كنا صديقين بكل ما تتضمنه الصداقة من معانى الاخلاص والوفاء والايثار ، والحق اننا كنا مضرب المثل فى الصديقين المثالين ، وكان صاحبي مرحا طلق الحديث حاضر البديهة ، لاذع النكتة ، شديد السخرية وكثيرا ما كنت استهدف لسخريته وعندها لا املك الا الضحك مع الآخرين ، وأما إذا بدأ يتكلم فانه يجبرك على الانصات اليه ، وتستطيع ان تسمى ذلك (( احتكار الحديث ))
وكنت كثيرا ما ادعوه لقريتنا نقضى فيها بعض ايام العطل ، وكان يدعونى الى مزارعهم . . . حيث نقضى الوقت في ضحك ومرح . . على المزارعين الذين يجعلهم صديقى هدفا لسخريته ونكاته اللاذعة فيبتسمون له فى استكانة ودعة . . والى جانب ذلك كان صديقى طيب القلب سلس القياد احيانا فهو أودع من الحملان ، وبالاضافة الى ذلك كان له احيانا صفات الثعلب في الدهاء . .
وفي يوم خميس من ايام الربيع دعانى لازورهم واقضى عندهم يوم الجمعة فننعم بمشاهدة جمال الطبيعة الخلاب والارض وهي ترفل فى حلل زاهية من الزهور العطرة والجداول الرقراقة وهى تنساب من شعاب
الجبال كأفعى تتلوى على بساط من عسجد وازاء هذه المبالغة فى الوصف وافقته على الذهاب معه وكالعادة بدأ يداعب المزارعين ويضاحكهم ويقلدهم فى لهجاتهم المضحكة ، وأما ذلك الوصف للطبيعة وتلك اللوحة الرائعة التى رسمها لى ، فلم يكن لها وجود الا فى خياله الخصب . .
وقبيل الغروب صعدنا على تل قريب من القرية لنشرف على مغيب الشمس فى الافق الغربى ، وأمامنا مباشرة كانت المقبرة ، ووراءها مغارة واسعة تزيد من كآبة المقبرة ونظرت اليه وقلت : انظر الى الطبيعة الخلابة والارض فى ثوبها العسجدى . . . ولكنه قاطع سخريتى منه بضحكة عالية مستمرة ونظرت اليه مستفسرا فقال : أترى هذه المقابر ؟ . . قلت : نعم قال : ان لها قصة ، أأرويها لك واذا اراد صاحبى ان يروى قصة فلا تستطيع قوة على الارض ان تمنعه من سردها ، وبدأ يقول قبل ان ينتظر موافقتى : _
حدث ذلك من زمان بعيد يوم كنا صبية لاهين عابثين لا نعرف من متع الحياة الا تعبئة بطوننا واللعب فى ساحة القرية ، وكنا نحس من ذلك منتهى السعادة ، وهل يعرف الصبى
الا اللهو والمرح ؟ وهل يتطرق الى قلبه هم من الهموم التى تزخر بها الحياة ، تلك الهموم التى سينوء بها كاهله فى المستقبل ، فكنا نسترق من الزمن ساعات السعادة والمرح ، ونختلس منه لحظات الهناء والفرح .
