الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

كتاب : آثار ابن باديس

Share

الكتاب يقع فى أربعة أجزاء ، وفي 2230 صفحة من الحجم الكبير - جمع وتبويب : عمار الطالبي - نشر وتوزيع : مكتبة الشركة الجزائرية باب عزون - الجزائر - طبع دار اليقظة العربية فى دمشق 1968

بمناسبة الذكرى الرابعة عشرة لثورة أول نوفمبر سنة 1954 التى يحتفل الشعب الجزائرى بها فى فاتح نوفمبر من كل عام تخليدا لشهدائه الابرار الذين ضحوا بانفسهم من اجل تحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي الذي جثم على صدرها 132 عاما ، نقدم تعريفا بكتاب آثار ابن باديس " للمرحوم الامام عبد الحميد بن باديس الأب الروحى للحركة الوطنية فى الجزائر المعاصرة ، والأب الروحى أيضا لنثورة أول نوفمبر المجيدة .

لعل أقرب الناس لثورة أول نوفمبر سنة 1954 المجيدة ومبادئها وأهدافها هو المرحوم الامام " عبد الحميد بن باديس ) 1889-1940 ( باعث النهضة الاسلامية العربية فى الجزائر الحديثة وراعيها وموجهها - ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وصاحب ورئيس تحرير مجلة الشهاب الغراء ) 1925 - . ( 1939

فالامام عبد الحميد بن باديس كان من الرعيل الاول الذي كافح بصدق واخلاص من اجل تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسى فى دائرة العروبة والاسلام وهو الذى يعود اليه الفضل الاول فى توجيه الحركة الوطنية فى الجزائر في مطلع هذا القرن نحو هذا الاتجاه القومى السليم - وبذلك استطاعت الحركة الوطنية الجزائرية ان تتخلص فى بداية الثلاثينيات من هذا القرن من الاتجاهات التى تتعارض مع عروبة الجزائر واسلامها . . وتجعل من تحرير الجزائر فى دائرة الحضارة الاسلامية العربية هدفها الاساسى الذى تناضل فى سبيله وتعمل من اجله ليل نهار . .

كانت حركة التربية والتعليم العربية بقيادة ابن باديس فى الثلث الاول - من هذا القرن - وقد بدأها فى مدينة قسطنتينة فى عام 1913 بتدريس الحضارة الاسلامية والادب العربي وتفسير القرآن الكريم وموطا الامام مالك مالك بن أنس رضي الله عنه فى الحديث الشريف ثم امتدت بسرعة الى مختلف جهات الحزائر في المدارس التى انشأتها جمعية العلماء برئاسته الى ان وافاه المنون في 16 افريل سنة 1940 وفي النوادى العربية الاصلاحية التى كونها انصار ابن باديس فى معظم المدن الجزائرية وعلى رأسها نادى " الترقى " الذي انشئ فى عاصمة الجزائر في عام 1926 كانت هذه الحركة المشعل الذى اضاء امام الجزائر العربية طريق الخلاص النهائى من الاحتلال الاجنبى فى ظل عروبتها واسلامها .

والواقع ان ابن باديس لم يكن فقط مربيا ومعلما لجيل كامل من أبناء الجزائر البررة الذين نهضت على كاهلهم الحركة الوطنية فى الجزائر والذين ساهموا بقسط وافر فى ثورتها الكبرى فى عام 1954 - هذه الثورة التى حررت الجزائر وطردت الاستعمار الفرنسى منها الى الابد . . وانما كان الى جانب ذلك قائدا سياسيا ألهم الوطنيين الاحرار فى الجزائر فى العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن ، وكان مصلحا عظيما يتمتع بقوة روحية عظيمة اثرت فى كل من احتك بها وبثت اشعاعاتها الروحية والفكرية فى كامل انحاء الجزائر وفى بقية اقطار المغرب العربى الاخرى

والكتاب الذى نقدمه للقراء اليوم هو عبارة عن مجموع المقالات والابحاث فى شتى الموضوعات التى نشرها الفقيد فى الجرائد والمجلات العربية التى انشأها مثل جريدة " المنتقد " ) 1925 ( التى أوقفها الاستعمار بعد صدور حوالى 8 أعداد ، ومجلة " الشهاب " ) 1925-1939 ( وفى جرائد جمعية العلماء وهي : " السنة " و " الصراط " و " الشريعة " و " البصائر "

