يعتبر القرن الرابع الهجرى فى تاريخ الحضارة العربية الاسلامية عصر اكتمالها واكتمال الفنون والعلوم والآداب . وإذ كان ازدهار النقد الأدبى مقرونا باردهار الأدب ، فقد كان من الطبيعى أن يظهر عصرئذ نقدة أعلام أمثال القاضى الجرجانى مؤلف " الوساطة بين المتنبى وخصومه " والآمدى كاتب " الموازنة بين أبى تمام والبحترى " وقدامة بن جعفر الناقد الذى سلك منهجا غريبا فى كتابه " نقد الشعر " ، وهو - لغرابة نقده - جدير بأن يقع التعريف به وتعليل إعراض الأدباء والنقاد عنه .
وفى إمكانك أن تدرك سر تلك الغرابة بمعرفة أصل قدامة وثقافته ومهنته . غير أن المراجع ضنينة عليك بالمعلومات الضافية عن حياته . وكل ما تستفيده منها أنه رومى الاصل قد نشأ فى عائلة مسيحية ، ثم أسلم بعد التحاقه بديوان الخراج و توليه رئاسته ، وعاش فى بغداد فى نهاية القرن الثالث وأوائل القرن الرابع إذ كانت وفاته بها حوالى سنة 337 ه . (I) .
والتراجم لا تنبئك بعقلية قدامة بل تذكر لك أمورا منها عجمته ونصرانيته قبل إسلامه وصفته كاتب أزمة وتصنيفه فى هذا الموضوع " كتاب الخراج " (2) وهو القسم الذى وصلنا من كتابه " فن صناعة الكتابة " (3) . ومن تلك العناصر تستطيع أن تستنتج أنه رجل إدارى قبل كونه أدبيا وان له خبرة فى بسط الأمور بطريقة واضحة مضبوطة مستوعية وأن ثقافته وعقليته وميوله بحكم انتسابه إلى الروم إنما هى أمور تنزع به الى التفكير اليونانى والتحليل المنطقى فى دراسه الشعر العربى وضبط ماهيته والمقاييس التى بها يقاس رديئه وجيده فى كتابه " نقد الشعر " (4) ويمكنك من الآن تنسم صيغة كتاب
" نقد الشعر " ولا إخالك إلا متوقعا منهج قدامة العلمي الممتاز بالضبط والتقسيم واقرار القواعد طبق برنامج محكم . أما كتاب " نقد النثر " فليس له فيه ناقة ولا جمل كما اهتدى الى ذلك عديد من الباحثين مثل الاستاذ " ريجيس بلا شير " (1) الذي اعتبر ذلك الكتاب ضعيفا قد انتحل له عنوان " نقد النثر " نسجا على منوال كتاب " نقد الشعر " .
* تحليل كتاب " نقد الشعر " :
تفتح كتاب الشعر " فتتبين من مقدمته أن مؤلفه انتبه الى عدم وجود كتاب وضع قبل عصره فى نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه وإن كان الناس قد عنوا عناية تامه بتصنيف كتب فى عروض الشعر ووزنه وقوافيه ومقاطعه ومعانيه والمقصد منه . فان قدامة فخور بتفطنه لعلم حديد سماه تخليص جيد الشعر من رديئه وذلك هو الفن الذى سمى به كتابه " نقد الشعر " ؛ وحق له الفخر إذ أن " الناس يخبطون فى ذلك منذ تفقهوا في العلم فقليلا ما يصيبون " . ولما تبين أنهم قصروا الى عهده فى وضع كتب فى نقد الشعر بمعنى تخليص جيده من رديئه أراد أن يبادر بتصنيف كتاب في هذا الفن وراى ان يتكلم فيه " بما يبلغه الوسع " . وما يشك فى أنه قصد الاختصاص فى نقد الشعر ، والاختصاص - عساك تعلم - من صفات العلماء ومتى نظرت فى مقدمة الكتاب فرأيت جملا لا تقبل الزيادة ولا النقصان وتحريرا ليس فيه مجال للزخرفة والبرقشة حكمت بأن فى أسلوب قدامة ظاهرة علمية طالما انتظرها النقد الأدبى قبله وإن مر بما يشبهها مع ابن سلام الجمحى فى كتابه طبقات فحول الشعراء الجاهليين والاسلاميين " ومع ابن قتيبة فى " كتاب الشعر والشعراء " .
