الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "المنهل"

قصة متسلسلة, الكأس الأثرية ،

Share

-٥-

ووضعت الكأس في جيبي ، وبدل أن أعدو لأصل إلى المدرسة فى المعياد المحدد ، يممت صوب دار سمار

قام بدور الوسيط فى أكثر ما ابتاع عمى من قطعه الاثرية وطرقت بابه ، وسرعان ما نزل يسأل من الطارق فلما تبيني استفسر عما أريد ، فأسررت في أذنه كلمات وأعطيته الكأس الصغيرة ، فأجاب بصوت عال :

- حسناً...مر على دارى عقب أنصرافك من المدرسة ولما عدت إليه فى أصيل ذلك اليوم إستقبلي باشا وهو يقول :

- لقد أعجب عمك بالكأس الأثرية . - وهل أريته الكتابة... - نعم...نعم... بكل تأكيد - كم دفع لك من ثمن لها - خمسة عشر ريالا ، عشرة منها لك والباقي... فقاطعته  فرحاً : - حسن...حسن عشرة ريالات :

وناولتى عشرة ريالات فوضعتها فى جيبي ، وإتخذت سبيلي إلى البيت ، وقد تملكنى سرور غامر على أنى استطعت أن أفي بالوعد الذى قطعته لسميحه إلا اننى أحسست أنما خدعت شخصاً وارتكبت جريمة لأول مرة فى حياتى وحدثت نفس أن هذا الشخص يجب أن يخدع ، لأنه اناني أشر ، إستولى على

أموال أبى فحال بيننا وبينها ، وفرض علينا حياة قاسية لارحمة فيها ولا شفقة .

ما كان يضره لوحاد مرة فى عمره عن مبدئه السقيم فأعطى سميحة ريالات خمسة لتفرح بها يوماً :

لكنه ذلك المتحجر الدى يفرض علينا شحه الصارم فرضاً إذن ليست بخديعة تلك التى يستخلص فيها المرء بضعة ريالات منه .

إلا أن هذا القليل ما كان ليخفف من أشجاني والأمي فقد شعرت أني إنحططت عن ذلك المستوى الذي كان يشبع كبريائي ، وأننى فقدت كل مقومات الحياة بل وكل رغبة فى الحياة ، وأمسيت هيكلا من آثام تعصف به الالآم ورأيت زميلين لى يتحادثان في نجوى ووجوههما ينطقان عن سريرتهما البيضاء ، فوددت لوكنت مثلهما ساعة من زمن ، لما كان لى أمل سواه فى حياتى إلا أن ذلك كان بعيداً ، بعد الراحة والطمأنينة عن نفسي...

آه لوأجد من يعيدني لحظة إلى عالمى المفقود أو أن يرجع عذوية الصفاء ، دقائق إلى قلبي الملوث بأدران الخيانة والغدر لبذلت له حياتي من غير أن تتملكني الحسرات في يوم من الأيام ، مالى ولسميحة ، لو صدفت عنها لنسيت يوماً ما أنها طلبتني شيئاً ، لم أجبها فيه ، ولكنني أنا البائس لن ينسى الزمن الدائر ذلك اليوم الذى بعث فيه نقاوتى بدراهم معدودات ، لا تسمن ولاتغنى من جوع وهكذا أوصلت الدار بائساً محطماً ، وتحاملت على نفس فضعدت حيث أمي وأختى كانت فى انتظارى . وما أن رأتني سميحة ، حتى تعلقت بي وهي تصيح :

- أخي...حبيب... أخبرني هل أتيت بالنقود . فأخرجت النقود من جيبي ، ووضعتها فى يد أختي ، فابتسمت فرحة جذلى وقالت أمي :

- هل اقترضتها من احد فلم أجبها ومضيت إلى غرفتي لا ألوى على شئ ولحقت بي أمي وهي تسأل منزعجة

- ما بك - يا أبني - اراك متغيراً وما كاد إبراهيم يصل إلي هذا الموضع من قصته ، حتى تقر باب الفرقة ؛ فبارحني ، وعاد بعد قليل وفي يده طبق فوقه ابريق وبعض الفناجين ، فسكب

الشاي في فنجانين قدم لي أحدهما ، وأبقى الأخر لنفسه وعمدت إلى الصمت الطويل وتركته يقص كما يشاء ؛ ينفس عن أعصابه الرهق ، وأخذ رشفة من فنجانه ثم استطرد : وآوى كل خال تلك الليلة الى فراشه ، إلا أنا فقد تأبى النوم على جفوبي ، فجلست في الشرفة استشف المبهم من الأشياء فى ليلة حالكة إلا أن ظلام نفسي كان أحلك وأدهي ، وتركز تفكيرى فى شئ واحد لا يتعداه وهو التفكير العاجل .

هل أعترف لعمى بأنى خدعته ، مستغلاً طيبة قلبه وسذاجة نفسه . ترى ماذا يكون موقفي بعد ذلك ؟

هل يبقى لحياتي معنى وغرض وهدف ، أم أمس شبحاً تائهاً فى بين الحياة ومفاوزها ؟.

ما الذي يقومنى بين أبناء جنسي ؟ .