والكتاب يقع فى أربعة أجزاء من الحجم الكبير وفى 2230 صفحة تتخللها بعض الصور التذكارية والرسوم الفنية المعبرة وقد قام بجمعه وتبويبه الاستاذ : عمار الطالبي المدرس بجامعة الجزائر بمساعدة وتدعيم اصحاب مكتبة الشركة الجزائرية للطبع والنشر التى قامت بنشره وتوزيعه بين الناطقين بالضاد فى مطلع عام 1968

محتويات الكتاب

والكتاب مقسم حسب تبويب آثار ابن باديس الى قسمين رئيسيين القسم الاول : ويقع فى مجلدين وفي 1037 صفحة وهذا القسم يضم :

مقدمة مركزة بقلم الكاتب الجزائرى مالك بن نبى الذى عاصر الفقيد حلل فيها بعض جوانب فلسفة الفقيد ودوره فى النهضة الجزائرية الحديثة ثم مدخلا عاما للحياة العقلية والثقافية للمغرب الاسلامى وحياة ابن باديس وفكره التربوى كتبها جامع الكتاب - كما اشتمل هذا القسم ايضا على آثار الفقيد فى التفسير والحديث الشريف

أما القسم الثاني : فيقع هو أيضا فى مجلدين كبيرين وفى 1193 صفحة وهو يضم آثار الفقيد التى تتعلق بالنواحي الاجتماعية والتربوية والاخلاقية والسياسية والدينية .

والكتاب بصفة عامة يضم معظم آثار بن باديس التى أمكن للناشرين أن يحصلوا عليها ولا شك أن هناك بعض آثار الفقيد التى لم يمكنهم الحصول عليها وهي توجد عند تلامذته فى شكل مذكرات أو ملخصات أو رسائل أو قصائد شعرية لم تنشر في حياة الفقيد ولعل بعض تلامذته الاوفياء يقومون بنشر بقية هذه الآثار التى لم يشملها الكتاب الحالى وبذلك يؤدون للفكر والثقافة خدمة جليلة - كما يتيحون للباحثين المهتمين بحركة التجديد الاسلامى فى أقطار المغرب العربي فرصة ثمينة جدا لدراسة هذه الحركة فى الجناح الأيسر لاقطار العروبة والاسلام اذ كان ابن باديس والشيخ البشير الابراهيمى نائبه فى رئاسة جمعية العلماء وخليفته فى قيادة حركة جمعية العلماء الجزائريين بعد وفاته من أبرز الشخصيات الممثلة لحركة التجديد الاسلامى فى أقطار المغرب العربى فى مطلع هذا القرن

يقول الاستاذ مالك بن بني في مقدمة الكتاب :

" لقد كان ابن باديس مناظرا مفحما ومربيا بناء ومؤمنا متحمسا وصوفيا والها ، ومجتهدا يرجع الى أصول الايمان المذهبية ويفكر فى التوفيق بين هذه الأصول توفيقا عزب عن الانظار ابان العصور الاخيرة للتفكير الاسلامى وهو كذلك وطني مؤمن تصدى فى عام 1936 لزعيم سياسي نشر مقالا عنوانه أنا فرنسا " فرد عليه ردا حاميا قويا ثم يقول : " والشعور الوطني المتدفق بغدو لدى ابن باديس فيضا شعريا عندما ينظم قصائده التى قدر لها أن تعيد الى الشعب الجزائرى ابعاده الحقيقية فى التاريخ الاسلامى فى فترة كان اطفال الجزائر يدرسون ويعلمون ، تاريخ " أجدادنا الغوليين "

وفوق ذلك كان ابن باديس مصلحا اقترن اسمه وأثره بتاريخ الجزائر فى مرحلة سياسية كانت تعده " للثورة " ) ص 10 ( .

اما جامع آثار ابن باديس ومبوبها الاستاذ عمار الطالب فقد صدر هذا

العمل الجليل بمدخل الى الحياة العقلية والنهضة الحديثة بالجزائر وعمل ابن باديس التربوى يقع فى حوالى 106 صفحات صور فيه بوادر النهضة الاسلامية بالجزائر وتعرض لبعض الشخصيات التى حاولت وسط الظلام الحالك الذي كانت الجزائر تعيش فيه منذ بداية الاحتلال فى عام 1830 أن يضيئوا الطريق أمام شعب كانت كل الظروف التى تحيط به تعمل على تكبيله ونشر الجهالة والخرافات بين صفوفه

" سياسة فرنسا فى الجزائر بعد الاحتلال

ولا يمكن للقارئ أن يعرف الدور الكبير الذى لعبه ابن باديس فى النهضة الجزائرية الحديثة إلا إذا ألم ولو إلمامة بسيطة بسياسة الاستعمار الفرنسى فى الجزائر بعد الاحتلال مباشرة . . .

