الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "الفكر"

لماذا التاريخ ؟

Share

تستوجب حياة الامة مواد غذائية عديدة مختلفة نطلب بعضها من علماء الاقتصاد والساهرين على النشاطات الاقتصادية من صناعة وفلاحة وتجارة ونطلب بعضها الآخر من المعلمين الذين يسهرون على تنمية الروح والعقل . والانسان فى حاجة الى تغذية الجسد ولعله فى حاجة اشد الى كل ما يغذى حياته العقلية العاطفية ولعل نمو الانسان وتفتحه ويناعته رهن تغذية جسمه وعقله . قلنا ان ارباب الاقتصاد يوجهون اهتمامهم نحو كل ما ييسر للانسان وسائل العيش وعلى المعلمين أن يبحثوا عن الوسائل الملائمة لتعليم النشئ وتثقيفه حتى يكون نشءا صالحا قادرا على السير قدما ويشارك فى بناء صرح الحضارة فى بلاده والحاقها بموكب الامم الراقية المزدهرة فى شتى الميادين .

لا شك أن المعلم يلعب فى جميع المراحل التربوية دورا عظيما فى تلقين المعرفة كما يلعب دورا ذا شان فى بث روح الوطنية وتنميتها فى نفوس الشباب ونحن نؤمن بمسؤولية المعلم فى هذا الميدان الاساسى بالنسبة لحياة الشعوب . فما هى الوسائل التى يمكن للمعلم أن يتوخاها حتى يكون درسه درس علم وثقافة . إن الطرق عديدة والنظريات مختلفة وليس رائدنا عرض تلك النظريات والتعمق فيها بل وددنا أن نفصح عن خواطر فى طرق استغلال درس التاريخ حتى يكون درسا فى التاريخ ودرسا فى تنمية روح الوطنية دون أن تختل وحدته .

ليس من العسير على المعلم أن يجعل من درسه درسا فى بث روح الوطنية وتنميتها فى نفوس الشباب لأن التاريخ مادة أصلا وجوهرا تخلق روح الوطنية فى نفس الشاب وتجعله يحن لوطنه ويعمل لصالحه يفديه بروحه وبأعز ما لديه لذلك ترى الشعوب تهتم بتاريخها القومى وكان ذلك منذ العصور الساحقة ويصح أن نقول : بدأ اهتمام الشعوب بالتاريخ عندما بزغت شمس الحضارة على كوكبنا فأقدم الاقطار حضارة أقدمها اهتماما بالتاريخ إن بلاد ما بين النهرين قد تكون أعرق البلدان حضارة ونجد بها منذ الألف الثالثة قبل المسيح ألواحا من صلصال كالفخار رسمت عليها كتابة مسمارية تقص علينا بعض المراحل التى مرت بها المدن السميارية البابلية . رسموا على بعضها قائمة الملوك الذين تبوؤوا عرش تلك المدن كأور وكيش ولاجش وغيرها . وفى الالواح ما يوقفنا على ايام جوديا وايام حمورابى . وقصارى القول ان الامم المتحضرة قد عنيت بتاريخها القومى فالاهتمام بالتاريخ ينبئ بالحضارة

وحضارة قوم تنبئ يتوجيه اهتمامه نحو التاريخ وذلك لأنه يغذيها تغدية روحية أدبية يجعلها تشعر بذاتها وكيانها ويؤازرها فى تشييد صرح حضارتها وتركيز شخصيتها .

اهتم القدماء بتاريخهم ليتباهوا بماضيهم واعتقادا منهم ان دراسة التاريخ تمكن الاجيال الصاعدة من الاستفادة بما جربه الاجداد . ففى التجارب حكم وفى الحكم فوائد شتى . يبدو أن حنبعل قد اهتم اهتماما كبيرا بتاريخ بلاده أى قرطاجة وخاصة بتاريخها العسكرى وقد اهتم أيضا بتاريخ اسكندر المقدونى واستنتج من ذلك العبر والفوائد التى مكنته من رسم خططه الحربية بفضلها ويفضل عبقريته الخلاقة كاد أن يهيمن على روما نفسها فدراسة التاريخ فى رأى القدماء توقف النشء على ما صلح فيقتدى به وتوقفه على ما فسد فيبتعد عنه . وقال المؤرخ الافريقى الشهير ابن خلدون فى هذا الصدد : (( اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على احوال الماضيين من الامم فى أخلاقهم والانبياء فى سيرهم والملوك فى دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء فى ذلك لمن يرومه فى أحوال الدين والدنيا .

