الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

كرشنتاينر ، نشأته و آراؤه التربويه

Share

تعانى الانسانية اليوم فى كل أنحاء المعمورة من مشاكل تربوية تنجم عن التطورات السريعة فى حياة الانسان المعاصر واحتياجاته وعدم مسايرة التربية والتعليم لهذه التطورات السريعة . فالتطورات السريعة منذ الحرب العالمية الاولى الى يومنا هذا فى حياة الانسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية والروحية هى تطورات عميقة وخطيرة وحمل المربى ثقيل ومسؤوليته كبرى ولا بد للمربى من أن ينهض بحمله ويتحمل مسؤوليته اذا شئنا للانسانية البقاء والاستمرار فى التقدم والازدهار .

ولكن المربى لا يستطيع أن يؤدى واجبه الكبير هذا ما لم يتحرر من الجمود ويكسر القيود التى تكبل عقلية المجتمع بتقاليد بالية ويتخلص من نظم وأساليب عفا عليها الدهر ولم تعد صالحة لزماننا . ولئن كان هذا الانعتاق الفكرى والروحى والمادى ضروريا فى كل حقول الحياة فانه ألزم ما يكون فى حقل التربية والتعليم .

مكانة كرشنستاينر فى التربية والتعليم

ان الثورة فى الفكر التربوى الحديث ربما تكون بدأت بكتابات جان جاك روسو وقد تأثر من آراء روسو التربوية مربون عظام من أمثال المربى السويسرى العظيم " بستالتسى " والكاتب الروسى الشهير " تولستوى " . وتأثر من بستالتسى العديد من المربين فى العالم منهم المربى الالمانى المعروف فروبل مؤسس " رياض الاطفال " والفيلسوف المربى هربارت الذى حاول وضع أصول التدريس على قواعد علمية مضبوطة . وربما كان من أفضل من طبق أساليب بستالتسى فى التربية ودفع بها الى الامام المربى الذى نتحدث عنه الليلة أعنى به " الدكتور جورج كرشنشتاينر " . فهو يجمع ويوحد بين آراء بستالتسى المربى السويسرى و " جون ديوى " المربى الامريكى المشهور فهو يتفق مع بستالتسى فى تأكيده على أهمية حب المربى لاطفاله ورعايته لمستوياتهم ومداركهم الذهنية كما يعنى بتقديم الدروس بصورة جذابة

ومحسوسة . وهو يتفق مع جون ديوى فى تأكيده على ضرورة الاهتمام بأولاع الاطفال وميولهم واحتياجاتهم وتوجيهها توجيها تربويا ذلك الى جانب اهتمام بالخبرة وبالعمل فى التعليم

فكر شنشتاينر يمثل فى نظرى أفضل ما توصل اليه الفكر التربوى الحديث فانه يجمع ويوحد بين المحبة والولع والعمل فى نظام التربوى ثم يوجه كل ذلك نحو المواطنة الصالحة والحياة الاجتماعية الانسانية المؤسسة على العلم والاخلاق الفاضلة والحياة الروحية الصافية . وما يعطى كرشنشتاينر مكانة ممتازة بين المربين المجددين هو أنه لم يكن نظريا فحسب بل انه طبق نظرياته فى حياته فأصبح فى عداد السعداء الذين عاشوا ليروا أحلامهم وأمانيهم تتحقق . و لا شك فى أن ما تتمتع به " ألمانية " اليوم من قوة صناعية واتقان فى العلم والعمل يرجع فضله بالدرجة الاولى الى مربين مخلصين من أمثال كرشنشتاينر الذى اتخذ من العمل المتقن والفاعلية المحور الذى تدور حوله كل الدروس وكل الافعال التربوية . فالعمل هو الاساس فى اكتساب المعرفة . والعمل هو المقوم للأخلاق . والعمل هو الوسيلة للمواطنة الصالحة . والعمل هو الطريق الى السرور والسعادة فى الحياة . هذا هو كرشنشتاينر ولا تعجبوا إذا قلت لك وأنا من المنتمين الى المدرسة الحديثة فى التربية أني تأثرت تأثرا عميقا من آراء

كرشنشتاينر فى تفكيرى التربوى . وذلك بدرس ما ترجم من تأليفه الى اللغة الانكليزية . وكان سرورى عظيما يوم جاءنى الدكتور حسين كبة وهو أحد الاساتذة العراقيين الذى كنت ارسلتهم للدراسة فى ألمانيا ثم فى سويسرا يوم كنت أتولى شؤون التربية والتعليم فى العراق جاء يستشيرنى فى نقل كتاب كرشنشتاينر " التربية الاجتماعية الوطنية " الى اللغة العربية فشجعته على ذلك ورحبت بالفكرة أحر ترحيب . ثم طلب الى أن أكتب مقدمة الكتاب ففعلت . وانه لمن دواعى السرور أن أجد استاذا فرنسيا هو الاستاذ Jean Chateau وضع كتابا عن خمسة عشر مربيا عظيما اختارهم من تاريخ التربية من أفلاطون الى عصرنا هذا عنوانه : Les grands pedagogues فجعل كرشنشتاينر بين عظام المربين فى تاريخ التربية . وهأنا بعد هذه المقدمة عن مكانة كرششتاينر في تاريخ التربية أتناول بايجاز نشأة كرشنشتاينر وحياته وآراءه التربوية وجهوده فى سبيل تطبيقها معتمدا على مطالعاتى العديدة لكتبه ولما كتب عنه ولا سيما على كتيب للآنسة : Diana simons عنوانه " جورج كرشنشتاينر " أفكاره وعلاقتها بيومنا هذا " .

