حضرات الزملاء الكرام (*) أيها الأخوات والاخوة ، انى تأثرت لتنظيم اتحاد الكتاب التونسيين لهذا الحفل الأخوي وتاثرت لكلمة صديقى الاستاذ محمد العروسي المطوى وبما جادت به قريحة بعض الاخوان . ولا أجد للرد على كل ما سمعت الا كلمة وجيزة قصيرة تتمثل فى الشكر والتعبير عن الاعتزاز لهذا الاكرام ولهذه العواطف الصادقة ولحضوركم بهذا العدد وهذا المستوى .
انكم اردتم بهذا الحضور ان تعبروا عن عواطفكم الأخوية وعرفانكم لواحد منكم كان له شرف تأسيس الاتحاد منذ عشرة أعوام بمعية تسعة من الاخوان الآخرين أكثرهم موجود فى هذه القاعة وبعضهم غائب ، الا اني أوكد أن فضلهم واحد ، وانهم بذلوا نفس المجهود .
وانى استطيع ان اقول انه بعد عشرة اعوام امكن للاتحاد ان يفرض نفسه وان يصبح مؤسسة قومية باتم معنى الكلمة ولو ان عددا من الكتاب لا يزالون ، وهذا طبيعي ، يعتقدون انه لم يحقق كل ما كان يصبو اليه الكتاب .
وان هيئات الاتحاد المتعاقبة لم تدع ذلك ابدا بل نحن جميعا لم نزل نردد اننا ما زلنا في الخطوات الاولى ، وان الرسالة صعبة لأسباب كثيرة طالما تشرفت ببسطها امامكم وتفهمتموها .
وكان بودى منذ اشهر ان اعتذر عن رئاسة الاتحاد وقد عبرت عن هذا مرات كثيرة ولكنكم أبيتم ، مشكورين ، فى شهر ديسمبر الفارط الا ان تنتخبونى رئيسا بالاجماع ، وهذا تشجيع منكم واعتراف باننى بذلت قصارى الجهد لأكون معكم فى خدمة الأدب بهذه الديار . ولكن المسؤوليات الجديدة التى شرفني المجاهد الاكبر الرئيس الحبيب بورقيبة بالقائها على كتفى تجعلني ، وجعلتني بعد ، اتوجه اليكم والى هيئتكم المحترمة برسالة اجدد لكم فيها الشكر ، واعلن فيها عن انسحابي كرئيس للاتحاد مع بقائي عضوا عاملا ، له ما لكل عضو فى الاتحاد من حقوق وعليه ما على كل عضو من واجبات .
ولست بحاجة الى ان اؤكد لكم انني سابقى فى موضع المسؤولية التى انا فيها الآن دائما معكم ، وساسعي الى نصرة قضايا الثقافة وقضايا الأدب ، والي المساهمة مع كتاب تونس في رفع منزلة الكتابة فى بلادنا ، وتوفير مناخ ارحب وافسح واكثر عفوية حتى يتشجع الخلاقون وينتجوا .
وانه كذلك لواجب علينا جميعا ان نسعى الى تطوير بعض الهياكل ومقاومة كل مظاهر الروتينية فى العقول وفي الادارة وخاصة فى العقول حتى يسلم الكل بان الكتابة فى اى قطر من الاقطار وظيفة سامية وانه لا يمكن لاى بلاد ان تزدهر ولا ان يرتفع مستواها ولا ان تحقق مناعتها من دون ان تكون واجهة الأدب فيها قوية منيعة ومن دون اشعاع ادبي واشعاع فكرى فاشعاع حضارى وهذا بالضبط ما لا يزال السيد الرئيس المجاهد الاكبر الحبيب بورقيبة يدعو اليه ويحث المسؤولين عليه ، وهذا ما يجب ان نتعاون من أجله .
وكل ما استطيع ان اوصيكم به ، واقصد بكلامي هذا اعضاء الاتحاد بالخصوص ، هو ان تعتصموا بحبل الاتحاد وتميزوا الأرضية المشتركة التى تجمع بينكم وتتركوا جانبا ما قد يفرق بينكم من اعتبارات جمالية أو ايديولوجية وأن تكتلوا جهودكم حتى تنجحوا وتصبح لكم منزلة ممتازة فى المجتمع ، ولا يمكن ابدا ان تزدهر سوق الفكر والثقافة اذا لم يع المثقفون والادباء رسالتهم
واذا هم لم يسلكوا سلوك المترشدين لا سلوك المدللين وان ينهضوا بانفسهم وبواجبهم .