هذا ولا شك أن التاريخ بالنسبة لنا عنصر من العناصر التى ترتكز عليها القومية كما بينه المجاهد الاكبر زعيمنا ورئيس جمهوريتنا بيانا ضافيا فى الخطاب الذى ألقاه بمدينة الكاف بمحضر ثلة من المؤرخين التونسيين فى شهر مارس سنة 1964 ومما جاء فى الخطاب التاريخى العظيم قول فخامته : (( أجل ان الحياة المادية موجودة فى هذه الامة منذ قرون إلا أن جسدها كان ممزقا طرائق قددا وعملنا بواسطة المخطط العلمى القائم على أساس منظم وجدى يرمى لجعله جسدا يزداد كل يوم تماسكا والتحاما وأحسن شئ على نجاح ما نحن قائمون به هو معرفته لماضيه وما عمله أباؤه وأجداد أجداده . فأولا لا بد أن يشعر المرء بشئ من الاعتزاز حين يعرف أنه ليس قطعة منفصلة أتت بها سيول الاودية وأن تاريخه لم يبتدئ منذ عشرين أو ثلاثين سنة ٠٠٠٠ على الاقل يجب أن يعرف المرء الاسباب الحقيقية للتخلف الذى اعترانا فى فترات الانحلال والضعف لكى يقع تجنبها ويستطيع على ضوئها توجيه الشباب . . . . . ويضيف زعيمنا الجليل قائلا : فعلى أديم هذه الارض وفى هذه الجبال بالذات وعلى هضاب وسلات كم دارت من معارك بين الباشية والحبسينية وكم قاست هذه الربوع من ويلات ونكبات من غزوات الاسبان والفرنسيس ومن قبلهم الايطاليين وأهل بيزه والبندقية بحيث أن عملا كالذى أشير به وأدعو اليه يكون عملا عظيما يرتكز عليه بناء هذه الامة وبناء قوميتها على أساس متين . ))

إن القومية إطار يعسر على الانسان خارجه تكوين شخصيته وتركيزها ولئن كانت شخصية الفرد ضعيفة مذبذبة ليس لديها ما تستند اليه لا يمكن لعبقرية الفرد أن تتفتح وتدرك أوج يناعتها فالقومية للشخصية كالتربة للنبات . فاهتمامنا بالتاريخ ييسر لنا تركيز قوميتنا على أسس متينة لا تتزعزع . ان رقعة الارض التى أنشأتنا ومدتنا بوسائل العيش قد تكون عنصرا من العناصر التى تبث فينا روح القومية وتدعمها غير أنها لا تكفينا مؤونة فبدراسة التاريخ نشعر جميعا فى مستوى العقل والعاطفة بالروابط المتينة التى تصل بيننا روابط نسجتها الحوادث التى مرت بنا والاحوال التى انتابتنا خلال العصور الغابرة كالكوارث التى أصابتنا وأيام العزة التى عشنا . والشعور بتلك الروابط فى مستوى العقل والعاطفة يجعلنا نعتقد اعتقاد راسخا ان لا تناطح فى مصالحنا ويبدو جليا أن فى مصلحة الوطن مصلحة الفرد وان مصلحة المجموعة تتماشى منسجمة مع مصلحة الفرد . سبق أن قلنا إن التاريخ مادة تعمل من حيث أصلها وجوهرها على بث روح الوطنية وتنميتها فى نفوس الشباب قلنا ذلك لانه يفضى بنا الى ذلك الشعور النبيل بانسجام أفراد الامة جميعهم . ولئن وصل شعب الى مستوى هذا الشعور كتب له مستقبل زاهر وحقق له النصر فى شتى الميادين ولئن نبت هذا الشعور ونما فى شعب من الشعوب خرج ذلك الشعب من الظلمات الى النور وبالنسبة الى عصرنا هذا خرج منتصرا فى معركته ضد التخلف .

