فى تلك الارياف الجميلة التى تربض على مسافة ميل واحد من الشاطئ الشرقي الى جانب سهل ضيق تحتضنه الصحراء بذراعيها مثلما تحتضن الام ولدها الوحيد يعيش شاب اسمر اللون ، خفيف الروح نحيف الجسد . . أجل شاب ولكن ليس كالشباب . . لقد جبل نفسه على الخير والحب والجمال ، فهى مفطورة بطبيعتها على حب الله ، وسعادة الانسانية . . وتذوق الجمال . . جمال الحياة الذي يحول جحيم البشرية الى نعيم دائم ، ويستأصل عناصر الشر فلا يبقى منها جذرا واحدا .
هذا الشاب امره عجيب غريب . . انه يذهب عصر كل يوم الى الشاطئ ويجلس كعادته الى صخرة جاثمة امام الساحل فيتحدث اليه عما يحسه من احساس غريب وشوق عارم . وعندما تلون اصابع المساء الافق بالوانها القرمزية . . يودع تلك الصخرة فى رقق وحنان وتبحر عيناه نحو تلك المرافئ البعيدة التى طالما داعبت حياله . وشغلت حيز الفراغ في قلبه وللامواج هدير
صاخب تعقبه انات حزينة تصطدم بصخور الشاطئ وتكر راجعة فى يأس مرير . .
الف الشاب هذه الزيارة لانها تنعش روحه وتخفف من آلامه ، ما دامت تلك الزيارات القاسية تعاوده بين الفينة والأخرى هناك يحدق ببصره فى مياه الشاطئ بين مد وجزر . . وبين لقاء وفراق . ويتأمل الطيور البيض . . وهي تذرع ابعاد الفضاء زرافات ووحدانا ، حيث تهبط في انس ودعة لتستحم فى مياه الشاطئ الدفيئة وكانها قوافل الابل الضاربة فى متاهات الصحراء .
وفى يوم قائظ اخذ يطلق انفاسه وكانها السنة هاربة من جهنم . . قصد الفتى الشاب الشاطئ ، وجلس الى تلك الصخرة ينظر الى تململ المياه وخريرها الذي يشبه الى حد بعيد حشرجة انفاسه . . ويغوص بفكره الى اعماق الحياة فتلوح على ثغره بسمات حزينة لا تبرح حتى تنطفىء كالشمعة التى تتلاعب بها هبات الرياح .
ولما كحل الظلام اجفان الافق ازمع الشاب العودة الى قريته . وفي الطريق تتجسم امام بصره آماله الضائعة فيتذكر انه يعيش دونما امل . . امل يفتح له دروب الخير وينقذه من هواجس الضمير فيبتسم ملء فؤاده وتنجاب عن نفسه متاعب الحياة . . لكنه لا يدرك ما يتمناه فوساوسه بأوهامه لا تفتأ تعاوده فتسد امامه دروب الحياة .
لقد مله كل شئ حوله حتى ابواه اللذان يتعهدانه بالرعاية والحب العميق حتى اخوه الذي بلغت به القسوة الى
ايلامه بالضرب . العنيف والسباب اللاذع . ويستسلم الشاب الى هذا القدر الصارم الذي لا يجد عنه حولا الا بتلك الساعات التى يقضيها فى عناق مع الشاطئ الجميل
لقد حولت القسوة ملامح الشاب الجميلة الى ألوان شاحبة تعصف بها رياح الحسرة والالم . . والشاب ما زال يجهل مصدر تلك الاحداث التى جعلته فريسة الاسى واليأس . . انه فتى دائب النشاط . . بعيد الهمة . . يعمل دائما من أجل رضى الله والوالدين اللذين وصاه بهما .
هذه الكلمات كانت تختلج في قلب الشاب وهو في طريقه الى القرية ، فيخطر على باله ان ينام باقى تلك الليلة الى جانب كثيب كان بالقرب منه ، لأن الاعياء الشديد ابطأ به عن ادراك الوصول . . ويرقد الفتى الى جانب الكeيب حيث الظلام يخيم على الصحراء فيلفها بردائه الاسود الحالك الذي تشق أجوافه انوار النجوم الخافتة الرقيقة وهي تألق في كبد السماء كالشموع الموقدة .
أما والد الشاب الهرم ، فلم تعد له القدرة على فراق ولده الحبيب بعد ان شاخ جسده ، وصار يترنح من الضعف والهزال فراح يجوس خلال القبرية يسأل كل من يمر به . . لقد فقد شخصه منذ يومين فلم يعد يراه فى المنزل .
واخيرا اخبره احد رفقاء الشاب انه يزور الشاطئ عصر كل يوم فلم يكد يطرق مسامعه هذا النبأ حتى نزل على نفسه الحزينة بردا وسلاما وصار يذرع الطريق الى الشاطئ حيث لاذ بالنخيل المطلة على ضفاف الصحراء هربا من حرارة الشمس
اللافحة فى ضحوة ذلك اليوم الغائظ
وبالقرب من كتيب صغير . تحد به شجرتان من الائل تصفر فى اوراقهما انسام الصيف الوادعة ظهر له شبح ابيض . يختفى تارة ويلوح تارة اخرى .
قصد الشيخ العجوز ذلك الشبح وهو يتحرق من الوجد وما كاد يصل اليه حتى
ارتخت رجلاه المتعثرتان . وغارت عيناه المكدودتان . . ياله من منظر فظيع . . لقد شاهد ولده الحبيب
وقد رقد رقدته الاخيرة
(القطيف - القديح)