. حد الشعر :
وتنتهى من قراءة المقدمة ثم تنتقل الى الفصل الأول من الكتاب فتقف على تعريف قدامة للشعر بأنه " كلام موزون مقفى يدل على معنى " وتدرك بعدئذ انه إذ يضع هذا الحد الخاص بالنظم لا بالشعر يتخذه أساس بيانه ومنهاجه النقدى فى كامل الكتاب .
وقديما انتبه جهابذة الألفاظ ونقاد المعانى الى عقيم تعريف قدامة للشعر فكشفوا عن غلطه . ألا ترى أن الآمدى صنف فى القرن الرابع الهجرى كتابا سماه " تببين غلط قدامة بن جعفر فى كتابه نقد الشعر " ؛ وهذا الكتاب لم يصلنا غير أنا نستطيع تصوره لمعرفتنا آراء مؤلفه فى الشعر ونقده من خلال كتابه الآخر " الموازنة بين أبى تمام والبحترى " ؛ ومج القاضي الجرجانى في
" الوساطة بين المتنبى وخصومه " تعريف قدامة للشعر ، فوضع له حدا جديدا يراعي فيه الذوق وما لا يدخل فى الشعر تحت الحصر ولا يأخذه عد أى كل ما يتجاوز شكل القريض الى الشعور والتجربة الشعرية والموهبة والذكاء ، فقال " الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ، ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه " واهتدى ابن رشيق القيروانى فى كتاب " العمدة " الى نقص تعريف قدامة للشعر فأضاف اليه عنصر القصد والنية وقال : " الشعر يقوم - بعد النية . من أربعة أشياء هي اللفظ والوزن والمعنى والقافية لأن من الكلام موزونا مقفي وليس بشعر لعدم القصد والنية " ؛ وقال فى نفس باب " حد الشعر وبنيته " : " البيت من الشعر كالبيت من الأبنية قراره الطبع وسمكه الرواية ودعائمه العلم وبابه الدربة وساكنه المعنى ، ولا خير فى بيت غير مسكون ، وصارت الأعاريض والقوافى كالموازين والأمثلة للأبنية أو كالأواخي والأوتاد للأخبية . فأما ما سوى ذلك من محاسن الشعر ، فانما هو زينة مستأنفة ولو لم تكن لاستغنى عنها " ؛ وفطن أبو العلاء المعرى الى عقيم تعريف قدامة التقليدى للشعر ، فعرفه تعريفا طريفا فى " رسالة الغفران " بقوله على لسان ابو القارح " الشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحس " وبذلك التعريف ربط المعرى الشعر بالوزن أو الموسيقى والايقاع كما ربطه بالحس أو الذوق الذى يبقى المعيار الأهم لقرض الشعر ونقده والحكم عليه بالجودة أو بالرداءة .
يعتبر قدامة أن الشعر صناعة فيها الجيد والردئ كما هو شأن كل صناعة ؛ ويحدو به هذا القول الى تبين طرفين فى الشعر " أحدهما غاية في الجودة والآخر غاية فى الرداءة وحدود بينهما تسمى الوسائط " . فمن الشعر ما يقرب من الجيد ، ومن الشعر ما يقرب من الردىء ، ومنه ما يكون وسطا بينهما ويقال له على حد تعبيره " صالح أو متوسط أو لا جيد ولا ردئ " . وهكذا يتدرج بطريقة منطقية الى البحث عن العناصر التى تكون الشعر الجيد حتى يمكن الحكم على الشاعر الذى يجمعها بأنه مجيد وعلى شعره بأنه جيد . أما من لم يجمعها فلا يكون مجيدا بل تقرب منزلته من الاجادة أو تبعد عنها بحسب جمعه للكثير أو للقليل مما يسميه قدامة نعوت الشعر . وينبهك ذلك الى أن له فى النقد معيارا به يضبط أسباب الشعر ، فلا تفوته نعوته وعيوبه .