وهذا يستدعي التحلى بصفات اخلاقية ونفسية وفكرية والكثير منكم ان لم اقل كلكم أقاموا الدليل على انهم يتحلون بهذه الصفات وأولادها الثقة فى النفس والاعتماد على الذات ثم الثبات ومضاء العزيمة وتجشم الاتعاب وحتى المكروه فى سبيل ما تؤمنون به وخاصة تحمل مسؤولية ما تكتبونه .
وقد تفضل منذ حين الأخ الفاضل العروسي المطوى بالاشارة الى مجلة الفكر التى تشرفت بتاسيسها منذ ربع قرن وهي مثال الصمود وتحمل المسؤولية وطول النفس والايمان بالذات الذى هو فرع من الأيمان بالوطن والحضارة القومية وهذا كله هو عين الصمود امام كل المتشككين والمتضاحكين والقاعدين والقاصرين والمنتظرين دائما نهاية المشاريع القومية التى ينهض بها بعض التونسيين المخلصين .
هى اذن 25 سنة من النضال والكفاح والصمود وليس الفضل فى ذلك كله للمدير المؤسس لمجلة الفكر بل الفضل فى ذلك يرجع الى رئيس التحرير الأخ البشير بن سلامة والى كل من ساهم فى المجلة من كتاب وشعراء وكل من تحمس لها واعانها لأن مجلة الفكر مشروع قومى ومجلة تونسية عربية قومية .
وان كل كاتب يستطيع فى خلقه وابداعه واقدامه على محنة الأدب وامتحان النشر والتوزيع ان يكون مترشدا وان يصمد ويكافح ويقيم الدليل على انه قادر على تسفيه اليأس والقنوط والتخلص من الشك القاتل الذي هو فى بعض الاحيان يفعل فعل الحامض لتهرية العزائم ولهذا لا ازال ادعو اخوانى وزملائي الأدباء الى رباطة الجاش والثقة بالنفس والأيمان بالوطن وانه اذا تم هذا فقد سهلت كل المشاكل ، وكانى بهذه الكلمة تاتي بمثابة الوصية لأننى أغادر مباشرة مسؤولية رئاسة اتحاد الكتاب وانى أشفق على نفسي أن لا تتاح لى فرص كثيرة فى المستقبل للاجتماع بكم فى الجلسات العامة وفي الندوات كعادتى من قبل ، فكم أود أن أذكر بهذه التوصيات للتعبير عن التضامن والمحبة اللذين يربطاننا ويجعلاننا كتلة واحدة وعائلة واحدة ، مصيرنا واحد ونجاحنا واحد وفشلنا لا قدر الله واحد .
ولكننا سننتصر لأن الله قدر لهذه البلاد ان يكون لها شأن وتكون لها منزلة وترفع فيها ألوية الأدب والفكر والابداع وحرية الخلق ، ذلك ان الشعوب انما تبقى وتصمد باشعاعها الحضاري لا باي اعتبار آخر .
واتخلص الآن الى معنى أخر يتعلق باضطلاعى بمسؤولية الوزارة الاولى والحديث عن العلاقة بين الادب والسياسة فأقول : ان حظ تونس هو ان رئيسها ومحررها وبانى دولتها مثقف واديب ومفكر وان اطاراتها السياسية ليسوا اميين بل هم مثقفون والثقافة لها مجالات وميادين واختصاصات وربما الذي قد يميز بين الزملاء في الحكم هو ان البعض انصرف بكليته لتنفيذ وتطبيق أفكاره ورؤيته الحضارية وقيمه الثقافية فى الواقع فى الميدان الذي هو من اختصاصه ، بينما وجد البعض الآخر فسحة من الوقت للكتابة أو للعناية المباشرة بالأدب ولو استقريتم احوال رجال السياسية وفي مقدمتهم انتاج المجاهد الأكبر وخطبه ورسائله لادركتم أن حظ تونس يتمثل فى ان شؤونها يسيرها مثقفون بينما المأساة بالنسبة الى بعض الاقطار الأخرى هى ان الجهلة والأميين تسلطوا على الحكم فيها . ولا يمكن لبلد ما ان يسير نحو التقدم والازدهار والمناعة الا اذا جمع رجاله الذين اصطفاهم الشعب بين فسحه النظرة الثقافية وعمق التكوين الفكرى والحضارى وبين مضاء العزيمة وطول النفس والقدرة على الحوار والتعامل مع الجماهير .