لقد أدركت فرنسا بعد احتلالها للجزائر فى 5 يوليو سنة 1830 انه ما دام الاسلام والعروبة قائمين فى الجزائر فان احتلالها لن يكتب له البقاء طويلا ولذلك خططت سياستها فى الجزائر منذ اليوم الاول للاحتلال على العمل بكل وسيلة ممكنة على تحطيم الشخصية الاسلامية العربية للشعب الجزائرى كى يمكنها ان تجعل منه شعبا تابعا لشعبها فيما وراء البحر المتوسط

وكانت تريد أن تعيد مأساة الاسلام والعروبة فى الاندلس من جديد فى الجزائر .

ولقد تحلت سياستها لتحطيم الشخصية الجزائرية فى الامور التالية :

1 ( القضاء على الدين الاسلامي 2 ( القضاء على الثقافة الاسلامية العربية 3 ( القضاء على اللغة العربية التى هى وعاء الفكر والثقافة فى الجزائر 4 ( القضاء على الجنسية الجزائرية 5 ) تشويه تاريخ الجزائر فى ظل الحضارة الاسلامية العربية ٢ ( العمل على تفكيك الوحدة الوطنية للشعب الجزائرى عن طريق إثارة الفتن والحزازات العنصرية بين سكان الوطن طبقا للسياسة الاستعمارية المعروفة " فرق تسد " .

وتمشيا مع أهداف هذه السياسة قضت فرنسا على معاهد العلم الاسلامية التى كانت مزدهرة فى الجزائر قبل الاحتلال وشردت العلماء والطلاب - كما حولت معظم المساجد الاسلامية الى كنائس - ثم أصدرت مراسيم اعتبرت الجزائر بمقتضاها جزءا من بلادها وضيقت الخناق على اللغة العربية حتى أصدرت في عام 1937 قانونا اصبحت بمقتضاه لغة اجنبية فى الجزائر وقبل

صدور هذا القانون الجائر اصدرت فى عام 1904 قانونا آخر ينص على عدم السماح لأى جزائرى بان يتولى ادارة اية مدرسة لتعليم اللغة العربية والدين الاسلامي الا اذا حصل على رخصة من عامل العمالة او الحاكم العسكرى فى المناطق التى تخضع للحكم العسكرى المباشر

وقد أنذر هذا القانون - الغريب - كل جزائرى يقوم بفتح مدرسة عربية بدون ترخيص مسبق اما بالغرامة ، أو بالحبس ، أو بهما معا .

اما اذا سمح له بفتح مدرسة عربية فانه يشترط عليه ما يلى :

1 ( اقتصار التعليم فى المدرسة على تحفيظ القرآن الكريم وحده 2 ( عدم التعرض - باية صورة من الصور - الى تفسير القران الكريم وبخاصة الآيات التى تحض على الجهاد فى سبيل التحرير وعدم الرضوخ للظلم والاستبعاد

3) استبعاد دراسة التاريخ الجزائرى والتاريخ العربى والاسلامى من الدراسة وكذلك جغرافية الجزائر وجغرافية سائر الاقطار العربية والاسلامية .

4 ) عدم تدريس الادب العربي بكل فنونه وعصوره .

وسارت السياسة الاستعمارية فى الجزائر على هذا المنوال : وفى عام 1930 اقامت فرنسا احتفالات كبرى دامت لمدة شهرين وذلك بمناسبة مرور قرن على احتلالها للجزائر

ظهور ابن باديس على مسرح الاحداث بالجزائر

فى هذا الجو ظهر الامام ابن باديس فى مطلع هذا القرن كالامل المرتجى لشعب يبحث عن كيانه وبدأ فى نشر دعوته عن طريق المدارس والنوادى ، ودروس الحضارة الاسلامية وتفسير القرآن الكريم والحديث الشريف فى اتجاه حركة التجديد التى حمل لواءها " جمال الدين الافغاني " و " محمد بن عبد الوهاب " و " محمد عبده

وكان ابن باديس يخفى أهدافه السياسية لتحرير الجزائر تحت ستار الحركة الدينية فأصدر جريدة " المنتقد " فى عام 1925 - ثم مجلة " الشهاب " وكانت جريدة اسبوعية في اول الامر ثم تحولت في عام 1927 الى مجلة شهرية - وقد استمرت في الصدور حتى قرب نشوب الحرب العالمية الثانية فى عام 1939 حيث أوقفها الفقيد من تلقاء نفسه حتى لا تضطره الادارة الاستعمارية الى نشر اشياء لا تتفق مع مبادئه الاسلامية والثورية