نشأة كرشنشتاينر وحياته :

ولد جورج كرشنشتاينر فى مدينة مونيخ عاصمة بافاريا احدى مقاطعات

ألمانية فى سنة (1854 ). ونشأ فى بيت فقير كان قد ضيع ثروته . وعاش فى بيئة متخلفة يمكن أن تقارن بالعديد من بلاد العالم الثالث اليوم . فقد كان مرض الكوليرا منتشرا آنذاك . وكان أبوه وهو فى الحادية والخمسين من عمره قد تزوج للمرة الثانية بفتاة تدعى كاترينه وهي فى التاسعة عشرة من عمرها .

كان انطون رجلا صالحا مستقيما يحب الصدق والانصاف والثبات على المبدأ . ولكنه كان عاجزا عن العمل تقريبا لضعف بنيته . أما كاترينه فكانت مثالا للزوجة الصالحة المتسامحة وكانت عنوان العطف والتفهم لزوجها وأطفالها وهى التى كانت تعمل لتكسب القوت للعائلة . أما جورج الصغير فكان يلعب على شاطئ نهر الأيزار وادخل المدرسة وهو فى السادسة من عمره . وكان أبوه بعوده على الطاعة ومراعاة النظام والمحافظة على المواعيد وهذه من السجايا الالمانية التى لا يجوز التهاون فيها . فكان عليه أن يجلى حذائه ويأتى به ليشاهده أبوه كل يوم . كما كان عليه أن يعد واجباته المدرسية بدقة واتقان وان يتولى مساعدة كاترينه فى الحانوت الذي تبيع فيه " الجبن " . ولما بلغ جورج الثامنة من عمره صار يداوم بعد ظهر يومى الاربعاء والسبت على أخذ دروس خاصة فى الرسم الأمر الذى جعله من هواة الرسم فأدخل الاصلاحات على تدريس الرسم حين تسلم زمام التعليم فى مونيخ فيما بعد . لم يكن جورج مر الاولاد البارزين فى الذكاء كما أنه لم يكن غبيا . ولكنه كان يسأم الدراسة الجافة فى المدرسة تلك الدراسة التى لم تجلب انتباهه أحيانا اذ كان شارد الذهن متحركا . ولذلك فقد وعده مدرسه مرة بجائزة فيما إذا بقى هادئا مصيغا للدرس لمدة ثلاثة أيام . وقد فعل فنال الجائزة .

كان جورج يهوى الطبيعة والتجول فى الاحراش . كما كان شغوفا بالمطالعة ولما كانت عائلته الفقيرة لا تستطيع أن تزوده بكتب المطالعة فانه كان يقرأ جريدة Leipziger Allegeine Zeitung وهي الجريدة التى كانت تستعمل فى الحانوت للف البضاعة . ولم يكن جورج في معظم الاوقات يفهم ما يقرأه فى الجريدة ولكنه كان يطير فرحا عندما يعثر على مادة يفهمها . ولما كانت عائلة كرشنشتاينر عائلة كاثوليكية المذهب كان حضور الكنيسة يوم الاحد وتلاوة الكتاب المقدس من الامور التى لا يحوز التهاون فيها .

بعد سنوات معدودة انتهى جورج من المدرسة الامر الذي أسره وأسر أسرته ولما كانت الاسرة فى حاجة الى عون مادى فهى لا تستطيع أن تتحمل نفقات استمرار جورج على الدراسة . فنصحه صديق العائلة الدكتور Rampf بأن

يدرس ليصبح قسا . فاستحسن جورج الفكرة لانه كان يحب رجال الكنيسة كما كان يحب رجال الشرطة . ولكن صيرورته قسا تتطلب دراسة 12 سنة وهو ما لا يستطيع الصبر عليه . فعدل عن فكرة درس اللاهوت وتبرع أخوه يوسف بأن يجد له عملا فى حانوت فى مدينة كولون ولكن جورج رفض ذلك واذ ذاك خطر له ان الطريق الوحيد لتحقيق هدفه هو أن يدخل دار المعلمين ففعل . وقد قضى عدة سنوات فى معهد Freising للمعلمين بالقرب من مدينة مونيخ حيث عاش جورج عيشة تقشف وظل يستجدى غداءه وقت الظهر من كل يوم لدى عائلة كريمة فى البلدة . وكان منهج الدراسة فى مدرسة المعلمين مشحونا بالمواد الدراسية فعدد المواد التى يدرسها الطالب تقارب الأربعين مادة . فمن علوم طبيعية ورياضية الى العلوم الانسانية الى الفنون والآداب الى اللغة فالتربية وعلم النفس فالموسيقى والرسم والرياضة البدنية الخ . . . وكان كرشنشتاينر يكره الحفظ الأصم للمواد . ولما نضج فكره التربوى أصبح يشجب وينتقد هذا النمط من الدراسة والتدريس والمدرسة وأساتذتها لم يعجبوه باستثناء استاذ واحد اسمه Dresely . كاد يكون هذا الاستاذ بستالتسى المدرسة اذ أنه كان يحب طلابه ويفهمهم ويبدى اهتماما شخصيا بكل واحد منهم .

