ماجدة يا حبيبتى
لم أصبر حتى ترتاحى وتكتب لنا بسلامة الوصول وحسن الظروف ، وها انذا أخط اليك هذه الكلمات فى اليوم الاول من فراقك ودعتك في المطار وعدت مع الاولاد الى البيت كئيبا منشطرا كأنني نصف انسان يمشى على الارض . . لم أدر أنك مهمة بهذا القدر فى وجودى وكيانى الا عندما طارت بك الطائرة . . أجهشت وفاضت منى المدامع كأننى لم ابك قط فى حياتى ولولا النظارة السميكة التى كانت على عينى والتخفي الذي حاولته لغدوت أشبه بطفل صغير أخرس يفارق امه لاول مرة فيبكى بحرقة ولا يقدر على ان يقول شيئا .
عدت مع حسن ونعيمة وجلال ورابعة الى البيت صامتين لم نتكلم طول الطريق كلمة واحدة وبالرغم من انه نظيف مرتب والطعام جاهز وغرفة الاولاد لا ينقصها شىء أحسست بأن غيابك يحملني أعباء كنت خالى البال منها ورأيت الاسئلة الحائرة ترتسم على محيا تفيدة اختى وهى تراني أدقق وأتفقد كل صغيرة وكبيرة فى شؤون الاولاد والبيت .
عزيزتى ماجدة
منذ تزوجنا من عشر سنين لم نفترق يوما واحدا ولم آو الى فراشى دون ان تكونى قد سبقتني اليه وملأت غرفة نومنا بعطورك ونورك ومباهجك وحكاياك الصغيرة التى توشوشين بها فى اذنى قبل أن أغفو كأنها الهددة التى لابد منها لطفل طائش صغير .
آه ما اشبه الرجال السعداء الاطفال !
كيف يا حبستي سأنام الليلة وحيدا وكيف سأنام كل ليلة الى ان تعودي بالسلامة غانمة ظافرة محققة كل ما تركتنا من أجله حافظي على صحتك ولا تنشغلى بنا وتسلى مع رفيقاتك واهتمى بعملك وعودي لنا فى أول يوم من العطلة فالقاهرة ستتزين لاستقبالك ...ان الحنين عندنا قد ولد وسيترعرع ويكبر فاروبه لنا باخبارك واذكرينا فى صلواتك ودعواتك تصبحين على خير يا حبيبتى الغالية يا أم أولادى ويا نور عيني ورفيقة دربى . يا رب أعني على الصبر فلولا غلاء المعيشة وطلبات الاولاد الكثيرة وضخامة الاحلام والاجور القليلة لما شطرت نفسي شطرين وبقيت هائما على وجهى .
ماجدة يا زوجتى الصغيرة لا تتأثرى بكلامي هذا ولا تذرفي دمعة واحدة فنحن بالف خبر ولكنك تعرفين أننى شاعر وانك صنو روحى ملهمتى الدائمة فى الحضور والغياب والى اللقاء زوجك حسنين .
ماما يا حبيبتى
نحاول جميعا ان نجعل الحياة فى البيت عادية كما كانت بحضورك واشرافك ولكن لا شئ له طعم ، نومنا بأحلام مزعجة وطعامنا غير مستساغ وافكارنا معك لا مع الدروس ولا مع الالعاب ولا مع الرفاق . لم نتخاصم أنا واخوتى منذ سافرت أعطيت كل لعبى لجلال أخي ألست الأكبر والاعقل ليس لى وقت للعب فانا غدوت مسؤولة من بعدك . كل نصائحك نصب عيني . .. انا ونعيمة نعاون العمة تفيدة ونرتب كل شئ ونحرص على نظافة حسن وجلال وكذلك الطعام والنوم ماما تجدين صحبة رسالتى هذه قائمة طويلة بالاشياء التى نسينا ان نطلبها منك اذكريها قبل العودة ولا تنسى منها شيئا .. بابا يقول ان مرتبك سيكون ضخما وان غربتك لها ثمن وابتعادك عنا سيعود علينا جميعا بالنفع . . هل صحيح يا ماما انك ستعودين لنا بسيارة فارهة وملابس فاخرة ولعب كثيرة وحلويات غريبة الطعم والشكل ؟ وهل صحيح اننا سننتقل من شقتنا الصغيرة فى باب السوق الشعبى لنسكن شقة فاخرة على النيل فى الزمالك أو فى الدقي أو فى مصر الجديدة ؟
انا يا ماما احلم بكل هذه الأشياء ولكن غيابك صعب صعب جدا . . لم أكن ادرى قيمة القبلات التى نتبادلها يوميا الا عندما فقدتها ولم أكن ادرى قيمة العناق واللمسات الرقيقة والكلام الحلو الذي كنت أسمعه منك يوميا انا
واخوتى الا عندما فقدناه وحتى صراخك أحيانا افتقدناه واشتهيناه . . يا ماما يا ماما يا ماما أصعب شىء عندى واقسى شىء على فى الوقت الحاضر هو أن اتخيل انك ستقضين السنوات بعيدة عنا . . لن تكفينا العطلة لنشبع منك . اه يا ربي انا لا استطيع استيعاب شئ من دروسى وأحس بالصداع المتواصل من كثرة التفكير فيك والعجيب يا ماما ان حالى هو تماما حال اخوتى وابى كل على طريقته . . لكن رجاء يا ماما ان لا تنزعجى فربما نتعود على فراقك وتسير الحياة بنا من دونك اهتمى بنفسك يا ماما ... اعملي واكسبى وتسلى مع رفيقاتك حافظى على صحتك واطمئني علينا فنحن بألف خير ولكنني وعدتك بالصراحة فى كل رسالة أكتبها .