نعم وضع قدامة للشعر حدا خاصا هو " كلام موزون مقفى يدل على معنى ثم اتخذه أساس بيانه فى نقد الشعر فى كامل الكتاب . وانك لتجد فى هذا التعريف أسبابا مفردات أربعة يسميها قدامة المفردات البسائط وهي : اللفظ والوزن والتقفية والمعنى ؛ وفى هذه المفردات البسائط ما يتألف بعضه مع بعض فيتولد عن ائتلافها أربعة أضرب مركبات وهي ائتلاف اللفظ مع المعنى ، وائتلاف اللفظ مع الوزن ، وائتلاف المعنى مع الوزن ، وائتلاف المعنى مع
القافية . أليس هذا الحصر المنطقي العنيف للشعر بطريقة حسابية صدى لثقافة لا تكاد تمت بسبب الى العقلية العربية وروح الفن ؟ طالما أتعب الشعر ناقديه وها هو ذا قد رضخ واستكان مع قدامة . فلن يفوته فيه حسن ولا عيب .
* نعوت الشعر ( الفصل الثانى ) :
بعد ضبطه الأضرب المثانية ينتقل قدامة الى درس نعوت الشعر فى الفصل الثاني من كتابه ، ويبدأ بذكر نعوت المفردات البسائط أو ما يسميه ايضا الاجناس الأربعة المفردات .
أما نعت اللفظ فالرأى عنده " أن يكون سمحا سهل مخارج الحروف من مواضعها عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة " ؛ وبدون سابق درس وتحليل يسوق قدامة أمثلة من الشعر يستسيغها ذوقه لتوفر تلك الصفات فيها ، وبذلك ينقلب معلم بيان يعلمك درسا فى البلاغة والصناعة الشعرية ويبتعد عن صفة الناقد . ومتى أمعنت النظر فى منهجيته فى هذا القسم من الفصل الثاني أيقنت أنك بصدد عالم منكب على حل مشاكل شبيهة بما فى المنطق والحسابيات إذ تطغى عليه صرامة العقل ناهيك بأنه عندما يتناول بالنقد بيتا من الشعر فانه لا ينظر الى نعوته الثمانية معا وإنما يهتم فى كل مرة بنعت واحد . وقد يكون فى البيت عيوب فلا يلتفت اليها . وهكذا تطغى عليه الروح العلمية والمنطقية ويكون قد فاته أن الشعر لم يخضع يوما للمنطق كما قال البحترى الشاعر المطبوع فى الرد على أبى تمام والشعراء الذين مالوا الى فلسفى الكلام والمعانى التى لا تستخرج إلا بالغوص :
كلفتمونا حدود منطقكم والشعر يزري بنطقه عجبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بال منطق ما نوعه وما سببه
والشعر لمح تكفى إشارته وليس بالهذر طولت خطبه
وأما نعت الوزن فالرأى عنده " أن يكون سهل العروض " ومثله هذه الأبيات الغزلية للمنخل اليشكرى التى يطرب لها السامع لحلاوة موسيقاها الشعرية :
ولقد دخلت على الفتا ة الخدر فى اليوم المطير
الكاعل الحسناء تر فل فى الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت مشي القطاة إلى الغدير
ولقد شريت من المدا مة بالكبير وبالصغية
الخ ...
ومن نعوت الوزن " الترصيع " وهو السجع داخل البيت كما فى قول امرئ القيس " مخش مجش مقبل مدبر معا " .
واما نعت التقفية فهي " أن تكون عذبة الحرف سلسة المخرج " وأن تلزم فى الصدر وعجز ، وذلك هو التصريع .
ويواصل قدامه عرض النعوت حسب المنهج الذى سطره من قبل ، فيذكر نعوت المعانى ؛ وأهمها أن تكون المعانى المطروقة موافقة للغرض المقصود منسجمة معه ، وهو ما يسمى عند البلاغيين " لكل مقام مقال " . وليست المعانى عنده ما يعبر عنه فى الفرنسية بكلمة (Theme) و إنما هي الأغراض الشعرية ( genres poetiques ) من مديح وهجاء ورثاء وتشبيه ووصف ونسيب .
وتعترض قدامة فى هذا البحث قضية الغلو فى الشعر والاقتصار على الحد الاوسط فيحكم بان الغلو أجود المذهبين وبأن " أحسن الشعر أكذبه " ؛ وهو حكم جد خطير لانه يقضى على روح الشعر الذي قراره الطبع وصدق العاطفة والتجربه الشعرية . وما تعليل رأى قدامة أن " أحسن الشعر أكذبه " إلا بتأثره بالسوفسطائيين اليونانيين الذين يحتجون للشئ وضده وينكرون بالمغالطة وجود حقيقة . وما تأثر بهؤلاء فقط لأن أثر " كتاب الخطابة " وكتاب الشعر " لأرسطو جلى فى " نقد الشعر " ؛ ويشير " بونباكر " الى فقرتين فى هذا الكتاب يبدو فيهما قدامة متأثرا بـــــ " كتاب الأخلاق " لجالينوس و " كتاب المقولات " لأرسطو (1) .