وفي سبتمبر 1871 عين كرشنشتاينر معلما مساعدا فى مدرسة ريفية صغيرة تبعد خمسة عشر ميلا شرقى مونيخ . وهو لم يكن سعيدا فى مدرسته هذخ لان الاطفال ( وكانوا من عائلات فلاحية ) لم يقبلوا على الدرس بشوق ولم يداوموا بانتظام وكانوا يسخرون من الدرس والمدرسة . ثم انه وجد أن البيئة فقيرة ثقافيا فلا نواد ولا مكتبات ولا رجال فكر . وفى نهاية السنة نقل قرية بالقرب من Augsburg ثم الى مدينةAugsburg نفسها فكان هذا النقل رحمة . اذ وجد كرشنشتاينر نفسه فى محيط غنى بالثقافة . فنظم هو وعدد من أقرانه حلقة دراسية يقدم كل واحد منهم بحثا يتلوه على الجماعة فاختار كرشنشتاينر بحثا كيماويا ألقاه بصورة جافة كما كان يتلقى هذا الدرس فى مدرسة المعلمين . فنام الزملاء وهم يستمعون اليه الامر الذى حز فى نفسه . وبالرغم من الانكسار الذى أصابه فان تعطشه الى العلم وشعوره بالهوة السحيقة بين ما هو عليه وما يريد أن يحققه جعله يطلب المزيد من الدراسة .

وفي سنة 1873 ترك وظيفة التدريس والتحق بالجمنازيوم ( الثانوية ) وأخذ يرتزق عن طريق عطاء دروس خصوصية . وبعد سنتين فى الحادية والعشرين

من عمره استطاع أن يجتاز امتحان السنة السادسة الثانوية وفي السنوات التاليه اتجه الى درس العلوم ولا سيما الرياضيات لان هذه الدروس تتطلب اعمال الفكر . والمهم فى حياته فى الجمنازيوم (  الثانوية ) أنه اكتشف ذاته فعرف مواطن القوة فى شخصيته كما عرف حدود نفسه . وفى الثالث والعشرين من عمره تبلور طموحه فى الحياة فقرر أن يصبح افضل معلم فى أحسن مدرسة و فى أدق موضوع . وحين أكمل الدراسة الثانوية ( الجمنازيوم ) سنة 1877 أصبح طالبا جامعيا فى الرياضيات والفيزياء وكانت له رغبة عارمة لسعة الاطلاع وكسب الاختبارات الامر الميسور فى النظام الجامعى الحر الذي يسود جامعات ألمانية . ومن حسن حظه أنه أصبح يدرس على أكبر علماء الرياضيات في ألمانية انذاك وهو الاستاذ Felix Klein فكان ذلك مدعاة سروره وفخره ولكن الاستاذ Klien كان يلح على طلابه بأن يتفرغوا للرباضات وحدها وهذا لا بعجب كرشنشتاينر . فكرشنشتاينر كان متحمسا لدرس الحياة التى لا تحد بالرياضيات . وقد انتمى كرشنشتاينر الى جمعية الرياضيات لمدينة مونيخ تلك الجمعية التى أسسها Mox Planck  العالم الفيزيائى الشهير وقد ترأس كرشنشتاينر هذه الجمعية لمدة سنتين ونصف السنة . كما انه كان فنانا بمارس الرسم ويحمل معه اضبارة الرسم ليرسم فى جولاته حين يخرج الى الطبيعة

خارج المدينة . كما انه كان شغوفا بالسير على الاقدام وتسلق الجبال . وكان يتعاطى التزحلق على الثلوج أيام الشتاء . وكان للموسيقى محلها الخاص فى قلبه فانه كان يعزف على البيانو كل يوم صباحا قبل الذهاب الى العمل . وكان يهوى الاوبرا ولا سيما أوبرات واغنر التى تعبر عن خصال ألمانية عديدة وفوق كل ما مر فقد كان كرشنشتاينر قوميا متحمسا . ومن الشخصيات التى تعلق بها كرشنشتاينر " بسمارك " موحد ألمانية . وكان كرشنشتاينر يعتبر شرف أمته والاخلاص لها فى مقدمة المبادئ الاساسية التى ينبغى أن يتشرب به الانسان فى هذه الحياة . هذا وقد بقى طوال حياته يحمل الحب والولاء لمقاطع بافاريا الجميلة والتى عاصمتها مونيخ ففى بافاريا شب وترعرع كرشنشتاينر بعد جهد شديد وبالرغم من المشاكل المالية والمعاشية نال كرشنشتاينر شهادة الدكتوراه فى جامعة مونيخ فى جويلية 1883 وكان بحثه عن نظريات الكهرباء . وفى السنة ذاتها عاد الى التعليم فاصبح مساعد استاذ فى الرياضيات فى ثانوية  ملانشتون فى مدينة نورنبررغ Melanchthon Gymnsium هذا وان نظرته الى التعليم قد نضجت واتسعت . فهو لم يعد يلقن المعلومات فحسب بل صار يحرك أفكار الطلاب وينمى حيويتهم وطموحهم ويسعى لان يجد في كل طالب ما ما هو خير ومفيد . ففى كل انسان نزعة للخير وواجب المربى أن يحرك تلك