فاذا ماغابت الشمس مخلفة وراءها الظلام والسكون ، برز القمر فى صفحة السماء ليبدد الظلام السائد ، وتطوعنا نحن الصبية لتبديد السكون المخيم بصياحنا ولعبنا ومرحنا والقمر يغمرنا بضيائه كأم ترعى اطفالها ، وتحنو عليهم ، فهذه جماعة منا تلعب (( العسكر والحرامية )) وآخرون يتسابقون فى الجرى ، وغيرهم فى القفز العلى والعريض . . فاذا تعبنا من كل ذلك جلسنا فى حلقات يتندر بعضنا على البعض فهذا يفتخر بأنه من الاذكياء المتقدمين في المدرسة ، وآخر يفتخر بأنه أقوى من رفاقه جسما ويتحداهم بعرض عضلات يده اليمني التى لم تبرز بعد ويدق الارض برجله فى تحد وكأنه (( نابليون )) وهو يستعرض جنوده فى معركة (( استرلتز )) وأما الذين حرموا من ميزة الذكاء والقوة فتراهم ينحازون لاحد الطرفين فيناصرونهم ويظهر الانقسام فى صفوفهم ويبدؤون بالتراشق بالسباب ، وكثيرا ما يؤدى ذلك الى استعمال الايدى ، وتدور بينهم معارك حامية فيبوء بالهزيمة فريق الاذكياء ، لان استعمال الايدى
يحتاج للقوة فقط ، ولكن ما هى الا يومان حتى يعقد الصلح بين الطرفين وتزول الاحقاد ، فهذه القلوب النقية لا تفسح للحقد والبغضاء مجالا فيها
وتنهد صاحبى واستطرد : كنت واحدا من هؤلاء الصبية ولكن خال من مميزات الذكاء ، والقوة ولهذا كنت لا أنحاز الى اى فريق منهم بعكس الآخرين ، بل كنت اشاركهم فى لعبهم كمجموعة فاذا ما انتهوا من اللعب جلست بعيدا انظر واستمع حتى أمل ومن ثم اعود الى البيت لانام ومع ذلك كنت ذا نفس حساسة . . اتألم لفقدانى المميزات التى يتمتع بها غيرى ، واتألم لان كثيرا منهم كان يحلو له الغمز فينعتونى بالبلاهة والجبن ، وأنا لا أملك لهم دفعا ، وكنت اتمنى لو تتاح لى فرصة اظهر لهم فيها ان الشجاعة لا تعتمد على قوة الجسم ولكن على قوة القلب وثبات الجنان . .
وذات ليلة اجتمع الصبية كعادتهم وبدأوا لعبهم ومرحهم ، ولما انتهوا منه وجلسوا قام واحد منهم وقال : اسمعوا ايها الرفاق (( الشاطر )) فيكم هو الذي يستطيع الذهاب الى المغارة القريبة من القرية في هذه الظلمة . . واشار صاحبي الى المغارة وقال : هذه هى المغارة المشار إليها وكما ترى من يريد الوصول اليها يجب ان يمر فى وسط المقبرة ، وكانت الشائعات تتردد بانه يظهر فيها أشباح فى
الليل وان نواح الموتى يتردد فى جنباتها الى آخر ما يشاع من خرافات
وعاد الى ذكرياته قائلا . . :
. . ووجدتها فرصة مواتية لكى أظهر لهم انى من الشجاعة بمكان وان فى جسمى الهزيل قلبا ثابتا لا يهاب شيئا حتى مغارتهم ، وركبني الغرور وفعلا وقفت وجمعت أطراف ثوبى فى يدى وقلت : أنا مستعد للذهاب الى المغارة وبهت الصبية جميعا لانهم لم يتوقعوا مني مثل هذه الجرأة والمخاطرة ولكنهم وجدوها فرصة للتندر . . . والسخرية فقال بعضهم : وما يدرينا أنك ستصل الى المغارة ، والأفضل أن تأخذ معك هذا الوتد الخشبى وتثبته في أرض المغارة وبذلك يكون البرهان القاطع على صحة ذهابك . .
واخذت الوتد وثبت أعصابى المضطربة وسرت بخطى متثاقلة صوب المغارة وكان قلبى يخفق بين الضلوع خوفا ورهبة ، ولكن رغبتى فى اظهار شجاعتى دفعتنى الى المغامرة . .