غير أن قول قدامة إن " أحسن الشعر أكذبه " مستوحى أيضا من الأدب القديم . فان الشاعر العربى يمدح حينا رجلا راغبا فى ماله ويهجوه حين يضن عليه به فلا يستقر على حال . وهو لا يطالب بالصدق ولا بمراعاة القيم الأخلاقية ، وإنما يراد منه إذا تناول معنى أن يجيده . وعلى كل فان النقاد القدامى ما قصدوا بالكذب والصدق فى الشعر معناهما اللغوي وانما قصدوا المعنى الفنى أى إجادة وصف ما لا عين رأت ولا أذن سمعت كما هو شأن المعرى مثلا فى تصوير مشاهد الآخرة فى " رسالة الغفران " فصح فيه قول بعضهم " إن يكن الفنان كاذبا فان الفن صدق " .
و ينتقل قدامة الى ذكر نعوت المعانى أى الأغراض الشعرية و يبدأ بنعت المديح وهو ما قاله عمر بن الخطاب عند ذكر زهير " ألا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال " . والفضائل التى بها يمدح الرجال أربعة قد ذكرها أفلاطون و أرسطو والفارابى واخوان الصفاء والغزالى وغيرهم من الفلاسفة وجاراهم فيها قدامة و هى العقل والشجاعة والعدل والعفة . وتلك خلال رئيسية على الانفراد يتفنن الشاعر فى تركيب بعضها مع بعض فيحدث من ذلك التركيب ستة أقسام .
وإذ كان الهجاء ضد المديح يعلن قدامة على عادته في تسلسل بحثه و انسجام عناصره أن درسه لنعت المديح " قد سهل السبيل الى معرفة وجه الهجاء " . وإذ
قد حددت الفضائل التى يمدح بها الرجل ، فأضدادها هي الصفات التى يجب أن يجيء الهجاء وفقا لها " فكلما كثرت أضداد المديح فى الشعر كان أهجى " .
وليس ثمت فرق بين المراثي والمدائح عنده إلا فى الصياغة ولا أدل على ذلك من قوله : " إنه ليس من فرق بين المرثية والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك مثل " كان" و " تولى " و " قضى نحبه " وما أشبه ذلك " .
ثم يتعرض لنعت التشبيه ونعت الوصف ويختم بنعت النسيب المتميز عن الغزل " فكأن النسيب ذكر الغزل والغزل المعنى نفسه " .
الصور البلاغية :
بعد إتيانه على جميع نعوت الأغراض الشعرية واحد بعد واحد ، يتدرج قدامة الى نعوت ما يعم جميعها ، وهي الصور البلاغية ، ويعتبر نفسه واضع علم لم يسبق اليه ولذلك يصعب عليه أحيانا إيجاد المصطلحات الدقيقة . ومن الغريب أنه يبدو غير مطلع على " كتاب البديع " لابن المعتز وكتاب " البيان والتبيين " للجاحظ ، وقد ألفا قبل ظهور كتابه " نقد الشعر " ؛ ولعله تجاهلهما لأن ابن المعتز والجاحظ لم يتبعا فيهما طريقة علمية . وقد ذكر صاحب " كتاب البديع " ثلاث عشرة صورة بلاغية ، فأضاف اليها مؤلف " نقد الشعر " خمسا ، فكان عدد صوره البلاغية ثمانى عشرة .
ومتى تأملت هذا القسم الخاص بالصور البلاغية وجدت قدامة يتخبط فى أوعار فن لم يدركه أحيانا تمام الادراك إذ هو بصدد فن فى حالة مخاض ؛ وكان قدامة يشعر بأن ميدان البلاغة لم يزل زمن تأليفه " نقد الشعر " متموجا لا تستقر فيه قدم ، ناهيك بأنه يسمى الطباق مثلا تكافؤا فى قول طرفة : " بطئ عن الجلى سريع الى الخنى " ، ويعد الايغال من المحاسن فى الشعر ؛ والايغال هو أن يتم المعنى قبل القافية ، فتأتى القافية لضرورة الشعر ؛ ويعد هذا من العيوب ويسمى حشوا عند العسكرى فى " كتاب الصناعتين " وعند ابن رشيق فى " كتاب العمدة " . ومثال ذلك قول امرئ القيس :
كان فتات العهن فى كل منزل نزلن به حب القنا لم يحطم
ومعنى البيت يتم بدون ذكر " لم يحطم " .