وكانت مجلة " الشهاب " تعتبر مجلة كامل اقطار المغرب العربي فقد عملت على ربط الرأى العام فى الجزائر بالرأى العام فى كل من تونس والمغرب من جهة . . ومصر وكل الاقطار العربية الاخرى التى حاول الاستعمار ان يفصله عنها من جهة أخرى . لهذا كانت دعوة ابن باديس وسياسته فى المجال القومي هما اللتان انقذتا الجزائر من مغبة سياسة الفرنسة والتجنيس التى كانت الادارة الاستعمارية تسعى بكل جهودها لفرضهما على الشعب الجزائرى خصوصا قبل الحرب العالمية الثانية

يقول ابن باديس فى الرد على احد دعاة سياسة التجنيس فى عام 1937 الذى كتب مقالا فى جريدة فرنسية بعنوان " أنا فرنسا " أنكر فيه وجود الامة الجزائرية العربية المسلمة والقومية العربية فى الجزائر وقد حدد ابن باديس فى هذا المقال الهام الذى أثار ضجة كبرى فى ذلك الحين فى الصحافة الفرنسية التى تصدر فى الجزائر وفى فرنسا وكذلك فى الدوائر العليا الفرنسية حدد مفهوم الوطنية الجزائرية وخصائص الامة الجزائرية تحديدا واضحا قاطعا وهاجم بكل عنف كل من يدعو الى اتجاه معاكس للتاريخ والمنطق - يقول ابن باديس فى هذا المقال الذى نشره فى مجلة " الشهاب " ) عدد نوفمبر سنة 1937 ( آثار ابن باديس - ج 3 - ص 307 ( تحت عنوان : " كلمة صريحة "

" قال البعض من النواب المحليين ومن الاعيان ومن كبار الموظفين بهذه البلاد ) الجزائر ( . . ان الامة الاسلامية الجزائرية مجمعة على اعتبار نفسها أمة فرنسية بحتة ولا وطن لها الا الوطن الفرنسي ولا غاية لها إلا الاندماج الفعلي التام في فرنسا ، ولا أمل لها فى تحقيق هذه الرغبة إلا بأن تمد لها فرنسا يدها بكل سرعة فتلغي جميع ما يحول دون تحقيق هذا الاندماج التام بل قال أحد النواب النابهين إنه فتش عن القومية الجزائرية فى بطون التاريخ فلم يجد لها من أثر ، وفتش عنها فى الحالة الحاضرة فلم يعثر لها على خبر ، واخيرا أشرقت عليه أنوار التجلى فاذا به يصيح " فرنسا هى أنا " حقا إن كل شئ يرتقى فى هذا العالم ويتطور

وبعد هذا يبدأ ابن باديس فى تفنيد هذه الدعوى المهلهلة فيقول

" إننا نحن فتشنا فى صحف التاريخ وفتشنا فى الحالة الحاضرة فوجدنا الامة الجزائرية المسلمة متكونة موجودة كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا ولهذه الامة تاريخها الحافل بجلائل الاعمال ولها وحدتها الدينية واللغوية ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها واخلاقها بما فيها من حسن وقبيح شأن كل أمة فى الدنيا .

ثم إن هذه الامة الجزائرية الاسلامية ، ليست هى فرنسا ، ولا يمكن ان تكون

فرنسا ، ولا تريد ان تصير فرنسا ، ولا تستطيع ان تصير فرنسا ، ولو ارادت ، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد ، فى لغتها ، وفى اخلاقها ، وفي عنصرها ، وفي دينها ، لا تريد ان تندمج ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة .

وفي شهر يناير سنة 1937 ألقى محاضرة فى أعضاء جمعية التربية والتعليم بمدينة قسينطينة تحت عنوان : " لمن أعيش ؟ " نقتطف منها الفقرات التالية التى توضح للقارئ ايمان هذا الرجل العظيم بالاسلام وعمق وطنيته واخلاصه في خدمة الجزائر وكل اقطار العروبة والاسلام قال مجيبا عن سؤاله الذى بدأ به المحاضرة : " إنى أعيش للاسلام والجزائر " ثم قال : " قد يقول قائل ان هذا ضيق في النظر ، وتعصب للنفس ، وقصور فى العمل ، وتقصير فى النفع فليس الاسلام وحده دينا للبشرية ، ولا الجزائر وحدها وطن الانسان ولاوطان الانسانية كلها حق على كل واحد من أبناء الانسانية ولكل دين من أديانها حقه فى الاحترام

