تمتاز تونس عن غيرها من الشعوب المتخلفة فى القرن التاسع عشر بانتشار روح يقظة اثر نوم ثقيل وانحطاط شنيع وسرعان ما انبلج من افقها شعاع وضاء متألق اخذ يرسل بتباشير صبح حياة جديدة على لسان حركة اصلاحية اصيلة بعيدة الغور عميقة الاثر واسعة النطاق تستمد زخارتها وفيضها من تجربة ومواهب رجال تنبهوا قبل غيرهم للاخطار المحدقة بالمتخلفين من الامم المستسلمة النائمة فى ميادين الحياة
وخير الدين باشا التونسى وان كان درة عقد هذه الحلقة المباركة الاصلاحية وقائد ذلك الرعيل وحادي الركب الاصلاحى فقد كان يقوم بجانبه رجال افذاذ صدقوا ما عاهدوا الله عليه شعارهم تمجيد الاصلاح بالدعوة اليه والتنفير من التخلف عن قافلة الحياة الحديثة ومقاومة كل رجعية اثيمة كانت تقف بالمرصاد فى طريق النهوض تصد الناس عنه . فكان رائدهم السير قدما بالبلاد الى شاطىء النجاة فى تؤدة ورفق وكان من ابرز رجال الاصلاح فى هذا العهد الادب العبقري والشاعر المجيد المدرس الشاعر محمود قبادو وتلاميذه وقد اشتهر من بينهم الاستاذ أبو حاجب وبيرم الخامس مؤلف الصفوة ومحمد السنوسى وما اليهم من رجال ذلك العهد الذين آلوا على انفسهم ان يخدموا تونس بافكارهم واقلامهم وتآليفهم مما حمل اولئك الرجال على الامعان فى الدعوة والتضحية بكل نفيس فى سبيل نجاحها .
فكان الشيخ السنوسى يحبر الفصول الطوال فى الرائد ( الجريدة التونسية الرسمية ) على اساليب ممتعة ملائمة تفيض حماسا فى الدعوة الى الاصلاح وكان خير الدين ومعاونوه يقضون اوقات الفراغ فى خلق جو ملائم ووسط يعين على الاصلاح ويوسع دائرته ويتفهم اسباب الفلاح فيعمل على نشرها ويتأمل فى علل التقهقر والتأخر فيتجنبها
وكان من جراء ذلك ظهور بوادر الاصلاح والدعوة الى النهوض فى كتاب ( أقوم المسالك ) الذي قال مؤلفه في فاتحته : " انى بعد ان تأملت تأملا طويلا فى اسباب تقدم الامم وتأخرها جيلا فجيلا مستندا فى ذلك لما امكن تصفحه من التواريخ الاسلامية والافرنجية مع ما حرره المؤلفون من الفريقين فيما كانت عليه وآلت اليه الامة الاسلامية وما سيؤول اليه امرها فى المستقبل بما لا أظن عاقلا من رجال الاسلام يناقضه او ينهض له دليل يعارضه من انا اذا اعتبرنا
تسابق الامم في ميادين التمدن وتحزب عزائمهم على فعل ما هو اعود نفعا واعون لا يتهيأ لنا ان نميز ما يليق بنا على قاعدة محكمة البناء الا بمعرفة احوال من ليس من حزبنا لا سيما من حف بنا وحل بقربنا . ثم اذا اعتبرنا ما حدث فى هذه الازمان من الوسائط التى قربت تواصل الابدان والاذهان لم نتوقف ان نصور الدنيا بلدة متحدة تسكنها امم متحدة حاجة بعضها لبعض متاكدة وكل منها وان كان فى مساعيه الخصوصية غريم نفسه فهو بالنظر الى ما ينجر بها من الفوائد العمومية مطلوب لسائر بني جنسه . . "
ويتخلص مؤلف اقوم المسالك الى البحث عن الاصول التى تتمكن الشعوب بها من التخلص من الفوضى والجهل والفاقة وتسير قدما فى ميادين التقدم الى بلوغ الغاية المنشودة للمجتمعات البشرية فى اثناء سيرها الطويل الشاق المحفوف بالاخطار المهدد بالآفات
وانا لنلمس ان في الفقرة الاخيرة من خطبة اقوم المسالك هبوب نسيم من الروح الجديدة التى استيقظت فى الادمغة بعد ركودها الطويل وخلو الاذهان منها الا وهى التضحية لصالح المجتمع وقد ايد الادباء والادب فى هذه الفترة هذه الروح الجديدة وتمادى خير الدين فى مقدمة كتابه ( اقوم المسالك ) يوازن ويبحث ويشير الى اهم اسباب التخلف والتراجع اثر المجد مستعينا بالقواعد الاسلامية الصحيحة التقدمية الداعية الى التنافس فى طلب المجد ويقول فى اسباب التخلف ما يلى : " ثم ان الدولة الاسلامية اخذت فى التراجع لما انقسمت الى دول ثلاث الدولة العباسية ببغداد والمشرق ودولة الفاطميين بمصر وافريقية ودولة الامويين بالاندلس ثم تكاثرت الحروب الداخلية وانقسمت تلك الدول خصوصا الاندلسية فانها صارت ملوك طوائف وتحقق فيهم قول القائل :
القاب سلطنة فى غير موضعها كالهر يحكى انتفاخا صولة الاسد
وموجب ذلك التفرق تعارض الاغراض والشهوات من الامراء والثوار الذين لم يعتبروا ما في الانقسام من المضار على الجميع حتى نشا عن ذلك خروج الاندلس من يد الاسلام .