أليس شرف وضميري ومثلي . فاذا فقدتهم جميعاً فقد خسرت الإيمان بنفسي وتعساً لمن يهيم فى الحياة بغير إيمان...

إذن ما السبيل إلى التفكير عن سيئاتي .

هنالك استطاعت نفس أن تجد حلاً أرضاني إلى حدما سأجعل عمى يكثر من اساءتي . . سأثيره . . سأجعله يستوفى ثمن خديعتي كاملاً لاننقص فيه سأرغمه على أن يقذع فى شتمى ، وأن يكثر من ايلامي لأ كف عن حدبة إنحدرت إليها من غير روية وتدبر .

وسمعت سعال عمى وهو يشق سكون الليل ، فتصورت هذا الشيخ الفاني المصاب بشتى الأدواء يخاتله شاب قوي متماسك لا يشكو ببدنه مرضاً . . فأحست أن كل نبرة من نبرات سعاله أنين متواصل ، يبث الى الله ضعفه وتهافته ، فتصورت فى جلاء ذلك الدرك الذى ترديت إليه من شاهق . .

ولا أعلم كيف غفوت وكيف صحوت في اليوم التالي حين دعاني عمي وصعدت إليه فأجلسي بجانبه وأنا جامد كالحجر الصلد ، لا أعي من حولى فأخرج تلك الكأس وأرانيها قائلاً

- أظن - يا إبراهيم - أن هذه خير قطعة أقتنيها ، فقد قرأت عليها بالجهر كتابة مجهولة ، أخالها تعود إلى عهد سحيق . فلم أجب اذ كنت افكر في ان ختطف الكأس من يديه المعروقتين ، وألقيها بملء قوبي خارج الدار ، إلا أن لجبن عاودني ، فارتفعت يدى فى عجل ثم ارتخت ، فسألني في قلق

- ما بك - يا إبراهيم - اراك تنقض . . أ تشكو علة أجبته بصوت خاو من كل معنى . -كلا - عمى - لست أشكو شيئاً

فقام متهالكا ، وفتح صيواناً زاخراً بالأدوية وأخرج منه حبة كنين وأخرى إسبريناً وعاد يقول :

- إبراهيم ... إبلع ... إبلع هذه ...  

وتصورت انتصار عمى جلياً ، فهو يعطف ويشفق على فيضيف إلى الآمي الآماً ، وإلى أشجاني أشجاناً...

إنه لانتقام مرعب مهول...

حسناً . . سأبدأ فى اثارته ، لأنقاص ثمن الختل والخداع فقمت عليه قائلا بصوت مقبور وأنا أرتعش .

- عمى...أنا أكرهك...أكرهك من قلبي ثم إرتميت على الأرض من إعيائي وخف عمى بضعفه - إلى وهو يتمتم

- إن هذا الولد مريض ... إن هذا الولد مريض

ومضت أيام وأنه لا أجسر على رؤية عمي ثم أخبرتني أمي ، أنه مرض ولزم فراشه ، ومرت أسابيع إنحطت فيه قواه أشرف فيها على نهايته...

وفى يوم - اذكر انه كان جمعة - استدعانى عمى ، فلبيت طلبه ولمادخلت عليه الفيتة شبحاً من الاشباح متمدداً على سرير ضخم .

فأخذت يده الناحلة فى يدى وقبلتها فى رفق فقال بصوت واهن متقطع . - أجلس ... بجانبي

- فلما أطعته أردف : - إبراهيم ... أتا أعرف أنك لم تزرني خجلا من كلمتك التى هذيت بها أثناء مرضك .

فسكت ولم أحرك شفتى بكلمة واحدة ، ثم قال : - إبراهيم . . أنا أعلم أنك تحبني وأنا أحبك لأنك شاب ذكي صالح .

فصعدت الدماء إلى رأسي حارة واقعة وإختلطت المرئيات أمامي وخشيت أن أخدع هذا الشخص كرة أخرى على فراش الموت فقلت له فى حزم

- اسمع - ياعماه - أنالست صالحاً كما تظن وإنما . . فرفع يده الراعشة ، ووضعها على فمى وهو يقول . -كلا...كلا...لا يشعر بخطئه إلا الصالح ثم مديده إلى جانبه ، فاذا بها تقبض على صرة فقال :

- إبراهيم ... هذه مئة جنيه من مالي الخاص...وأنني لاهبها لك قبل موتى ... كما أترك لك أثرياتى جميعها فأنت خير من يقدرها...

وأخذت منه الصرة وانحدرت دمعتان من نار على خدى وهاهو عمى قد سجل إنتصاره الاخر على - إيضاً - وخطر ببالى أن أطلب منه الصفح قبل أن يلفظ أنفاسه الاخيرة إلا أن لساني استحال قطعة من حجر : لاقدرة لها على النطق

وهكذا مات عمى ولم أطلب غفرانه... وساءت صحبتي ... ... ولكن هل تظن أنها لن تعود إلى حياتي ؟

أما أنا فوثق من أنها لن تفارقني إلى الأبد .

تمت القصة

اشترك في نشرتنا البريدية