النزعة وينميها . وذلك يتطلب الاتصال بالطلاب والتعرف عليهم بحيث تؤسس العلاقة بين الاستاذ والطالب على قواعد النزاهة وحسن النية . ومع أنه لم يدرس علوم التربية فى الجامعة ونسى ما تعلمه من دروس علم النفس في مدرسة المعلمين الا أنه اعتمد على اكتشاف طرق التدريس الناجعة . وكان حبه لطلابه هو الاساس الذى بنى عليه علاقته معهم . ولذلك فقد كان يكرس جزءا من أوقاته خارج الصف ( القسم )للألعاب الرياضية والسباحة مع الطلاب . وهو بذلك أوجد جوا اجتماعيا عائليا بينه وبين طلابه . ان تدريسه الرياضيات كان مرتبطا بالاختبارات فى الحياة اليومية كحساب كلفة بناء دار وحساب مصروف عائلة . وكن مرحا مع طلابه لا تفوته النكتة ولكنه فى الوقت ذاته كان صارما كل الصرامة مع التلميذ الذي يسئ التصرف فقد ورث الصرامة فى الضبط من أبيه على ما يظهر والضبط من مزايا التربية الالمانية كما هو معلوم .

وفى سنة 1885 أى بعد سنتين انتقل الى وظيفة أستاذ الرياضيات فى المدرسة التجارية فى نور نبرغ بمرتب أعلى الامر الذي مكنه من أن يتزوج خطيبته التى كان يحبها وتحبه . هذا وان زوجته الهادئة لم تكن مرتاحة من مساهمة زوجها فى الحياة الاجتماعية والفكرية على هذا النطاق الواسع .

و فى سنهة 1890 عين في ثانوية Gustave Adolf فى بلدة Schweinfurt ولما كلفه مدير المدرسة بتدريس علوم الحياة ( الحيوان والنبات ) فى الصفوف الدنيا من المدرسة اعتذر وأبى لانه لم يتخصص فى هذه العلوم ولكنه صار بعد ذلك يحضر محاضرتين فى الاسبوع فى علوم الحياة كما انتمى الى نادى التاريخ الطبيعي حتى أصبح مؤهلا لتدريس هذه العلوم ولقد سحر باكتشاف عالم الازهار وعالم الحيوان . وبعد سنة صار يدرس علم النبات . ولم يقتصر تدريسه النبات يوما على النظريات بل كان يصحب الطلاب الى الغابات والمروج ليشاهدوا النباتات فى بيئتها الطبيعية ثم يرسمون ما يشاهدون ويدونون أسماء النباتات وهذا ما جعل درس النبات حيا ومشوقا للغاية . ولقد شبه كرشنشتاينر شغف الطلاب بدرسهم الطبيعة " بالأرض العطشى التى تمتص المطرة الأولى بكل نهم " .

وفى خريف 1893 عاد الى بلده الحبيب مونيخ وصار يدرس الرياضيات والفيزيا فى الصفوف العليا من ثانوية Ludwigs ومع أن بيئة مونيخ الثقافية كانت تسره الا أن الجو التعليمى لم يكن يعجبه . اذ جل ما تفعل المدرسة هو تقديم المعلومات ليس أكثر . ولكى يسد هذا النقص قام بتنظيم

رحلات لطلابه فى عطلة نهاية الاسبوع الى البحيرات والغابات الامر الذى أدخل السرور والنشاط فى نفوس الطلاب . انه كان وحيدا فى نزعته التربوية الجديدة وماذا يستطيع ان يفعل الصوت الواحد وسط مجموع جبل على التقاليد ؟ انه لم ييأس قط واتبع شعار " دع الأمور تجرى واستفد منها قدر المستطاع" وبينما هو يجاهد من أجل تجديد الاسلوب التربوى واذا بفرصة غير منتظرة تتاح له . فقد اختير ليتولى شؤون " التربية القومية " فى مدينة مونيخ . كيف جرى ذلك ؟ كان قد وقع الاختيار على الدكتور نيكلاس ليكون مديرا للمعارف ولكن الدكتور نيكلاس بروتستانى المذهب ومونيخ مدينة كاثوليكية ولما سمع الدكتور نيكلاس الانتقادات الكثيرة حول تعيينه فى هذا المنصب اعتذر عن قبوله ورشح بدله الدكتور جورج كرشنشتاينر ففي سنة 1895 أصبح كرشنشتاينر مسؤولا عن كل مدارس مدينة مونيخ . يا لها من فرصة عظمى تتاح له ! فقد ظل ينتقد الاساليب التربوية المبنية على الحفظ الأصم ودرس الكتب بعيدا عن الحياة زمنا طويلا وها هى الظروف تهئ له فرصة التجديد وفرصة العمل . وقد جاء فى خطابه عند ترسيمه فى منصبه الجديد ما يلى :

"على المدارس أن تستهدف تقديم المعلومات والمهارات البسيطة والواضحة وان تعمل على تقوية الجسم وتحسين الرشاقة الجسدية وتوقظ الشعور الداخلى العميق بكل ما هو نقى وخير وجميل . وان تقوى ارادة الطلاب نحو العمل والاخلاق ولاجل أن يوجه الطلاب نحو الخير لا بد من أن تكون التربية المعطاة مؤسسة على أسس دينية متينة " . وبعد ان استلم مهامه كمراقب أو مدير للتربية والتعليم فى مونيخ بدأ بزيارة المدارس والاطلاع على سير التدريس فيها والاستماع الى الملاحظات والاقتراحات التى يبديها المدرسون وبعد دراسة دامت ثلاث سنوات تعرف فيها على نقاط الضعف والقوة فى التعليم الابتدائى وصنع اصلاحات جديدة للتعليم الابتدائى دونها فى تقريره " ملاحظات على المنهج الدراسى سنة 1899 " Beobachtungen zur Theorie des Lehrplans ثم انه درس علاقة التعليم الابتدائى بالتعليم الاستمرارى المهنى فوجد أن نسبة المعلومات التى يحملها الطفل من المدرسة الابتدائية الى المدرسة المهنية هي في غاية الضآلة .

