وكم أرسل رسلا الى امم قص علينا سير بعضهم ، ولم يقصص بعضا ، فمن آمن منهم برسله فاز ونجا ، ومن كفر اخذه أخذة واحدة ، قال تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون ( وقد كان الانبياء فى عناية ربانية خاصة ، ولما بعث الله خاتمهم سيدنا محمد " صلى الله عليه وسلم تعاقد كفار قريش على قتله فامره الله أن يخرج هو وابو بكر اول الليل الى الغار ، وهو ثقب عظيم في جبل ثور على مسيرة ساعة من مكة وأمر النبى صلى الله عليه وسلم ، عليا أن يضطجع فى فراشه ، ليمنعهم السواد من طلبه حتى يبلغ هو وصاحبه الى ما امره الله به ، فلما وصلا الى الغار ، دخل ابو بكر اولا يتحسس ما . فيه ، فقال له النبي : مالك ؟ فقال : بابي انت وأمي ، الغيران مأوي السباع والهوام . فان كان فيه شئ كان بى لا بك . وكان فى الغار جحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج منه ما يؤذي رسول الله . وطلب المشركون الاثر واقتربوا من فم الغار . فبكي الصديق خوفا على الرسول . وقال له : ان نصب اليوم ذهب دين الله ! فقال علي السلام لا تحزن ان الله معنا . فقال ابو بكر : ان الله لمعنا ؟ فقال الرسول : نعم فجعل يمسح الدموع على خده . ولما صعد المشركون فوق الغارة قال رسول الله : اللهم اعم ابصارهم . فصاروا يترددون حول الغار ولا يرون احدا : ) ان لا تنصروه فقد نصره الله اذ اخرجه الذين كفروا ثانى اثنين اذ هما فى الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فانزل الله سكينته عليه وايده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ، ثم قدم ) رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ومن معه
في اول برج الميزان من تلك السنه الى المدينة ، الى هذه البلدة فآواهم أهلها ثم التحق به المؤمنون من مكة ، واجتمع جند الله : المهاجرون والانصار ، لأعلاء كلمة الله فانهم حزب الله ، ووقعت غزوة بدر فنصرهم ربهم بملائكة من السماء ، وجاهدوا من بعدها في الله حق جهاده ، وشاهدوا باعينهم ؛ وايقنوا بقلوبهم ان كلمة الله هي العليا ؛ وجعلهم حزبه ، ليمن عليهم ، فانه غنى عن العالمين ، غنى عن الجنود ، غنى عن الحزب ، بل الارض جميعا قبضته ، ولولا فضله لما ارتد الاعداء يوم احد ، ولما انهزم الاحزاب يوم الاحزاب يوم اجتمعوا واجمعوا امرهم لاستئصال المسلمين ولولا نصره العزيز لما فتحت مكة بدون تضحية الوف من جيش المسلمين ولولا تاييده لما دخلوها دخول الظافرين امنين . بالأمس كانت قريش تستسهل قتل الرسول ، لانه كان رجلا واحدا ، واليوم اصبحوا عتقاءه ، وحطم آلهتهم وهم ينظرون ، وكذلك لولا نعمة الله على حزبه المتقين لما دفع الشر عنهم يوم حنين . الا ان كلمة الله هي العليا
وبعد فلو كانت الشمس تعلو دائما فى فلك غير متناه ، لقلت من طريق التقريب ، لا من طريق التمثيل والتشبيه ، فلله المثل الاعلى : ان كلمة الله كالشمس فكما تتسامى كلمة الله وشهدها من مضى من الأمم السالفين ، كذلك انزل الله على رسولنا المصطفى كلمة خالدة ، ليشهد علوها ويستيقن بسموها من يحيى على هذه الارض ، وتلك هي هذا القران المجيد ، نور المؤمنين ؛ وما قدروه حق قدره ، ولقد اعترفوا بالعجز عن الاحاطة بناموس اسراره ، ولقد شمر المستشرقون الاوروبيون عن ساعد البحث والتنقيب لينالوا شيئا ينافى قدسيته وعلوه ، فرجعوا خائبين وولوا مندحرين ، وعلموا انه من عند الله وانه لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فالقران كما هو معجزة من ناحية الفصاحة والبلاغة اللتين اعجزتا فصحاء العرب ومصاقعهم ، كذلك هو معجزة من جهات اخرى ، لا يمكن لأنسان ، الاحاطة بها ، وان يكن من اكبر العلماء ، واحذق الفلاسفة ، وأعظم المؤرخين ، وادهي السياسيين ، فانه اذا تامل فيه نقدة الكلام وصيارفة الفكر ، وتدبروا اساليبه ومحتوياته ، تجلى لهم ان هذا القران قد امتاز بخواص جليلة ، وصفات نبيلة ، لا يمكن اجتماعها فى كلام مجموع ، مهما تأنق فيه واضعه ومهما اتسع اطلاعه على اخبار
الماضي وحوادث الحاضر ومخبآت المستقبل ومهما درس ، احوال الامم فى شؤونها اجمع ، ومهما احاط بالفنون والاداب والحكم والسياسات ، ومهما تحرى فى عدم المناقضة والتضارب والاختلاف ، ومهما دقق في اختيار اعلى الاساليب واروعها اللهم الا ان يكون هذا القائل هو الله سبحانه وتعالى القادر على ذلك كله .
اننا نجد هذا القرآن يخبر عن غيوب مستقبلة ، وتجيء طبق أخباره ، كوعده المسلمين بدخول مكة آمنين ، وأخباره بغلبة الروم في أدنى الارض ، فجاء الامران طبق مابه نوه كما نجده يقص علينا أخبار الأولين وسير المتقدمين كما هى ، حكاية من شاهدها وخبرها كما رأيناه يخبر عن ما يستكن فى الضمائر من غير ان يبديه اصحابه بقول أو فعل ، كما يعلم من حوادث حصلت لبعض أصحاب النبى ولبعض اعدائه ، وهو مع اتساع مجاله فى كل فن من اخبار واحكام ومواعظ وامثال وأخلاق اداب وترغيب وترهيب ومدح الاخيار وذم الفجار ، والدعوة إلى اعتناق مكارم الاخلاق ، وانتباذ مساوئها ؛ واقامة البراهين على وجود الباري جل وعلاو وحدانيته ، وعلى الحشر والنشر ، ووصف دار التعليم والتشويق اليها ، ونعت والجحيم التنفير منها ببيان اهوالها الى وصف عالم السموات ، وتبيان ما في العالم العلوي من الآيات الدالة على عظمة الخالق وقدرته ، من كواكب سيارة وغير سيارة ، وسحب مبروق ورعود ، إلى وصف الارض وجبالها ، ووديانها وآكامها ، وبراريها وبحارها وينابيعها وأنهارها وما اشتملت عليه من معادن ونباتات ، ومادب عليها من وحيوانات ، وما يغشاها من ظلمات وانوار ورياح ، فلم يبق القرآن علما من علوم الأوائل والاواخر الا صرح به أو اشار اليه فى أساليب شائقة منوعة ، وطرائق مبتدعة ، ولم يقع فيه تناقض ولم يتخلله تعارض ، وخلا من جميع العيوب ، واعتلا باسلوبه ومعناه عن كل اسلوب ، فليس له مثال احتذاه ، ولا امام قلده ، وليس هو من القصائد العربية ولا من الخطب البدوية ، ومع ذلك تراه مستحسنا فى العقول النيرة ، ولقد فتح الله به آذانا صما وقلوبا عميا ، وقصارى القول : ان كلمة الله هي العليا ؛ صدق الله العظيم .
