الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

لفتة الى قصص سلامه موسى

Share

ليس بين قراء العربية من لا يعرف سلامة موسى المفكر الذي سبق جيله بنصف قرن ، وليس بين كتاب العرب من هو أسهل فى التعريف منه . انه كاتب بمزج الأدب بالعلم ، ولكنه يؤثر العلم على الأدب ، ومع ذلك يعشق الأدب الروسى . . وحسبنا أن نذكر رأيه فيه ، لنرى مدى تأثره بهذا الأدب ، حيث يقول : " ذلك أن القارىء لهذا الأدب يجد هواء جديدا وحنانا جديدا وانسانية جديدة . . "

ويعرف الكثير من قراء العربية أن سلامة موسى له آراء وأحكام للقصة الروسية بصفة خاصة ، هي ذات أهمية كبرى فى عالم النقد . . .

كان مثلا بكره التكلف في الاسلوب ويدعو الى جحد الصناعات البيانية . ومن خلال مؤلفاته التى تقارب الخمسين كتابا ، ندرك تأثره العميق بقراءته لقصص العمالقة أمثال : تولستوى ، وفوركى ، ودستويفسكى وأهرنبورج وغيرهم . . ومن آرائه الشهيرة فى القصة الروسية : " قوله حين يعمد المؤلف الروسي الى البراعة كما يفعل دستويفسكى احيانا ، تنقص قيمة القصة ، ولكنه حين يتناول أشخاصه كما هم ، فى سير الحياة وسرد الحوادث ، على الطبيعة والأصل والنزعة بلا أى مبالاة بالبراعة . . هنا فقط نجد الفن العالى . . "

لعل كل ذلك يعرفه الكثير من قراء سلامة موسى . . ولكن الذى قد لا يعرفه البعض من قرائه . . هو أن سلامة موسى أكثر اتصالا بعالم القصة . . وأن اتصاله بها تخطى قراءتها وتحليلها ، أو التأثر بها إلى كتابة القصة ، ومعالجة الهموم التى تشغل بالله عن طريق هذا الفن . . وأكثر من ذلك فاننا عندما نبحث فى حياة سلامة موسى الثقافية ، نحد أنه كان من أوائل من اهتم بفن القصة . . ففى الصحف

الأولى التى كان يصدرها اعتناء كبير بنشر قصص مترجمة ( 1 ) ومؤلفة ( 2 ) ، وكان يجعلها فى أبرز مكان من هذه الصحف . . ومن الأدلة التى تؤكد لنا أن سلامة موسى من الرواد الأوائل فى الاهتمام بالقصة ، ومن لمشجعين على ازدهارها ، ما كان يفسحه من مجال فى صفحات مجلته الجديدة لنجيب محفوظ ( 3 ) وغيره ممن تفوقوا فى هذا الفن ، وكذلك نجده ينشر قصة يحيى حقى "البسطجى" فى ملحق خاص بعدد من اعداد مجلته . .

كان ذلك في أوائل حياته الأدبية . . وهناك صور أخرى تدل على أن سلامة موسى لم يتعال على كتابة القصة ، ولم ينقطع عنها نهائيا . بل نجده يكتب قصصا تنشرها مجلة " القصة " سنة 1951 . وفي السنوات الاخيرة من حياته كتب قصصا في جريدة " الاخبار " تدل على إدراكه الفنى للقصة -

أما أهم أثر لسلامة موسى فى ميدان القصة (4)  ، فهو يتمثل فى مجموعة قصص جمعت بعد وفاته ( 5 ) ونشرت سنة 1962 فى كتاب بعنوان " افتحوا لها الباب " ويحتوى هذا الكتاب على ثلاثة وعشرين قصة قصيرة ، وهى : قصة غرام ، أعظم المخدرات ، أحسن أم ، لماذا تزوج ؟ ، ذكريات قلب ، خريف + ريع ، طلقت أخي ، غرفة الخادمة ، الحيوان الذي كان انسانا ، ماتت 3 مرات ، تجربة علمية ، والدى العزيز ، لكن الله يرحمه ، العمارة ليست ملكه ، الى المعاش ، صوت الشيخ ، رؤيا ، اختلفوا على الجهاز ، موت

عظيم ، افتحوا لها الباب ، هل انا قتلته ؟ ، قصة السبعة الكبار ، هجرتنا إلى القمر .

من هذه العناوين نستطيع ان نعرف أى نوع من المواضيع يعالجها سلامة موسي في هذه المجموعة . . وهي واضحة : مشاكل العقل وهموم الانسانية . . لذلك كانت هذه القصص أشبه بالبحوث والمحاورات ، والتحليلات النفسية . . الشئ الذي يجعلنا نتخيل سلامة موسى ، يتسلل بين سطور هذه القصص ليعرض عن طريقها على قرائه تلك الافكار التى ظل يرددها طيلة حياته . . فهو فى هذه القصص يدعو الى مقارعة الفقر ، ويحرض على العلم والوصول الى المجد ، كما يوجه الى الحب الحقيقى والعاطفة الشريفة . .