وان الطلاب لم يبدوا اهتماما باستمرارهم على الدراسة بعد المرحلة الابتدائية . وان المنهج الدراسي لا يتصل الا قليلا بحياة الطالب اليومية وان الطلاب يحملون فوق قابليتهم من المواد الدراسية . وأن الساعات المحدودة التى تعطى للموضوع الواحد لا تسمح باتقان ذلك الموضوع وتطبيقه بحيث تكون النتيجة ذات فائدة ثابته . وان الدراسة تعطى مساء حين يكون الطلاب قد تعبوا . والمدرسون بدورهم لم يكونوا مكترثين بمهامهم . الصفوف ( الاقسام ) مزدحمة بطلاب ذوى

قابليات متفاوته . والاولاد العاملين لم يلاقوا تشجيعا من مستخدميهم على الدراسة بل كان هؤلاء يفضلون بقاء الاطفال ناقصى المعرفة ليظلوا تحت رحمتهم .

فى ربيع 1900 قام المجمع العلمى الملكى البروسى للمعارف النافعة بنشاط تربوى واسع النطاق . ومن ذلك تخصيص مكافأة لمن يحوز قصب السبق فى الكتابة فى الموضوع التالى : " كيف نربى شبابنا الذين تتراوح أعمارهم فيما بين الرابعة عشرة والعشرين من سنى حياتهم أى من حين تخرجهم من المدرسة الابتدائية الى حين دخولهم الخدمة العسكرية كيف نربيهم تربية تعدهم لأن يكونوا مواطنين صالحين فى جسم الدولة الاجتماعى ؟ "

ان كرشنشتاينر كان يدرس أحوال الشباب فى هذا السن واحتياجاتهم التربوية منذ بضعة سنوات وكان قد أعد الخطط والاصلاحات لتربيتهم فدخل المسابقة وكان بحثه الفائز بالجائزة الامر الذى أحدث ثورة كبرى فى التفكير التربوى فى ألمانية .

آراء كرشنشتاينر وفلسفته التربوية :

ها نحن فيما يلى نستعرض بعض آرائه التربوية بايجاز كلى :

أهداف التربية تنمو من كل معتقدات الشعب وعليه فلا يمكن ان تفرض أهداف التربية لاى شعب من الخارج كما لا يمكن لاى شعب أن يستورد أهداف تربيته من الخارج .

التربية تعتنى باعداد الانسان أخلاقيا وعقليا وتقنيا .

ان التربية الاخلاقية التى تعنى بالاخلاق النقية انما تتحقق بتغلب محبة فعل الخير فى الانسان على كل المؤثرات الاخرى . ولذلك فهى أى التربية تعرف الانسان ما هو الخبر ؟ وهذا لا يتم بالتعلم اللفظى والحفظى بل بايقاظ الشعور الاخلاقى في الطفل من بداية نشأته . وعلى هذا الشعور تؤسس العقائد الدينية وادراك الطالب حكمة الله ورحمته ولطفه . ولذلك فيصبح الدين جزءا أساسيا من المنهج التربوى .

والتربية العقلية بدورها تقرب الانسان من الاخلاق الصافية . فالمعلومات بدون أخلاق تكون ضارة . والتربية مدعوة لان تجعل من الانسان عنصرا نافعا فى المجتمع . ان بعض المهارات التقنية يحتاج اليها كل انسان فى حياته تقريبا ولذلك يصبح من الضرورى تأسيس مدارس العمل Arbeitschle للبنين والبنات بحيث تتعاون هذه مع المدارس الأكاديمية أى النظرية . وينبغى أن يدخل كل الناشئة مدارس العمل حتى الذين لا يحتاجون الى العمل لكسب معاشهم . اذ أن الظروف قد تتغير فيفقد المرء الثروة التى ورثها وانه لمن الخير لكل انسان ان يتعلم تقدير المنافع التى تحصل من قدرته على كسب رزقه . وان بحمل الاحترام اللائق للانسان الذي تعلم ان ينتج الثروة عن طريق الكد والاجتهاد " .

ان الهدف التربوى فى بلد دمقراطى دستورى هو تهيئة مجتمع مكون على قدر المستطاع من أشخاص ذوى فكر مستقل ونشوء منسجم وضمير أخلاقى حر "