الى اللقاء يا أحلى ماما .
ما الذى يحدث يا جماعة
الا تلاحظون ان الحرارة مرتفعة عن اللزوم وان الرطوبة ستخنقنا .. انا اختنقت يا جماعة فمتى ستخننقون !
أين الاشجار والنوار أين العصافير أحب أن أرى عصفورا واحدا فى السماء . ولكن أين هى السماء أنا لا أراها وأين هو البحر ولماذا تموت الاسماك قبل أن تخرج منه ما رأيكم فى فسحة اليوم زرنا سجونا تسمى قصورا وفيافى تسمى منازة وملاعب ...اشترينا أشياء كثيرة بأسعار غير حقيقية ومن أماكن غير حقيقية وبتعب كبير وكدنا نضيع فى قمة الزحمة وتدهسنا العربات الغريبة الاشكال والاحجام .. على فكرة لماذا لم نعد نفغر أفواهنا وندق صدورنا لاى مظهر من مظاهر الثراء اللامحدود . . لماذا لم تعد تخلب البابنا واجهات الذهب البراق والطيارات والبواخر الخصوصية هل هو التعود أم هي راحة اليأس ..هل يحدث لكم من الداخل ما يحدث لى أم انكم ألغيتم أحاسيسكم وجعلتم ماضيكم فى إجازة أراكم تقهقهون على عادل امام وهو يضحكم فى شاهد ما شافش حاجة ..أضحكوا انسوا تناسوا ... آه نسيتم ان تفتحوا المكيف ا نا سأفتحه لاننى بدونه سأموت .
ليس هناك نسمة هواء واحدة أتنفسها . . يا جارتى لا تقولى لى كفى عن بلع الحبوب المسكنة . . أنا اتألم من الداخل اتمزق اتعذب . . لعل الحبوب تسكن آلامى وتهدئ اعصابى وتجلب لى النوم الذى حرمته منذ ثلاثة اسابيع .. يا إلهى ما أطول الوقت ! اليوم عندى بسنة هل سأبقى مئات السنين دون
أن أرى أولادى ؟ هل أعود لهم عجوزا صماء عمياء وأجدهم كبارا متزوجين ومنجبين ؟ يخيل الى أن ذلك سيحدث فالوقت طويل طويل جدا وهل ستنفعهم أموالى المأمولة أكثر مما ينفعهم حضورى الفعلى ؟ لم أكن أتصور انه سيحدث لي مثل هذا التيه والابحار الى الوراء ( ازيك يا جلجل ، وانت يانعنع ، يا حبيبي يا حسونة ، عاملة ايه يا رابعة ازاي صحتكم ودروسكم عاملين ايه فى بابا والعمة تفيدة). . لا تقولي يا جارتى كفى عن بلع الحبوب المهدئة . . انا لا يمكن ان أهدأ من تلقاء نفسي . . انا تعودت . . تعودت على أشياء حلوة كثيرة . . انا يا ناس كنت فقيرة وسعيدة ولا اريد ان اصير ميسورة وشقية .
