كنت أقدر قبلا انه سيتاح لى ما يحملنى على الكتابة عن وادى جازان وذلك حينما كنت مواصلا البحث في مجلة المنهل في حلقات متلاحققة ، تحت عنوان : ( تهامة فى التاريخ ) غير انه كانت تقف على ناصية الطريق عوامل عديدة حالت دون ذلك . أما الآن وقد دخل هذا الوادى فى التاريخ بسده العملاق سد وادى جازان الذى تكلل
* مآتيه وروافده * الفيضان العارم * سده العملاق * عامل الشكر والتقدير
فى النهاية بالنجاح فسيكون الحديث في هاتين الناحيتين آخذا بعضه برقاب بعض ، ومهما كانت الاحاطة والشمول ، سواء أكانت من الناحية
التاريخية أم الاقليمية . والحديث عن مآتي السد وروافده وفيضانه العالى ومن أين يبدأ هذا الوادى والى اين ينتهى به المطاف وما يمر به فى رحلاته من اقاليم ثلاثة : اقليم جبلي ، وآخر حزنى ، وثالث سهلى ، ثم كيف سيؤاتى عامل الشكر والتقدير لمشروع مهول لم يكن انشاؤه للجيل الحاضر فحسب بقدر ما هو بناء للحاضر وامتداد في المنفع للأجيال القادمة عبر التاريخ .
اذن فالبحث شائق ومستفيض ، وهناك أسطر فى تاريخ ينقصها الشمول وتنقصها الاحاطة ايضا فلعل الحظ يواتينى فى تقديم رسالة بين الامس واليوم لكل عملاق بناء فى منطقة الجنوب وهى لعمرى من الكثرة بمكان أما الحديث الآن فهو ينصب على وادى جازان ومشروعه الفذ ، وأنا كواحد من أبناء هذه المنطقة يستفيد من هذا
الوادى حينما يجود علينا بلون عنف ونقدم الثمن غاليا حينما يتمرد علينا بفيضان عارم يجرف العقوم ويأخذ فى طريقه الانسان والحيوان ويحيل ارضا زراعية خصبة الى سهل أجرد ويقطع الاتصال بيني وبين البادية ويحيل مسبحى
الهادئ في مدينة جازان الى مياه ضحلة بفعل مادة الطمى أو مادة السلت كما تسميها كتب الزراعة ويجعل المدينة التى يحيط بها البحر من الشمال والجنوب والغرب والوادى عند فيضانه العالى من شرق مدينة جازان يجعلها شبه جزيرة عائمة كمدينة كشمير .
كل ذلك يصنعه الوادى العملاق فى كل موسم خريف غالبا .
خرافات الاقدمين
ولقد كان الاقدمون يعزون تدفق كل جدول ونبع من الماء إلى حورية أو جنية فكان الرومان يركعون امام الآبار والنافورات ، وكانت الصين تركع فى شبه دائرة فى عيد منتصف الخريف ، والمصريون كانوا يقدمون فتاة حسنة للنيل فى كل عام ويعتبرون ذلك وقاء وكرما للماء . ان الماء صديق الانسان
منذ وجد الانسان على الارض ولقد عظم الله جلت قدرته شأن الماء فقال : ( وجعلنا من الماء كل شئ حى ) ( ورزقكم فى السماء وما توعدون ) ، فالغلاف الجوى لا يمطر ذهبا ولا فضة حتى الاصداف يهزها التيار . فتأخذ نصيبها من الماء ، والأرض كالحسناء تهز منكبيها لقبلات المطر .