هذا وقد لقيت آراء كرشنشتاينر التقدمية فى تكوين المواطن الحر المنتج انتقادات حادة من الاوساط المحافظة الامر الذى حمله على وضع كتابه " فكرة مدرسه العمل " Begrtff der Arbeitschule فالمواطن فى رأى كرشنشتاينر ليس أداة طيعة فى يد الدولة . بل هو عنصر فعال يساهم في شؤون الدولة والطفل يبدأ بأن يكون عنصرا فعالا فى عائلته . وفي المحيط العائلى تحدث التفاعلات بين الافراد ويساهم الجميع كل حسب مقدرته فى تأدية مهامه لخير المجموع . والجو العائلى السليم فى نظر كرشنشتاينر هو مرآة مصغرة لما يجب أن تكون عليه الدولة من حيث الترابط والتفاعل بين الافراد . ففى المحيط العائلى السليم ينشأ الفرد فى جو يراعى فيه حقوق الافراد ويمارس الغيرية ويحترم آراء الآخرين ومصالحهم . كما أنه ينشأ على الامانة والاستقامة . وهو فى البيت يتعرف على الدور الذى تقوم به الدولة والدور الذى يقوم به هو فى خدمة الدولة . وكما ان واجب العائلة يتناول غرس فكرة الدولة وتهيئة الفرد للعضوية فى الدولة كذلك نستطيع القول بأن عمل الدولة يتناول غرس وتنمية الفكرة الانسانية " و  " المواطنة العالمية " فان نحن ربينا مواطنين صالحين للدولة فانا نكون قد ربينا مواطنين صالحين للعالم في الوقت نفسه . العمل أى الشغل هو المحور للتربية فقد قال كرشنشاينر " لاجل أن يكون الشخص كاملا لا بد ان يكون مفيدا أى منتجا أولا . والشخص المفيد هو ذلك الذى يقدر أهمية عمله وعمل مواطنيه والذى يملك القوة والارادة لانجاز العمل " . وقال أيضا " ان

الهدف النهائى لكل المدارس التى تعتمد على موارد الدولة هو أن تربى الطلاب ليصبحوا مواطنين نافعين ( منتجين ) . والمواطن النافع هو ذلك الذى يعمل مباشرة أو بالواسطة على تحقيق أهداف الدولة لتحقيق مجتمع متمدن وقانونى " .

وعليه فان التربية العملية المهنية هى الأساس فى التربية التى يريدها كرشنشتاينر وهو فى ذلك يقول : " وعليه فكل مدرسة بما فى ذلك المدرسة الابتدائية تتحمل مهام ثلاث فى الوقت نفسه وهذه المهام تتضمن كل أهداف التربية وهي باختصار :

1 - تربية مهنية أو على الاقل اعداد للتربية المهنية . 2 - جعل التربية المهنية تربية أخلاقية . 3 - تدريس القيم الاخلاقية للمجتمع الذى فيه تمارس المهنة .

ان كرشنشتاينر يرى أن التربية التقنية الحرفية هى المرحلة الاولى فى تحقيق هدف التربية النهائى ألا وهو تكوين مواطنين بعيدين عن الانانية اخلاقيين يرغبون بحرارة فى دعم الاسس الاخلاقية التى تقوم عليها الدولة .

يضاف الى التربية المهنية التربية المدنية التى تعرف المواطن بجهاز الدولة ووظائفه وتعرفه بأهمية رفع كفاءته الشخصية الى أعلى المستويات لدعم هذا الجهاز . فان التأكيد على النجاعة المهنية هو الشرط الاساسى للتربية المدنية والنجاعة المهنية تملأ نفوس الناشئة بالفخر والسرور والاعتزاز بما ينتجونه لانفسهم ولدولتهم .

ان الهدف الاول فى التربية للاطفال الذين ينهون المدرسة الابتدائية هو اعدادهم للنجاعة فى حرفة وحب الشغل . ويرتبط بهذا اعدادهم للفضائل التى تتطلبها النجاعة وحب الشغل مثل : حساسية الضمير والاتقان والمواظبة والمسؤولية وضبط النفس والاخلاص فى حياة فعالة .

ويلى ذلك مباشرة الهدف الثاني ألا وهو التبصر فى العلاقات فيما بين الافراد وبين الافراد والدولة وتفهم قوانين الصحة وهذه المعرفة وهذا التبصر يستلزمان ممارسة ضبط النفس والعدالة والاخلاص للواجب والاخذ بأسلوب حياة معقول يتسم بالشعور القوى بالمسؤولية الشخصية .

ونستطيع أن نسمى الهدف الاول هدف التربية التقنية والهدف الثانى هدف التربية الاخلاقية والذهنية . وهنا ينبغى أن نلاحظ أن الهدف الاول أى الهدف التقنى قد يحوى مناسبات هامة للتربية الذهنية والتربية الاخلاقية معا . كما ان الهدف الثانى لا يتحقق الا بتحقق الهدف الاول بل هو الاستمرار له . اذن ففلسفة كرشنشتاينر التربوية تتلخص فى توحيد النواحى التقنية والذهنية والخلقية فى التربية . والتربية العملية التقنية هى المحور الذى تدور حوله كل فعاليات التربية . فالتربية المهنية تقودنا الى التربية الاخلاقية وتكوين السجايا وهذه بدورها تقودنا الى التربية الذهنية والمعرفة .

ثم ان كرشنشتاينر يشارك جون ديوى فى رأيه فى أهمية الاولاع فى التربية فالدراسة قد تكون جافة ومملة اذا كان الطلاب يدرسون ما لا يهمهم ولا يمس احتياجاتهم الحقيقية . " وجذور الاولاع هذه هى فى النهاية احتياجات الفرد جسديا أو ذهنيا أو روحيا " .

فولع الاطفال باللعب والبناء وولعهم بالاجتماع بغيرهم وباصدقائهم وولعهم بالاطلاع والسؤال وولعهم بالبحث عن صور أو طوابع يجمعونها أو غابة أو بحيرة يزورونها كل هذه تحرك الاولاع وتحرك الطالب نحو العمل . والمدرسة التى لا تغذى الاولاع المربية للاطفال تقصر فى مهمتها . فبالاولاع يتعلم الاطفال وينجزون الاعمال بهمة واندفاع .