منذ عشر سنين لم أنم ليلة واحدة وحيدة حسنين يوسدنى ذراعه يقطع ثرثرتي بقبلاته يسقيني ويفعمني حبا وبعدها أنام . . فكيف تتخيلوننى انام من تلقاء نفسي ووحيدة ولمدة سنوات ارحموني انا اتعذب . . هذه التضحية اكبر منى انا لا اعيش معكم انا فى بلدى روحى مع اولادى فكرى مع اولادى . .. ماذا تصنعون بهيكل لاروح فيه ولافكر ماذا تستفيدون منى يا ناس ) خلوني اسافر على بلدى مين عارف الاقى زوجى عامل ايه يا ترى حايستنانى وألا حايدور له على واحدة ثانية .. اواه ما ابشع هذه الفكرة .(!
- لماذا تصرخ ماجدة ؟ - لماذا تشرب الحبوب المهدئة للاعصاب باستمرار ؟ - دموعها لا تتوقف ! - عيونها محمرة دامعة منتفخة ! - انها تستحق الرثاء ! - تنتابها حالات غريبة ! - لنتعاون على تهدئتها لنعلمها الصبر فهي تغادر بلدها واحبابها لاول مرة. - ستتعود على الغربة مثلما تعودنا . - ذكروها بان الاجور هنا أضعاف أضعاف مما هى هناك . - ذكروها بانها بالصبر والعمل ستحسن احوالها . - ذكروها انها ستشترى سيارة ومنزلا فى سنوات قليلة .
- ذكروها ان الآلاف من النساء والرجال يفعلون ذلك فى جميع انحاء الدنيا يضيعون الاهل والحب والحنان والاستقرار ليجوبوا الشرق والغرب بحثا عن المارك والدولار .
- صبروها.. صبروها امنعوها من بلع الحبوب فانها ستودي بها . - لماذا أتت من القاهرة هل هي مجبورة ؟ - هل وراء انفعالاتها قصة ؟ - قولوا لها فتحى عيونك التى أغمضتها عن مباهج البلد وكرم الضيافة ومحاسن الاقامة والمعيشة .
ولكن ماجدة تبكى ولا تجيب بالعبارات بل بالعبرات ولسان حالها يقول :
" انا قصتى واضحة هى اننى احب زوجي واحب اولادي وسعيدة معهم راضية بحالى وليست لى أحلام اكثر من أنشئ أولادى على يدى أرعاهم أربيهم أسليهم أقيس نموهم كل يوم طولا ووزنا لكن الناس تدخلوا فى شؤونى لفتوا أنظار زوجي الى غلاء المعيشة والاجور القليلة قالوا له : انظر الى فلان معه سيارة كبيرة وفلان انتقل الى شقة فاخرة والآخر حقق مستقبل اولاده ببعث مشروع ، والكل هاجروا وتغربوا وصبروا وفي الاخير وصلوا . . فلان يعيش بعيدا عن زوجته واولاده تسع سنين وفلانة تجتاز عامها السادس خارج الوطن تاركة الزوج والاولاد والاخرى طلقت لهذه الغاية والآخر هجر وطلق وتزوج فى الخارج من غير دينه وملته والاولاد فى المدارس الداخلية وحتى فى ملاجئ الايتام والكل يجرون نحو الاحسن والافضل فالعصر عصر الفيديو والتلفاز الملون والسيارة الضخمة والمسكن المريح فداء كل ذلك الاهل والاحباب والبعد عن الوطن والاولاد وقرر زوجي ان نقدم المطالب نرجو ونلح على قبولنا للعمل فى الخارج وقال لى اسمعي يا ماجدة الهجرة لابد منها باي شكل وباي لون . . أولادنا أربعة والتطور لا يرحم وستدوسنا الارجل ان لم نسابق الزمن .. امهلى قلبك وعواطفك وانسى الحب والحنان والالف والاستقرار بضع سنوات ثم نولد أشخاصا آخرين ونلتحق بطبقة أخرى طبقة الاغنياء الموسرين ..
- أسافر وحدى .؟ - سافرى وحدك . - نسافر معا ؟ - لا يهم وفي كل الحالات الاولاد برعاية تفيدة اختى والخادمة سعدية
- هل بدت منها تصرفات غريبة قبل اليوم ؟ - لماذا هددت بذبح ميرفت هل كانت تمزح ؟ !
الحمد لله نجح الاطباء فى غسل المعدة وتهدئة الخواطر وعادت ماجدة تتنفس وتتكلم وصارت قادرة على البكاء والضحك والتعبير .
لكنها مصرة على اختيار العودة كحل لقضيتها .