فأقول نعم . . . ان خدمة الانسانية فى جميع شعوبها والحدب عليها فى جميع أوطانها واحترامها فى جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها هو ما نقصده ونرمى اليه ونعمل على تربيتنا وتربية من الينا عليه ولكن هذه الدائرة الانسانية الواسعة لبس من السهل التوصل الى خدمتها مباشرة ونقلها دون واسطة فوجب التفكير فى الوسائل الموصلة الى تحقيق هذه الخدمة وايصال هذا النفع . . . فاذا عشت فانى أعيش للانسانية لخيرها وسعادتها فى جميع اجناسها وأوطانها وفي جميع مظاهر عاطفتها وتفكيرها وما كنا لنكون هكذا إلا بالاسلام الذى ندين به ونعيش له ونعمل من أجله فهذا هو معنى قولى " اننب اعيش للاسلام " . أما الجزائر : فهي وطني الخاص الذى تربطنى بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص وتفرض على تلك الروابط لأجله كجزء منه فروضا خاصة وأنا أشعر بأن كل مقوماتى الشخصية مستمدة منه مباشرة فأرى من الواجب أن تكون خدماتى أول ما تتصل بشئ تتصل به مباشرة وكما اننى كلما اردت ان أعمل عملا وجدتني فى حاجة اليه الى رجاله والى ماله ، والى حاله ، والى آلامه ، والى آماله كذلك أجدنى إذا عملت خدمت بعمل ناحية او اكثر مما كنت فى حاجة اليه وهكذا . . هذا الاتصال المباشر اجده بيني وبين وطني الخاص فى كل حال وفى جميع الاعمال واحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لا بد أن يجد نفسه مع وطنه الخاص فى مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال .

نعم ان لنا وراء هذا الوطن الخاص اوطانا اخرى عزيزة علينا هى دائما

منا على بال ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد انه لا بد ان نكون قد خدمناها وأوصلنا اليها النفع والخير من طريق خدمتنا لوطننا الخاص

واقرب هذه الاوطان الينا هو المغرب الادنى ) تونس ( والمغرب الاقصى ( مراكش ( اللذان ما هما والمغرب الأوسط ) الجزائر ( الا وطن واحد لغ وعقيدة وآدابا واخلاقا وتاريخا ومصلحة ثم الوطن العربي والاسلامي ثم وطن الانسانية العام ولن نستطيع ان نؤدى خدمة مثمرة لشئ من هذه كلها الا اذا خدمنا الجزائر .

ثم يوضح فلسفته من وراء خدمة وطنه الخاص ) الجزائر ( فيقول : " فنحن اذا كنا نخدم الجزائر فلسنا نخدمها على حساب غيرها ولا للاضرار بسواها - معاذ الله - ولكن لننفعها وننفع ما اتصل بها من أوطان الاقرب فالاقرب وهذا هو مرادى بقول : " إنى أعيش للجزائر " .

وهكذا يتضح للقارئ ان عبد الحميد ابن باديس كان واسع الافق الى حد بعيد بحيث شملت فلسفته خدمة الانسانية كلها عن طريق خدمة وطنه الخاص لان الذى لا يفلح في خدمة وطنه الخاص ليس صالحا فى شىء لخدمة الوطن الانسانى الاكبر

لا يسعنا فى خاتمة هذا العرض السريع لكتاب " آثار ابن باديس " الا ان ننوه بالمجهود الكبير الذى بذله الاستاذ الجامع والمبوب له - وكذلك الناشرون . الذين أعدوا المادة العلمية وأنفقوا عليها ثم قاموا بطبعها ونشرها خدمة للتاريخ العربى والثقافة العربية الاسلامية فى الجزائر التى كادت ان تطمس معالمها في العصر الحديث - فلهما الشكر وعظيم التقدير على هذا العمل الجليل

هذا ويجب ان نلفت نظر رجال الفكر والثقافة فى مختلف الجامعات العربية فى كل البلدان العربية ضرورة اقتناء هذا الاثر الفكرى النفيس الذي يمثل مدرسة هامة من مدارس التفكير الاسلامى فى المغرب العربى خصوصا وان الانتاج الفكرى الجزائرى باللغة العربية يكاد يكون مجهولا . . . فى المشرق العربى لظروف لا يتسع المجال هنا لشرحها .

اشترك في نشرتنا البريدية