفكير وهو النعمة الكبرى ، فيرى عملين فى آن واحد . .
وصمت صاحبه ، وصمت هو ايضا كأنه قد اخذ بسحر حديثه ، وبحركة لا شعورية ادار محرك السيارة وعاد بها فى هدوء وصمت يتمشيان مع هدوء الليل وصمته . . وكان الرائى يقتنع انه سيعمل شيئا . . شيئا ذا بال ولكن الى أى حد يستمر تأثير هذا السحر عليه ؟ . . الله وحده يعلم .