نجحت هذه الحركة الاصلاحية نجاحا نسبيا فى القرن التاسع عشر بتونس فكان محمد بيرم الخامس مؤلف صفوة الاعتبار أول كاتب تونسى يجاهر بآرائه الاصلاحية بدون مؤاربه وكان هو وصحبه يجاهدون جهاد الابطال فى مقاومة الجهال ويدعون الى نشر المعرفة بين طبقات الشعب التونسى بتأييد تأسيس المدارس ونشر الكثير من التآليف التونسية بالمطبعة الرسمية التى نشرت الكثير من الانتاج التونسي وتقوم حركة متسعة النطاق فى اصلاح اساليب التدريس وطرق الحكم
وقد كان الكاتب أحمد بن أبى الضياف من اكبر محبذى الاصلاح الداعين اليه والمقاومين للرجعية كان ينقد الرجعيين نقدا عنيفا حتى انه لم يسلم من قلمه عالم تنكب الطريق القويم او امير انحرف عن سواء السبيل ودون جل ذلك في كتابه الحافل المعروف ( باتحاف اهل الزمان )
كان هؤلاء المصلحون يرون آنذاك ان المنقذ الوحيد للشعب التونسى مما فيه من مظالم البايات لا يكون الا على طريق توسيع دوائر المعرفة وتمهيد طرق الثروة من تحسين وسائل الزراعة والتجارة وانعاش الصناعة وبالتالى محاربة اسباب البطالة فى البلاد . ولاول مرة فى تاريخ الادب التونسى نصغى الى الاديب التونسى فاذا هو يتنكر للانانية وللاسلوب الذى انتشر اخيرا بين الناس من الامعان فى محبة النفس ويعد العالم الذى يستأثر بعمله لفائدته جانيا واثيما وان الفخر كل الفخر فى خدمة الاوطان . ولعل هذه الروح نشات عند استفحال الحضارة ونزوع الناس الى المادة وامعانهم فى الاستئثار وتغاضيها عن الصالح العام الذى هو فى نظر الشريعة الاسلامية مقدم على الصالح الخاص ولذلك كانت الفروض الكفائية فيها افضل من الفروض العينية لانها قاصرة والأخرى متعدية كما يعلم ذلك المطلعون على اسرار التشريع الاسلامى فى نقاوته وصفائه فلا غرو ان نادى المصلحون بذلك
كانت هذه النهضة متاخرة لان الهيمنة الاوروبية والمطامع الغربية قطعت شوطا بعيدا وبلغت آنذاك الاشد وكادت تغمر الشرق فوقفت امام هذه الحركة الاصلاحية المباركة تكيد لها وتنال من رجالها وتجعل لها حدا ومن توقل اعلى قمة فى ذلك العهد بتونس شاهد بعينى راسه اعوان الاستعمار يعرقلون كل حركة ويحدثون فى كل لحظة مشكلة الى ان فوجئت البلاد بذلك الحادث العظيم الذي قلب لها ظهر المجن ورجع بها القهقرى وقضى على جميع ما اشاده المصلحون وضحى من اجله المخلصون الذين لا تزال اثارهم الى الآن شاهدة بنضالهم العنيف واعمالهم الجبارة التى نذكرها كلما هتف الناس لرجال العمل والسعى للانقاذ .