واذا أعدنا النظر في هذه الافكار المنتزعة من كتبه الخمسين ، وأعدنا ادماجها داخل ذلك الانتاج الذى نعرفه فى كتبه " انتصارات انسان و  " الانسان قمة التطور " و " التثقيف الذاتى " و " مشاعل الطريق للشباب " . . الخ . لوجدناها هى نفسها فى نسق قصصى ، ولأدركنا ان هدف سلامة موسى من كتابة القصص هو هدفه من كل ما كتب : الحب ، الحنان ، الانسانية ، العلم ، المجد ، الخ . . .

وكان الحب يستغرق وجدان سلامة موسى دائما . . ولكنه حب المجد ، حب الحياة ، وحب الجمال ، وحب الناس جميعا . . وأعماله الأدبية الكبيرة نجدها مقتبسة من جذوة هذا الحب ، الحب الكبير . . وتمشيا مع هذا المذهب ، يقول في أول قصة من مجموعته ، وعنوانها " قصة غرام " : " ولكن ليس هذا كل الغرام ، فاننا نغرم بالمجد ، ونغرم بالفن ، ونغرم بالفلسفة ، ونغرم بالطبيعة . . و . . "

ومن ضمن هذه المجموعة قصته " ماتت ثلاث مرات " ولم يكن ابطالها أكثر من ( عجوز تعسة وقطتها . . كان بينهما ، من وقت لآخر ، أحاديث وبكاء ومواء ، ولقمة مبللة وجرعة من الماء ) . ولكن هذه القصة أسمى وأنبل ما يمكن ان يصل اليه الاحساس المرهف والشعور العميق بالألم والفقر اللذين يعانيهما اشباح الموتى . وان من لا يتحرك احساسه بمثل هذه القصة بعد قراءتها ، ولا تثير في قلبه الحزن على المحطمين . . فلا يمكن ان يهزه شئ آخر . .

وأما قصة " خريف + ربيع " فهناك من يقول ( 1 ) عنها : الأرجح انها اعترافات شخصية يتحدث فيها عن شخص سماه " ماجد "  ( امتاز بعبقرية : الذهن - لا شك في ذلك - ولكنه لم يمتز بعبقرية الحياة ، أجل إن هناك فرقا بين عبقرية الذهن وعبقرية الحياة . . ) .

يستوقفك فى قصص سلامة موسى ، انك تحس بأنها تنبعث من عقله ، لذلك لا تسحرك موسيقاها ، ولكنها تشدك الى ان تصل الى شئ جديد . . ثم ان هذه القصص تفتح لنا نافذة جديدة ، ولكنها محيرة . . قد لا يلوح منها إلا ركن ضئيل من عالم " جيل فارن " و " ويلز " و " آلدس هكسلي " وغيرهم من الكتاب الذين ملؤوا رواياتهم بتنبؤات المستقبل فى إطار علمى . . ولكن لم يتح لنا ان نقرأ افضل مما فعله سلامة موسى فى هذا المجال ، الذى تفتقر فيه القصة العربية . . ذلك النوع الذى يستخدم العلم ويتطلع الى المستقبل ، كما نجد فى آخر هذه المجموعة " هجرتنا الى القمر " وكما فعل فى قصته " طوبى مصرية " (2) تلك التى نسجها بخيال علمى بحت . . وهى - حسب ما نعلم - المحاولة الاولى من نوعها فى الادب العربى لحديث . . ولئن كان أدبنا العربي المعاصر قد عرف القصة القصيرة العلمية ، والرواية العلمية ، كمحاولات متواضعة جدا . ونسجل انه مع ظهور فجر سنة 1973 ، برزت الى الاسواق العربية رواية علمية ناجحة (3) .

وعلى كل حال فاننا فى هذه اللفتة الى قصص سلامة موسى لسنا بصدد معالجة نوعية الشكل لقصصه أو تعيير مضمونه . . فهذا يحتاج - ليس الى لفتة فقط بل - الى وقفة تأمل عميقة فى كل آثاره القصصية ، ولكن محاولتنا هذه هى لفت النظر الى المناضل الذى لم يترك سلاحا مؤثرا إلا واستعمله ، فى

سبيل ما يطمح اليه هو . . وما يتمناه ويرجوه للاجيال العربية ، بما فى ذلك سلاح الأدب القصصى . .

وان هذا العبور السريع لا يمنعنا من أن نحدد غايات سلامة موسى فى كتاباته القصصية . على أنها تنحصر فى مسألتين اثنتين أولاهما : ( هموم الطبقة المفقودة الحظ فى المجتمع ) . وثانيهما : ( الطموح العلمي لفائدة مستقبل الانسان العربى ) .

وفي الختام أود أن أضيف الى كل ما سبق ، أن سلامة موسى هو من الرواد الأوائل اللذين أدركوا حقيقة الدور الخطير الذى يمكن ان تلعبه القصة فى حياة الفرد والمجتمع من توعية حقيقية ، إيمانا منه بأن القصة ( فن ماكر ) تستطيع أن تحقق ما يعجز عليه غيرها من الفنون الاخرى .

اشترك في نشرتنا البريدية