فبالنسبة للشعوب المتخلفة دراسة التاريخ تساهم بقسط وافر كبير فى الحرب التى نشنها يوميا ضد التخلف عدو الشعوب والافراد لان السبب الحقيقى حسب رأينا للتخلف الاقتصادى والاجتماعى هو التخلف الفكرى والضعف والذبذبة النفسانية التى تبدو غالبا جلية على طريق ما يسمونه بالمركبات أو العقد النفسانية المختلفة الانواع . فدراسة التاريخ نقوى روح القومية فينا ونركزها تركيزا صحيحا والقومية المتينة المركزة تمكن الانسان من التفتح فتنمو فيه كل امكانياته ومواهبه وتأتى باحسن النتائج للفرد والمجموعة وتلك هى الوطنية التى نسعى وراءها ، ونناضل لبثها وتنميتها فى نفوس الشباب فبدراسة التاريخ نشارك مباشرة فى تحقيق الهدف النبيل خروجنا من التخلف .

الامر الذى يحتم علينا الاهتمام بتاريخنا القومى بحديثه وقديمه وينبغى ان نعيد النظر فيما صنفه الغربيون حول ماضينا وحضارتنا العتيقة . فكثيرا ما حاولوا التشويه كذبا وبهتانا بصفة شعورية او لا شعورية مما تتسبب فيه ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية دخلت طور الانقراض . فمنهم من كان يؤمن بعجز أهل المغرب العربى الكبير على تكوين دولة وأبت رجال هذا المغرب العربى الا ان يفندوا أقوال المستعمر الغاصب حتى أجبر على تغيير لهجته وبات يتجاهل النظريات التى كان يدافع عنها رغم سقمها ويتباهى بها لاهداف يريد تحقيقها . ولئن أنكروا علينا حضارتنا وشوهوا ماضينا فذلك

اكبر مصداق واسطع دليل يشهد بفاعلية دراسة التاريخ فى تكوين القومية وتدعيمها . فاذا سطا قوم على قوم تراهم يبادرون بالقضاء على تاريخ المستعبدين المقهورين حتى لا يجدوا الاسمنت الضرورى لوحدتهم واسترجاع حريتهم . كل ذلك يزيدنا حرصا على دراسة التاريخ وتدريسه .

ومما يجعل من درس التاريخ درسا فى بث الروح الوطنية فى نفوس الشاب وتنميتها فيهم ربط الماضى بالحاضر وللمعلم طرق عديدة تيسر له الوصول الى ذلك ولكن لنأخذ مثلا يوضح ما نقول : لنفترض معلما يلقى درسا فى ثورة الشعوب الصقالبة ونهضتهم فلا شك انه يتعرض الى الدور الذى قام به شفاريك Schaffarick  فى بث الروح الوطنية فى نفوس الصقالبة وكان ذلك بواسطة رسالة ألفها حول الآثار الصقلية التى تثبت كيان الشخصية الصقلبية . ولما آمنت تلك الشعوب بوجودها هبت لتكسير سلسلة العبودية وفي اثناء حديثه يمكن للمعلم ان يفتح قوسا لربط احداث جرت فى اروبا الشرقية فى القرن التاسع عشر بما جرى فى تونس أيام كفاحها من أجل الحرية والحياة . كان المجاهد الاكبر أيام المحنة شديد الحرص على كل مظاهر الشخصية التونسية يسهر على كيانها ويناضل من أجل بقائها وثباتها فى ظروف عسيرة قاسية أراد الاستعمار استغلالها للقضاء على الشعب التونسى بالقضاء على شخصيته وميزاتها وخابت مساعى الاستعمار وكتب النجاح لأولئك الذين قدموا انفسهم قربانا للشخصية التونسية وعقدوا العزم على الوقوف ثابتين فى وجه العدو مهما عظم بطشه . أعتقد أن ربط الماضى بالحاضر أمر ضرورى لتكوين الاجيال الصاعدة التى لم تعش ظروف المحنة ولم تسمع الا القليل عما مرت به ارض بلادنا منذ قال الحبيب (( لا )) الى اليوم الذى رجع الينا مظفرا بل إلى اليوم الذى نعيشه ونسعد فيه بمشاهدة الخطوات التى تخطوها تونس نحو التقدم والازدهار فما اسعدنا ويعود الفضل الى الذين امنوا بكيان هاته الامة فاتجهوا نحوها ينادونها فهبت .

اشترك في نشرتنا البريدية