وهكذا كانت تونس على ضيق رقعتها حريصة بحكم ماضيها المجيد على الانبعاث في عصور التقهقر لتشارك بدورها فى حمل مشعل الحضارة الحديثة لكتابها البارعين وشعرائها البارزين المتقدمين الذين كانوا فى اوائل القرن التاسع عشر يحومون حول الوجدانيات ويطوفون حول الذكريات قبل ان يطغى عليهم السيل فأبى البعض من رعيلها الاول الا ان يكونوا هواة لقافلة الحياة وادلاء لمواكب الوجود السائرة بخطى ثابتة الى حيث التقدم والرقى ودعوة النوع الانسانى الى الانضواء تحت قواعد العلم والعدل والعمران فكان الشعر التونسى ، الادب التونسى ينتقلان من الوجدانيات وينسلخان من الروح المتصوفة الخاملة القانعة القابلة ويتشكلان بشكل العموميات وياخذان مكانتها بين ادب امم العصر التقدمية فكان من اثر هذه النهضة الحديثة فى الادب التونسى الحديث ان انتبه الشاعر التونسى بفضل شعوره الحاد الى ادراك الوضعية الحديثة ادراكا
صحيحا فخصص جانبا من انتاجه الادبى لدعوة الناس للاخذ باسباب الارتقاء واغرائهم بالتسابق في ميادين الفنون والعلوم والاقتداء بالامم فى مضمار الجد والعمل واثارة عاطفة التنافس واذكاء لهيب الغيرة فى النفوس وقد كان زعيم هذا المضمار المتلاعب باطراف البلاغة والبيان شاعرنا العبقرى محمود قبادو المتوفى سنة 1288 ه . يغير تاريخ مجرى الادب فنسمع منه لاول مرة فى تاريخنا الادبى وهو بينها قائلا :
فمن لم يجس خبرا اروبا وملكها ولم يتغلغل فى المصانع فهمه
فذلك فى كن البلاهة داجن وفي مضجع العادات يلهيه حلمه
واستمر هكذا على هذا المنوال العجيب يسحر العقول ويخلب الالباب وينفث السحر الحلال فى النفوس كان هذا الروح فى الواقع نائما فى ادمغة الادباء بل كان ضعيفا فى الادب القديم الذي كان يعيش للوجدان ويحلق فى الخيال وكان الشاعر في هذا العهد القرن التاسع عشر م . والقرن 13 ه . لم يتحرر بعد من قيود الزخرفة اللفظية والتكلف الممل والولوع بالجناس والتورية والامعان فى الاستعارة والتشبيه والتشبيب والغزل والمديح والهجاء وضروب الشعر العتيقة فى الادب القديم ولكن الهزة العنيفة التى انبعثت عن الحضارة طغت على الادب فغيرت اتجاهه ووجد رواد الادب انفسهم فيها للغذاء الطريف الكافى والجمال الخصب فخرجوا بالادب من عزلته وخصوصيته الى الافق الفسيح وشاركوا فى آلام المجتمع واحزانه وهتفوا لخدمة المثل العليا فكان قبادو ازاء هذا التطور الصارخ الغامر يندفع حاديا فى ركب الوجود مهيبا بأمته ان تشمر عن ساعد الجد لتنتظم فى سلك الاحياء الكادحة الجادة المتنكرة للتقاعس ولم يتمالك عن التعليل بقوله فى حجة ناهضة ومنطق يفهمه المتعطشون الى المعالى المتطلعون للمجد الطموحون لنيل الرغائب فى دنيا الانسان الثائر فيصيح صيحة المتأثر والاسف فى جد وحماس قائلا للنائمين الا ايها النيام ويحكم هبوا مثيرا حماسهم بقوله :
لهذا ترى ملكا مؤثلا بعلم على الايام يمتد يمه
ومملكة الاسلام يقلص ظلها وينفض من اطرافها ما تضمه
وكم لقبادو من القصائد الغرر والخرد الغوانى فى ميادين الاصلاح والنهوض الا ان الدعوة جاءت متأخرة كطلائع الاصلاح ووسائله ومظاهره فلم ترسخ لها دعامة آنذاك . وكان البايات انفسهم حكام الشعب ومستعبدوه ضغثا على ابالة فحافظوا بسوء صنيعهم على الاضطراب وفتنوا قبادو وغيره بوسائل الاستبداد حتى تنكروا للمبادىء وظلوا مذبذبين فى دنيا الجشع الجديد الذى كان يفرض هيمنته ويبتلع الشعوب الضعيفة ابتلاع الجبار الذى لا يرحم . وناموس الحياة قاس لا يراف فالضعيف نهبة المفترس القوى ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا ياخذ للامر حيطته لا تمهله الايام ولا تقبل له حجة ولا عذرا .