ومن واجبات المدرسة ان تنمى الغيرية عند الاطفال . فقد توصل كرشنشتاينر الى أن أهم ما يحرك الانسان نحو العمل قوتان هما : الجوع والحب . فلتلافى الجوع يسعى المرء بلا كلل عاملا باحثا عن القوت وهذا عمل أنانى . وفى سبيل الحب يعمل المرء المعجزات وهذا عمل غيرى . مع العلم ان الانانية والغيرية متلازمان فى النفس الانسانية الواحدة . فقد يمارس الانسان الغيرية بدوافع أنانية بحتة فى البداية فانه يريد رضى الناس عنه لكى يرضى نفسه . فالمهم اذن خلق المثل العليا والمسميات التى تجعل الفرد يجد سروره فى خدمة الغير والتعاون معهم . وتستطيع التربية ان توجه الافعال الانانية للطفل فتجعل منها غيرية . ولكن ذلك لا يكون بالمواعظ والخطب بل بالعمل فبالانانية مثلا يستطيع الطالب أن يعمل عملا غاية فى الاتقان عملا يفتخر به ولكنه فى الوقت نفسه هو عمل للصالح العام . والمرء قد يمارس العطاء والبذل فى سبل الاحسان لحب الشهرة وفى ذلك أنانية ولكنه فى الوقت نفسه يقوم بعمل غيرى . فواجب المربى اذن أن ينمى فى الطالب معرفة الخير وحب عمل

الخير . وبنموه الذهنى يرتقى بالدوافع من الانانية الى الغيرية بحيث تصبح الغيرية وعمل الخير سجية ثابتة فى المواطن

ان الاخلاق أو السجايا الفاضلة كما يرى كرشنشتاينر تتكون من عوامل أربعة : ( 1 ) الارادة ( 2 ) ووضوح التقدير والحكم ( 3 ) والحس المرهف ( 4 ) والمقدرة على الالتزام نفسيا فى الموقف .

والارادة أى العزيمة هي العامل الاهم . وهي ما يجب أن تعنى المدرسة بتكوينها ، فالارادة هى التى تدفع الى العمل . أما الاحلام والافكار التى تبقى بدون تنفيذ فلا تنتج الخير للفرد والمجتمع ما لم تقترن بارادة . ووضوح التقدير يتطلب استعمال العقل والمحاكمة والمنطق للتمييز بين الخير والشر فيريد الخير والحس المرهف عبارة عن استعداد الروح لان تتحرك فتحرك الانسان وهى خاصية يمتاز بها الفنانون . انها قضية تغذية العواطف والشعور الذى يدفع الفرد نحو عمل الخير . وأما الالتزام بعمل الخير أو التقمص به فهو ما يجعل المرء يقبل على الفضيلة ويتحرك نحوها طواعية . فهو يمثل الاصالة فى الاخلاق ضد التصنع والتكلف . وانه يمثل درجة تعلق الروح بالفكرة أو السجية ودرجة ثبات واستمرار هذه الحالة الروحية .

هذا وان العمل فى رأى كرشنشتاينر هو الذى يحرك ويستقطب روح الطالب وولعه وحرصه على التفوق والفخر والمباهاة بما ينجز وهو الذى يبنى الاخلاق ثم ان كرشنشتاينر يعنى عناية خاصة بقيام الجماعة بعمل مشترك تعاوني بحيث ينمى روح الوحدة والانسجام بين الطلاب . فالعمل على اختلاف أنواعه من حرف ومهن العمل البيتى والعمل اليدوى فى الحقل وفى المعمل وفى المتجر وفى الحانوت كل ذلك يصبح المحور الذى تدور حوله التربية الذهنية الاكاديمية والتربية الاخلاقية . أضف الى ذلك حب الطبيعة والرياضة البدنية والفنون الجميلة فهذه كلها تكون المنهج التربوى الذي يدعو اليه كرشنشتاينر . وله كما سبق أن أشرنا آراؤه الخاصة فى الفن وفي تدريس الفن . وهو يعنى عناية خاصة بمنهج اعداد الفتاة لتكون ربة بيت ولتكون أما صالحة . وانه صريح كل الصراحة فى ان المدرسة وحدها لا تستطيع ان تقوم بكل أعباء التربية فالبيت هو المدرسة الاولى وتليه البيئة الطبيعية والاجتماعية والمدرسة تأتى بالدرجة الثالثة ولذلك فدور الام يكون دورا أساسيا فى تربية الطفل فيجب اعدادها للقيام بهذا الدور على أفضل وجه .

ولقد نجح كرشنشتاينر فى اعادة تنظيم التعليم في مونيخ وجعل التربية المهنية الاستمرارية اجبارية لكل الاولاد الذين ينهون دراستهم الابتدائية فيستمرون على الدراسة الى السن الثامنة عشرة وهو بذلك كسب شهرة واسعة فى سائر انحاء ألمانية وفي أروبا والعالم المتمدن

بقى كرشنشتاينر على رأس ادارة المعارف فى مونيخ الى سنة 1919 اذ تقاعد بعدها . وكان قد سمى فى السنة السابقة لتقاعده استاذا شرفيا للتربية فى جامعة مونيخ فبقى فى هذا المنصب ووجد الفرصة سانحة لدرس فلسفة التربية ووضع المجلدات العديدة فيها كما ساهم فى الحياة السياسية والمدنية وقد توفي في سنة 1932 .