وكانت فرصة البقاء موجودة وهي فرصة تحسد عليها ولكنها اختارت الفقر مع السعادة ورفضت اليسر مع الوحدة والغربة ، وقرر الطبيب النفسى : أن دواءها وشفاءها فى أن تستنشق هواء بلادها وترى ربوع وطنها وتحضن زوجها واولادها .
مر أسبوع قبل ان تتهيأ الاسباب لسفر ماجدة كانت محل عناية ورقابة من الجميع . . الكل يسلونها ويطيبون خواطرها ولا يحدثونها الا عن العودة والذكريات القديمة ومصر الجميلة أم الدنيا حبيبة الكل وان تحدثوا فى غير ذلك اكفهرت وجحظت عيناها وقامت منتصبة القامة رافعة الرأس شاخصة البصر تكلم نفسها كمن يمشى ويتصرف وهو نائم .
شغلتنا ماجدة واثارت في الجميع مختلف الاحاسيس والانفعالات والذكريات والخواطر والاختيارات وودعناها بالسلامة ودعونا لها بكل خير وأكدنا عليها فى ان تبرق لنا حال وصولها .
وبعد أيام جاءتنا من ماجدة برقية تقول فيها وصلت سالمة وشربت من ماء النيل وشفيت ولكنني مع محبتى للحب والالف والهناء ليس فى البيت الا الاولاد ليمنحوني ذلك أما حسنين زوجى فلم يفرح بعودتي وبذل مجهودا زائدا ليتحصل على اعارة عمل للخارج وتم له ذلك وأمام معارضتى سافر دون أن يودع أحدا وهدد بان لا يعود الا بعد ان يحقق احلامه ومن يدرى لعله ينفذ تهديده .
الظاهر ان الغربة صارت قدرى سواء كنت داخل الوطن أو خارجه .
شكرا لكم على كل ما أحسستموه من أجلى والله يساعدكم ويساعدني فكلنا غرباء .
الكويت
أحوالهم ستكون طبيعية ... وكرر حسنين كلامه طيلة شهور حتى اقتنعت واغتنمت اول فرصة وهاجرت تحدوني آمال عراض ويلفني صبر مزيف ولكن ارض الواقع كانت صلبة وارتطمت بها واكتشفت أنى ضعيفة وان السعادة لا تشترى بالمال وان ظروف غيرى ليست كظروفى فسميرة هربت من زوجها لانه كان قاسى القلب يعذبها وسهيلة مطلقة من زمان وتعقدت من الزواج والهجرة لها دواء وتغيير وتهانى فرصتها كانت سوية مع زوجها وليس لهما اولاد ورجاء أولادها كبروا ودخلوا الجامعات وهناء ودنيا هربتا من المذابح الصهيونية .
أما أنا يا ربي حساسة زيادة عن اللزوم وعاشقة اكثر من اللزوم وأليفة الى حد أن أفقد النوم والراحة والطعام ان لم أشبع يوميا بالقبل من طرف أولادي وأبيهم لا تعول على يا حسنين فى غير ان اكون زوجة وأما كملة ، أما الغربة والتعب والجرى وراء المارك والدولار فليس ذلك من اختصاصي . . عائدة انا يا حسنين سأهرب ان لم يسفروني سأنتحر ان لم يهتموا بى سأرتكب جريمة ان لم يعفوني سأذبح ميرفت انها طرية ناعمة وديعة حالمة لا تصلح الا للذبح .. آه هذه آخر حبة عندى لتهدئة الاعصاب سأشربها لعلى أرتاح وانام وأحلم احلاما جميلة بحسنين وعيالي الصغيرين .
ماجدة انتحرت جثتها مرمية على الارض فى قاعة التلفزيون ، ، لا أحد يلمس الجثة كثر الصراخ والهرج والمرج فى سكن الموظفات المعارات . رنت اجراس الخطر واجراس التلفونات . صرخت السيدات والآنسات من النوافذ والابواب باكيات نادبات مستنجدات .
عوت سيارة الاسعاف وافسحت لها العربات الطريق . أخذت ماجدة على جناح السرعة الى المستشفى وحملت سيارة الشرطة ما وسعها من الزميلات الحاضرات وانقلبت السهرة الحلوة الى دموع وخوف واسف وكثير من السينات والجسيمات .
- ماذا تعرفون عن ماجدة ؟ - هل تخاصمت مع احد ؟ - هل جاءتها رسائل ؟ - لماذا لم تمنعوها من شرب كل الحبوب ؟ - هل هددت بالانتحار ؟