* عيوب الشعر ( الفصل الثالث ) :
وبعد إتيانه على ما قدر أنه نعت للشعر يستهل قدامة الفصل الثالث على طريقته العلمية بقوله : " أحب أن أبتدئ بذكر عيوب الشعر وأذكر أجناس ذلك على الترتيب الذى رتبت النعوت عليه وبحسب تلك السياقة " ؛ ويسترسل فى عرض عيوب الأجناس الأربعة المفردات ( اللفظ والوزن والقافية والمعانى ) ، فيأتى عليها جميعا ، ثم يسوق عيوب الأقسام الأربعة المؤتلفة حسب المنهج الذى سلكه فى الفصل الثانى الخاص بنعوت الشعر .
تجلت لك الآن الصبغة العلمية لكتاب " نقد الشعر " وأيقنت أيضا أن طريقة قدامة تعليمية محضة ، غايتها تلقين الصناعة الشعرية . لكن هذا الكتاب حافل أيضا بالنقد التحليلى لأبيات شعرية مما يدل على أن مؤلفه ناقد صاحب ذوق فضلا عن كونه بلاغيا يعلم فن البديع والصناعة الشعرية .
* قدامة الناقد :
ولعل أهم ما احتواه فصل عيوب الشعر ما ذكره قدامة عن شاعر جاءه يستفتيه فى بيتين من الشعر هما :
فيا أيها الحيران فى ظلم الدجى ومن خاف أن يلقاه بغى من العدى
تعال إليه تلق من نور وجهه ضياء ومن كفيه بحرا من الندى
قال قدامة : " وقد كان الرجل يسمعنى كثيرا أخوض فى أشياء من نقد الشعر فيعى بعض ذلك ويستجيد الطريق التى أوضحها له . فلما وقع هذان البيتان فى قصيدة له ، ولاح له ما فيهما من العيب ولم يتحققه ، صار الى وذكر أنه عرضهما على جماعة من الشعراء وغيرهم ممن ظن أن عنده مفتاحا له وأن بعضهم جوزهما وبعضهم شعر بالعيب فيهما ولم يقدر على شرحه " (( I .
فهذه الفقرة جد مفيدة لتبين الفرق بين نقد الشعر وتأليفه . فالأديب يقرأ القصيدة ويتذوقها إن كانت جيدة ويمجها إن كانت رديئة ، ولكنه قد لا يستطيع إبراز نعوتها وعيوبها . أما الناقد فهو يفهم القصيدة ويتذوقها أو لا يتذوقها ، ثم يستطيع شرحها وإبراز نعوتها وعيوبها قبل أن يصدر عليها حكمه . وهذا ما جرى لقدامة مع الشاعر الذى جاء يستفتيه فى بيتين له . فهو فخور بأن له آلة فى النقد يستجيدها الناس ؛ ولئن كان ناقدا ذائع الصيت فى عصره حسب ما يظهر فى الفقرة المتقدمة فقد كان يشرح الشعر ويعلل نعوته وعيوبه على ضوء القواعد التى سطرها من قبل فى كتابه " نقد الشعر " ؛ وذلك ما لم يقبله نقدة أعلام كالقاضى الجرجانى والآمدى اقتنعوا بأن النقد الأدبى هو تجنب إخضاع الأدب لقواعد مضبوطة من قبل مع الحرص على فهم الأثر وإفهامه لمن يطلبه وإبراز نعوته وعيوبه قبل الحكم عليه .
ومهما غلط قدامة فى نقد الشعر ، فمن الانصاف أن يعترف له ببعض المزايا كوضعه قواعد وضبطه المصطلحات وتحديده مفاهيمها فى فن البلاغة ، ومحاولته الخروج من النقد الفوضوى الى النقد المنهجى . غير أن غلطه متمثل فى جعل الشعر عملية عقلية تقوم على إحصائيات وقواعد مما أدى بالنقد الأدباء أمثال القاضى الجرجانى و الآمدى وابن شرف وابن شهيد وغيرهم كثير الى الاعراض عن كتابه " نقد الشعر " .