ووصلت الى حدود المقبرة التى بدت على ضوء القمر غامضة رهيبة ، وبدأت المخاوف تصور لى الشواهد على القبور كأنها اشباح الموتى وصوت كأنه عويل العفاريت ، وبدأ جبينى يتصبب عرقا ويداي ترتجفان ولم أكن استطيع النكوص فقرأت اسم الله فى سرى ثم سرت ببطء كاتما نفسى وكأني أود الا تشعر هذه الاشباح
بوجودى حتى لا تتخطفنى ، وظللت أسير خطوة خطوة حتى لاح لى باب المغارة شديد السواد فارتجفت من قمة رأسى الى أخمص قدمى ، ولعنت في سرى ادعاء الشجاعة وما كان اغنانى عن هذا الخوف لو بقيت جالسا كرفاقى ، ولكن ما حيلتى وقد بدأت المغامرة ، وتقدمت بقلب واجف نحو المغارة وكانت اطرافى شديدة البرودة واصابعى متوترة على الوتد لا شعوريا وقبل ان اصل الى باب المغارة اختفى القمر خلف سحابة عابرة وسارت الظلمة والوحشة ولفتنى طياتها فزادت من خوفى اضعافا مضاعفة فقرأت اسم الله للمرة المائة ودخلت الى الكهف وكأن في داخله كل افاعى العالم ووحوشها ، وهنا برزت لى مشكلة الحجر الذي ادق به الوتد فأنا لا أجسر على الانحناء فكيف استطيع البحث والتفتيش ، واغمضت عينى وانحنيت اتحسس الارض بيدى على أعثر على حجر ، وصرت اتنقل بوصة بوصة ويدى تتحرك وكأنها ساكنة ، حتى وجدت حجرا فأمسكت بالوتد الذي كان يهتز كأنه سلك وسط تيار كهربائى متذبذب واخيرا تمكنت من تثبيته وهويت بالحجر على الوتد ولسوء حظى كان الحجر من نوع بركانى متفتت ، فتطايرت شظاياه من أول ضربة ، تلك الضربة التى بذلت فيها من دمى واعصابى الشئ الكثير ، وعادت مشكلة البحث مرة
أخرى ، وكنت احس انى على وشك الاغماء ، واخيرا وجدت الحجر وكان أصلب من الاول وبدأت أضرب الوتد بخفة محاولا جهدى ان اكتم الصوت ولاحظت ان الوتد لم يغرز فى الارض اذ كانت الارض تحته حجرية فانتقلت وانا اجر رجلاى شبه المنتنى الى ركن آخر وبدأت عملية الدق من جديد ، وبدأ الوتد يغرز فى الارض التى لانت له وكانت كل دقة بمثابة سوط ينزل على جلدى ولما انتهيت من دق الوتد تنفست بصوت متحشرج . . وكانت اعصابى متوترة ومنهارة لاقصى غاية ، ووقفت لاعود الى رفاقى ولكنى شعرت ! ويالهول ما شعرت ! اتدرى ماذا ! ؟ . . لقد احسست انى مشود الى ارض الكهف وكأن قوى من الجن تعلقت بي ، وجف ريقى وحاولت النهوض مرة أخرى ولكن عبثا ، وعلا صوت الرياح على باب الكهف فى شدة وعنف وكأنه (( سيمفونية )) لبتهوفن بلغت أقصى عنف لها قبيل الخاتمة وشعرت بقلبى يهبط وتملكنى أقصى ما يتصور من الذعر والخوف ، وانهارت اعصابى ومقاومتى ..... فصرخت صرخة حادة حملتها كل ما أنوء به من خوف وخررت مغمى على
وكان صاحبي يسرد على حوادث القصة ويدى تعبث بحجر صغير ولما وصل الى آخر جملة من كلامه كانت أعصابى بفعل الايحاء متوترة فسقط الحجر من بين اصابعي ، ولاحظ صاحبي ذلك فعلت قهقهته ، ونظرت
اليه بغيظ قائلا واخيرا ، فضحك وقال :
. . . وفتحت عيني وادرت رأسى لارى ما حولى واذا برفاقى يحيطون بى وعلى شفاههم بسمات السخرية ، تمتزج فيها الشفقة بالاستهانة . . . ووقفت بين ضحكاتهم ولم تتشبث بى (( الجن )) هذه المرة وفي طريقى الى ساحة القرية بدأوا يروون لى ما حدث قائلين : بأنهم كانوا يتبعوننى عن بعد ليروا ما سأفعل وظلوا يتبعوننى حتى دخلت الكهف فوقفوا بعيدا ينتظروننى وبعد مدة ليست بالقصيرة سمعونى ارسل صرخة الذعر ، فبعضهم هرب واما البعض الآخر فقد تشجع ودخل الكهف ليجدونى متمددا مغشيا على وخافوا أن يكون اصابني مكروه . . أو لدغتنى افعى ، وفجأة رأوا الوتد مغروسا فى الارض ولكنه كان مشبوكا بطرف ثوبى الذى أثبته الوتد بالارض . .
وعاد صاحبي ينظر الى المغارة ، ويقهقه وقال :
- ومنذ ذلك الحين ركبني شيطان السخرية وآليت على نفسى ما دمت خاليا من كل مميز ان اجعل السخرية سلاحى الوحيد . .
وهنا نظرت اليه وقلت : حقا انك ساخر كبير ، ساخر حتى من نفسك وما انتبهنا الا والظلمة تلفنا فنزلنا عائدين الى ساحة القرية والساخر الكبير يقهقه ضاحكا . .
