ليس بين قراء العربية من لا يعرف سلامة موسى المفكر الذي سبق جيله بنصف قرن ، وليس بين كتاب العرب من هو أسهل فى التعريف منه . انه كاتب بمزج الأدب بالعلم ، ولكنه يؤثر العلم على الأدب ، ومع ذلك يعشق الأدب الروسى . . وحسبنا أن نذكر رأيه فيه ، لنرى مدى تأثره بهذا الأدب ، حيث يقول : " ذلك أن القارىء لهذا الأدب يجد هواء جديدا وحنانا جديدا وانسانية جديدة . . "
ويعرف الكثير من قراء العربية أن سلامة موسى له آراء وأحكام للقصة الروسية بصفة خاصة ، هي ذات أهمية كبرى فى عالم النقد . . .
كان مثلا بكره التكلف في الاسلوب ويدعو الى جحد الصناعات البيانية . ومن خلال مؤلفاته التى تقارب الخمسين كتابا ، ندرك تأثره العميق بقراءته لقصص العمالقة أمثال : تولستوى ، وفوركى ، ودستويفسكى وأهرنبورج وغيرهم . . ومن آرائه الشهيرة فى القصة الروسية : " قوله حين يعمد المؤلف الروسي الى البراعة كما يفعل دستويفسكى احيانا ، تنقص قيمة القصة ، ولكنه حين يتناول أشخاصه كما هم ، فى سير الحياة وسرد الحوادث ، على الطبيعة والأصل والنزعة بلا أى مبالاة بالبراعة . . هنا فقط نجد الفن العالى . . "
لعل كل ذلك يعرفه الكثير من قراء سلامة موسى . . ولكن الذى قد لا يعرفه البعض من قرائه . . هو أن سلامة موسى أكثر اتصالا بعالم القصة . . وأن اتصاله بها تخطى قراءتها وتحليلها ، أو التأثر بها إلى كتابة القصة ، ومعالجة الهموم التى تشغل بالله عن طريق هذا الفن . . وأكثر من ذلك فاننا عندما نبحث فى حياة سلامة موسى الثقافية ، نحد أنه كان من أوائل من اهتم بفن القصة . . ففى الصحف
الأولى التى كان يصدرها اعتناء كبير بنشر قصص مترجمة ( 1 ) ومؤلفة ( 2 ) ، وكان يجعلها فى أبرز مكان من هذه الصحف . . ومن الأدلة التى تؤكد لنا أن سلامة موسى من الرواد الأوائل فى الاهتمام بالقصة ، ومن لمشجعين على ازدهارها ، ما كان يفسحه من مجال فى صفحات مجلته الجديدة لنجيب محفوظ ( 3 ) وغيره ممن تفوقوا فى هذا الفن ، وكذلك نجده ينشر قصة يحيى حقى "البسطجى" فى ملحق خاص بعدد من اعداد مجلته . .
كان ذلك في أوائل حياته الأدبية . . وهناك صور أخرى تدل على أن سلامة موسى لم يتعال على كتابة القصة ، ولم ينقطع عنها نهائيا . بل نجده يكتب قصصا تنشرها مجلة " القصة " سنة 1951 . وفي السنوات الاخيرة من حياته كتب قصصا في جريدة " الاخبار " تدل على إدراكه الفنى للقصة -
أما أهم أثر لسلامة موسى فى ميدان القصة (4) ، فهو يتمثل فى مجموعة قصص جمعت بعد وفاته ( 5 ) ونشرت سنة 1962 فى كتاب بعنوان " افتحوا لها الباب " ويحتوى هذا الكتاب على ثلاثة وعشرين قصة قصيرة ، وهى : قصة غرام ، أعظم المخدرات ، أحسن أم ، لماذا تزوج ؟ ، ذكريات قلب ، خريف + ريع ، طلقت أخي ، غرفة الخادمة ، الحيوان الذي كان انسانا ، ماتت 3 مرات ، تجربة علمية ، والدى العزيز ، لكن الله يرحمه ، العمارة ليست ملكه ، الى المعاش ، صوت الشيخ ، رؤيا ، اختلفوا على الجهاز ، موت
عظيم ، افتحوا لها الباب ، هل انا قتلته ؟ ، قصة السبعة الكبار ، هجرتنا إلى القمر .
من هذه العناوين نستطيع ان نعرف أى نوع من المواضيع يعالجها سلامة موسي في هذه المجموعة . . وهي واضحة : مشاكل العقل وهموم الانسانية . . لذلك كانت هذه القصص أشبه بالبحوث والمحاورات ، والتحليلات النفسية . . الشئ الذي يجعلنا نتخيل سلامة موسى ، يتسلل بين سطور هذه القصص ليعرض عن طريقها على قرائه تلك الافكار التى ظل يرددها طيلة حياته . . فهو فى هذه القصص يدعو الى مقارعة الفقر ، ويحرض على العلم والوصول الى المجد ، كما يوجه الى الحب الحقيقى والعاطفة الشريفة . .