اخى القارئ : ربما خرجت بك عن الموضوع الذى التزمت لك الكتابة فيه موضوع سد وادى جازان العملاق وواديه العظيم وما خرجت الا لأجذب اليك اطراف البحث
ان الحديث ذو شجون ، والشئ بالشى يذكر ، كما قال الشاعر :
ذكرت جبين العامرية إذ بدا
هلال الدجى والشئ بالشئ يذكر
مصاب وادي جازان
لنعد بعقرب الزمان الى الوراء قليلا فأقول : تبدا مصاب وادى جازان ومآتيه من قمم جبال بني قيس وجبل بنى مالك وجبال سلاء وهى أقاليم جبلية سعودية عربية فيمر هابطا محاذيا السهل الحزنى . وفى كل رحلة من هذه الرحلات يلتقف روافد وشعابا أخرى يطلق على كل مسيل منهما اسم الوادى وتجتمع الاودية فى مجرى واحد فيتدفق السيل عبر مضيق بين جبلين وضعت على كتفيهما أقدام السد .
ومن هذا المضيق ، وقد جمعت له روافده ومآتيه ، يطل على مزارع تهامة منطلقا من عقاله بفيضان عال فتلتقفه العقوم التى تقام لتنظيم تصريف الرى وفى كل عام يجعل تلك العقوم التى يبذل المزارعون الجهد والمال فى اقامتها ، يجعلها كأنها مقامة على كف عفريت خصوصا اذا انتظمت له روافده ومآتيه فيضم جميع المزارع الممتدة فى طريق مجراه ، وفى ليلة واحدة يدق باب المطلع لمدينة جازان فيذهب المال ويذهب معه جهد المزارع ، يحدث ذلك عند كل فيضان عال وقبل أن تأخذ الحكومة بزمامه وقبل ان تلجم أواذيه بسده العملاق .
هذا هو وادى جازن ومآسيه قبلا وما قدمته لك عنه هنا هو غيض من فيض .
أما الحديث عن السد عن الناحية الاقتصادية وانعاش المنطقة فقد أفاضت فيه وزارة الزراعة . . أما انا
اما كيف بدأ هذا السد والعوامل التى تأثر بها ، ومتى بدأ العمل الجاد المثمر فى تشييده ، وأحاسيسنا عندما كان المشروع بين مد وجزر فأقول :
أول ما قامت به الحكومة الاستطلاع الجوى للمنطقة وعلى أساس الخرائط وتماسك التربة والمعدل المطرى وملاءمة الموقع ومن ثم تقرر انشاء سد لوادى جازان وبدأت الدراسات التمهيدية ، وكان ذلك فى عام ١٣٧٣ بيد ان عملية التنفيذ كانت غير مرئة . وفى عام ١٣٨٣ هـ أى بعد عشر
سنين استؤنفت الدراسات مرة اخرى بغية اخراج المشروع من حيز التصميم الى حيز التنفيذ ، الا انه توقف مرة اخرى وظل المشروع كالغريق المستغيث وقد ألجمه الماء وظللنا معه سابحين بين الخيال والتصور وذلك بفعل ما كان يسيطر على مشاعرنا من تلك الرؤية التى فقدنا معها قابلية التمييز .
وفى خريف عام ١٣٨٦ انتشله سيد الاصلاح ( فيصل بن عبد العزيز ) من ذلك
الغرق ، فكانت الدراسات مرنة ومثمرة . وكان العمل جادا وفعالا ، فاذا بالخيال وقد أضحى حقيقة واقعة .
وعندما تكون الدراسات على أسس متينة وركيزة ثابتة ، ويقف الى جانبها العزم والتصميم والجهد والمال تتم عملية التنفيذ . . وهكذا رفع بناء سد وادى جازان العملاق في الآفاق ، هذا السد الذى سينظم بحول الله تعالى رى الارضين الجافة بشكل عملى ويحيل الغامر منها إلى عامر ، ويقيم حاجزا فاصلا وحاسما لتلك القيضانات العارمة ، التى كانت قبلا تهلك الحرث والنسل ، انه يضيف لبنة ثابتة في صرح البناء ان شاء الله ، ويكتب صفحة مشرقة في تاريخ الفيصل المعظم انه خطوة خير مباركة , وخطوة تطوير وازدهار ، وكل عمل يكلل بالنجاح لا يفى به عامل الشكر والتقدير ، ومع ذلك أقول : شكرا جزيلا عن الاعماق . ولا يشكر الله من لا يشكر الناس .