وربما كان أهم ما أثار الجدل حول منهجه هو دعوته الى التخصص فى العمل بدل الثقافة الاكاديمية العامة التى يتمسك بها أصحاب المدرسة التقليدية فى التربية . وفى الحقيقة ان المجتمع الحديث يشكو من المدرسة التقليدية التى تخرج شبانا لا صناعة لديهم سوى صناعة الالفاظ والنظريات يهربون من الاعمال التى تتطلب استعمال اليد ويتكلمون أكثر مما يفعلون . ولذلك فهم قد لا يحسنون الانتاج كما قد تكون سيطرتهم على النفس ضعيفة . هذا وان التطرف فى الاختصاص فى المهنة ليس ضروريا اذ يستطيع الشاب الذي يحسن استعمال يده وفكره معا الانتقال من عمل الى آخر فيما اذا اقتضى الامر بظهور مخترعات جديدة مثلا . والعمل الصناعى أو الزراعى أو التجارى أو البيتى يمكن أن يكون مثقفا إذا رافقه اتساع الافق ورؤية العلاقات بين ما يعلمه المرء وحاجة المجتمع للبقاء والازدهار بحيث يجد العامل لعمله تقديرا وقيمة اجتماعية معترفا بها مهما كان نوع عمله . فالعمل قد يثقف ثقافة ذهنية وقد يهذب الاخلاق اكثر مما تفعل الكتب والمحاضرات التى لا صلة لها بالحياة . وهنا أيضا نجد تقاربا وتلاقيا فى النظرة التربوية بين كرشنشتاينر وجون ديوى . وفى الحقيقة ان كرشنشتاينر يمكن أن يعتبر فى مقدمة المربين المجددين الذين جمعوا بين القول والعمل وقدموا العمل على القول . وهذا من مزايا التربية الالمانية الكبرى فان الطالب فى ألمانية يدخل المعمل ويمارس العمل أولا ثم يدرس النظريات المتعلقة بعمله وهو عكس الاسلوب المتبع عادة فى انكلترا وفرنسا حيث تسبق النظريات العمليات . وهذا ما اكتشفته يوم كنت أتولى شؤون التربية والتعليم فى العراق فبعد أن زرت مدارس ألمانية سنة 1938 ذهب لزيارة مدارس فى بريطانيا ثم فى فرنسا .

وفي حفلة شاى أقامها رئيس مجلس المعارف البريطانى على شرفى آنذاك سألنى هل ما تزال تشهد بأن التعليم التقنى فى ألمانية هو أفضل منه فى بريطانية اجبته نعم يا سيدى . وهنا من الانصاف أن أقول أن بريطانية قد وثبت وثبات عظيمة فى حقل التربية عامة وحقل التربية المهنية والتقنية خاصة منذ الحرب الحرب العالمية الثانية الى يومنا هذا وقد يصدق القول ذاته على فرنسا

الآن نعود الى البلاد النامية ( وهو ما يدعوها البعض بالعالم الثالث ) ومعظمها بلاد قد استقلت سياسيا حديثا وان لم يتحقق استقلالها التربوى بعد فلو سئلنا ما الذى نستفيده نحن أبناء البلاد النامية من درسنا لحياة كرشنشتاينر وآرائه فى التربية لأجبت بايجاز كلى :

لا شك فى أننا نتفق معه تماما بأن أهداف التربية لا يمكن ان تستورد من الخارج ولا يمكن ان تفرض من الخارج ولذلك وجب ان نحذر تقليد النظم والمناهج الغربية تقليدا سطحيا ولا سيما فيما يتعلق بلغتنا وتاريخنا وآدابنا وديننا ثم ان المناهج الابتدائية عندنا تحتاج الى تحوير أساسى بحيث تبنى على فعالية  الطفل واحتياجاته فى محيطه . فهى تحتاج الى ان تصبح مناهج أفعال حياتيه يساهم فى القيام بها الطفل أكثر من أن تكون مناهج لفظية وحفظية . ولكن المشكلة العظمى التى تجابهها البلاد النامية هى فى توجيه الناشئة بعد المرحلة الابتدائية . فالكثيرون من أبناء البلاد النامية يريدون الفرار من العمل المنتج بعد الدراسة الابتدائية . والمدرسة الابتدائية لم تحبب اليهم العمل . والمجتمع بمنح الامتياز والحظوة للتربية النظرية الاكاديمية . فهنا تحتاج النامية الى مربين من أمثال كرشنشتاينر يحدثون ثورة تربوية . ثورة فى القيم الاجتماعية وثورة فى المناهج والاساليب التربوية . بحيث تكثر المدارس المهنية والحرفية وبحيث تدخل الاعمال الانتاجية الى صلب المناهج في المدارس الاكاديمية من الابتدائية فصاعدا . فلا يخرج شاب مهما كان اختصاصة من دون أن يحسن استعمال فكره ويده معا ذلك مع التأكيد على التربية المدنية والاخلاق الفاضلة المؤسسة على العقيدة الدينية الصافية .

هذه لمحة وجيزة وسريعة عن كريشنشتاينر وآرائه التربوية أرجو أن تحمل البعض منكم على تعلم اللغة الالمانية ليتوغل فى درس آراء كرشنشاينر من منابعها الاصلية ويعمل على نقلها الى لغتنا العربية المحبوبة ( * ) .

اشترك في نشرتنا البريدية