واذا أعدنا النظر في هذه الافكار المنتزعة من كتبه الخمسين ، وأعدنا ادماجها داخل ذلك الانتاج الذى نعرفه فى كتبه " انتصارات انسان و " الانسان قمة التطور " و " التثقيف الذاتى " و " مشاعل الطريق للشباب " . . الخ . لوجدناها هى نفسها فى نسق قصصى ، ولأدركنا ان هدف سلامة موسى من كتابة القصص هو هدفه من كل ما كتب : الحب ، الحنان ، الانسانية ، العلم ، المجد ، الخ . . .
وكان الحب يستغرق وجدان سلامة موسى دائما . . ولكنه حب المجد ، حب الحياة ، وحب الجمال ، وحب الناس جميعا . . وأعماله الأدبية الكبيرة نجدها مقتبسة من جذوة هذا الحب ، الحب الكبير . . وتمشيا مع هذا المذهب ، يقول في أول قصة من مجموعته ، وعنوانها " قصة غرام " : " ولكن ليس هذا كل الغرام ، فاننا نغرم بالمجد ، ونغرم بالفن ، ونغرم بالفلسفة ، ونغرم بالطبيعة . . و . . "
ومن ضمن هذه المجموعة قصته " ماتت ثلاث مرات " ولم يكن ابطالها أكثر من ( عجوز تعسة وقطتها . . كان بينهما ، من وقت لآخر ، أحاديث وبكاء ومواء ، ولقمة مبللة وجرعة من الماء ) . ولكن هذه القصة أسمى وأنبل ما يمكن ان يصل اليه الاحساس المرهف والشعور العميق بالألم والفقر اللذين يعانيهما اشباح الموتى . وان من لا يتحرك احساسه بمثل هذه القصة بعد قراءتها ، ولا تثير في قلبه الحزن على المحطمين . . فلا يمكن ان يهزه شئ آخر . .
وأما قصة " خريف + ربيع " فهناك من يقول ( 1 ) عنها : الأرجح انها اعترافات شخصية يتحدث فيها عن شخص سماه " ماجد " ( امتاز بعبقرية : الذهن - لا شك في ذلك - ولكنه لم يمتز بعبقرية الحياة ، أجل إن هناك فرقا بين عبقرية الذهن وعبقرية الحياة . . ) .
يستوقفك فى قصص سلامة موسى ، انك تحس بأنها تنبعث من عقله ، لذلك لا تسحرك موسيقاها ، ولكنها تشدك الى ان تصل الى شئ جديد . . ثم ان هذه القصص تفتح لنا نافذة جديدة ، ولكنها محيرة . . قد لا يلوح منها إلا ركن ضئيل من عالم " جيل فارن " و " ويلز " و " آلدس هكسلي " وغيرهم من الكتاب الذين ملؤوا رواياتهم بتنبؤات المستقبل فى إطار علمى . . ولكن لم يتح لنا ان نقرأ افضل مما فعله سلامة موسى فى هذا المجال ، الذى تفتقر فيه القصة العربية . . ذلك النوع الذى يستخدم العلم ويتطلع الى المستقبل ، كما نجد فى آخر هذه المجموعة " هجرتنا الى القمر " وكما فعل فى قصته " طوبى مصرية " (2) تلك التى نسجها بخيال علمى بحت . . وهى - حسب ما نعلم - المحاولة الاولى من نوعها فى الادب العربى لحديث . . ولئن كان أدبنا العربي المعاصر قد عرف القصة القصيرة العلمية ، والرواية العلمية ، كمحاولات متواضعة جدا . ونسجل انه مع ظهور فجر سنة 1973 ، برزت الى الاسواق العربية رواية علمية ناجحة (3) .
وعلى كل حال فاننا فى هذه اللفتة الى قصص سلامة موسى لسنا بصدد معالجة نوعية الشكل لقصصه أو تعيير مضمونه . . فهذا يحتاج - ليس الى لفتة فقط بل - الى وقفة تأمل عميقة فى كل آثاره القصصية ، ولكن محاولتنا هذه هى لفت النظر الى المناضل الذى لم يترك سلاحا مؤثرا إلا واستعمله ، فى
سبيل ما يطمح اليه هو . . وما يتمناه ويرجوه للاجيال العربية ، بما فى ذلك سلاح الأدب القصصى . .
وان هذا العبور السريع لا يمنعنا من أن نحدد غايات سلامة موسى فى كتاباته القصصية . على أنها تنحصر فى مسألتين اثنتين أولاهما : ( هموم الطبقة المفقودة الحظ فى المجتمع ) . وثانيهما : ( الطموح العلمي لفائدة مستقبل الانسان العربى ) .
وفي الختام أود أن أضيف الى كل ما سبق ، أن سلامة موسى هو من الرواد الأوائل اللذين أدركوا حقيقة الدور الخطير الذى يمكن ان تلعبه القصة فى حياة الفرد والمجتمع من توعية حقيقية ، إيمانا منه بأن القصة ( فن ماكر ) تستطيع أن تحقق ما يعجز عليه غيرها من الفنون الاخرى .