ذلك ان الثقافة جماهيرية او لا تكون أى أنها مستوحاة من الجماهير وفي خدمة الجماهير ، وحياتنا كما عبرت عن ذلك المرار الكثيرة انما هي تفاوض مستمر وصعب بين الفكر اذ يفكر وبين الرجل الذي يعمل فهو يفكر ويحاول ان ينير الواقع بافكاره ، ويجسم مثله العليا فى الواقع والواقع البشرى او المادى كثيرا ما يكون عصيا ، وانما تتمثل قيمة الرجال فى الفوز في هذا الامتحان العسير .
هذا اذن جوهر القضية ذلك ما عبرت عنه منذ سنوات عندما قابلت بين عبقرية أبى القاسم الشابى الشعرية وبين عبقرية الرئيس الحبيب بورقيبة السياسية فقلت : انهما كليهما آمنا منذ شبابهما بأنه اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر ، ولكن الشاعر الوطني تجلت عبقريته فى انه عبر عن ذلك بالشعر الرائع الموحى بينما السياسى الأديب ضحى بربع قرن من حياته قضاها فى الكفاح وفي السجون والمنافى ليجسم ارادة الشعب فيستجيب القدر وشتان بين ان تكون لك رؤية وان تحب الخير بصفة عامة وبين ان " تثنى ركبتك " كما نقول بالعامية وتتعانق مع الشعب وتقف حياتك بالليل وبالنهار له وتتحمل تبعات عملك مهما كانت حتى تحول تلك الرؤية وذلك الرأى وذاك الحلم شيئا فشيئا الى واقع ملموس ! هذا هو الجدل الموجود بين السياسة والثقافة وأقصد
بالخصوص المثقفين الأصيلين والسياسيين الأصيلين الذين يجمع بينهم مثل اعلى يتمثل في عزيمة خدمة الغير وفي رؤية حضارية ، وطول نفس ، وقدرة على الحوار لارغام المستحيل على الامكان ، لجعل الحلم يتحول الى واقع .
وانما نخوة الأديب هي من فصيلة نخوة السياسي عندما يجاهد ، ويناضل ويتحمل كل تبعات نضاله ، انه بعد سنوات يلاحظ انه استطاع ان يحول الواقع من حال الى حال وان ينهض بالمجتمع من مستوى الى مستوى أعلى ، فتلك نخوته وتلك نكهة الحياة عنده وتلك هي اللذة المعنوية التى لا تعادلها لذة اخرى وهذه هي سعادة الأديب والسياسي .
الرجال الرجال هم الذين يعيشون من أجل المثل الأعلى ومن أجل غاية تتجاوزهم ومن أجل خدمة الغير وانا أهنئ كافة الكتاب وكافة الأدباء بهذه المنزلة وسنعمل جميعا حتى يدرك كل الناس وكل المسؤولين ولا اقصد السياسيين بصفة خاصة بل كل المسؤولين فى كل القطاعات أهمية الثقافة والفكر والأدب .
واني لا اشك في ان الاتحاد سيواصل جهاده حتى يتحمل كل اديب مسؤوليته ويسير فى دربه الى النهاية ، ويعمل لوجه الله ، ولوجه المبدأ فى شجاعة واقدام ورجولة وفي ذلك سعادته بل عظمته كما قلت فى افتتاحية أول عدد صدر للفكر فى اكتوبر 1955
وفي الختام اشكركم على ما اولوتممونيه من ثقة ومحبة وعلى ما اتحتم لي به ان أعيش معكم وأضم جهودى الى جهودكم مدة عشرة اعوام شعرت فيها بكل نخوة واعتزاز وسعادة رغم الصعوبات والاعوجاج . أليس المثقف من يقوم الاعوجاج ؟ .
انها اعوام عشرة من أعز الاعوام ، وانى لأشعر بشئ من الأسف عندما أغادركم ، ولكنى أتسلى عن ذلك بالاعتقاد الذي يغمر صدرى وهو انى لن اغادركم وانى سأبقى معكم وسأظل واحدا منكم .
