الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

لم يولد

Share

قصة

أحس به فى هذه اللحظة فقط . . ولكنه احساس متجدد . . كأنه كان منذ الازل فى دمه . . منذ أن كان وجوده . . بل قبل أن يكون له وجود . .

وهو لا يعرف السبب فى أن يستيقظ احساسه به فى هذه اللحظة . . اهو الرغبة فى ان يعرفه اكثر من معرفة الاحساس التى تغمره لحظة . . او لحظات ، ثم لا تلبث ان تتلاشى بعد حين . . ام ان هناك سببا آخر لا يدركه الآن ؟ !

ولكن الذي يدركه حقا . . هو أن احساسيه به . . يزداد عمقا . . وغوصا فى داخله على مر الايام . . حقيقة قد يتناسى هذا الاحساس مرة . . وقد يتغابى عنه مرة . . وقد يأخذه مأخذ اللهو مرة . . ولكن الشئ الاكثر حقيقة . . بل الشئ الابعد من الحقيقة . . هو أن هذا الاحساس قد بدأ يستولى عليه تماما . . تماما . . لا يجد منه مفرا في النهار . . فى زحمة العمل . . ولا يقدر على الابتعاد عنه ليلا . . عندما يلفه السكون فى غرفته . . احساس كان باهتا . . يزداد اشراقا رغما عنه يوما بعد يوم بل يتحول الى كيان حى . . يجرى . . أمامه . . فى رعونة التفتح . والاندفاع . .

- لا . . تعال - بابا . . ته وفى بداية تعلمه الكلام . . كانت هناك بداية للحياة لشىء أراده أن يكون بعيدا عن ذاته . . عن داخله . . ورد عليه

يا ولد . . يا شقى . احقا هو شقي . . لا . . انها صفة اطلقها عليه فى لحظة ود ان يطلقها على نفسه . . على كيانه . . وجرى أمامه فى سرعة عجيبة . . لم يعرف كيف قدر عليها . . بل كيف وجدت مثل هذه المقدرة فى كيانه الصغير

- يا ولد . . ترى لماذا يسميه بهذا الشمول . . ولماذا لم يناد عليه باسمه الذى أطلقه

عليه يوم أن خرج الى الوجود .

الوجود . . وقبل ذلك أين كان ؟ كان في الوجود . . ولكن بكيفية غير هذه الكيفية كان فى بطن امه . . عانت وجوده الارعن فى بطنها شهورا . . ترى هل كان احساس امه به هو الاحساس الحقيقي وحده . .

تلقفت بذرته فى لحظة ، وبدأ ينمو مع الايام . . بل مع لحظات حياتها . . كل لحظة كان له معها شأن جديد . . وكان شأنه يكبر . . وكلما أخذ فى النمو داخلها أخذت العوارض التى لم تعدها تظهر . . بل لقد غيرت هذه العوارض مجرى حياتها . . وكلمة " أوف " كثيرا ما رددتها . . ورأسها الدائخر كثيرا ما أرقدها ، وجوفها المتقلب كثيرا ما أفرغت ما فيه من فمها . . وكلمات كثيرة متعطلة داخل وجدانها . . ولكن عينيها تقولان بعضها .

- يا لطيف - كل شئ بسيط . - أنت لا تحس بما أعاني أخفا هو لا يحس بما تعانيه ؟ - لا أنا أحس أكثر منك ! ودائما ما تتوقف الكلمات الصامتة بينهما . . ويتعلق بعضها فى الجو كانها قد نشرت على حبل غير مرئى

وهل ينفع الكلام في بعض اللحظات . . ولكن لابد من أن يقول لها كلمات كثيرة . . كلمات قد لا تعبر عن معانيها لحظات الصمت .

يريدان يقول انه يحس به وهو ينمو فى بطنها . . يحسه كانما ينمو فى داخله هو . . ويتحرك . . بل ويجرى . . فهو ابنه الذى ينتظره ويضمه بوجدانه . . وظنها تكلمه أثناء ما فكر فى ذلك

- هه - لم أقل شيئا . . أحقا لم تقل شيئا لا . . لقد حدثته . . وان لم تنطق حديثها . . فهى ترد عليه دائما . . ولا تترك حديثه لنفسه من غير رد . . قالت " انك لم تحسه احساسي . .

انك تحسه بوجدانك فقط . . برغبتك في أن يكون لك أبن . . أما أنا . . فانه يتكون بداخلى . . قد يضرني أحيانا . . وقد يميتني . . وأنا أتحمل صامتة . . فى حب . . كيانى كله يحبه . . يريده حتى وان كان فى وجوده هلاكى . . أما أنت . . " وسكنت خواطرها عندما قاطعها . . ما ارعنه . لماذا لم يتركها تتم . . حتى يعرف كل ما فى أعماقها . . ولكن أحقا قد قالت هي كل ذلك ؟ ! لا بد وأن تكون قد قالته . . فنفساهما على اتصال دائم . . ولم تعوده الايام ان يخمن خطا ففهمه لما بينهما من حديث صامت دائم . . فهم صحيح . . ونهض مسرعا ، واوقد سيجارا واتجه الى النافذة . . فلا بد من أن يرد على خواطرها . . والا أحست بتغلبها عليه ولكن أليس

في حديثها صدق واحساس .. ؟ ألم تقل ما قالته وهى مخلصة . . معانية . . ؟

وجاءه الجواب من أعماقها بعد أن اختلطت بأعماقه : " أنا صادقة . . وأعرف أنك ستغضب من نبرة الاعتزاز . . كما أعرف أنك لن تقبل ذلك فى بساطة . . وأدرك أن احساسك به ربما سبق احساسي . . ولكن ألا بد لك من هذا التمسك الصارم بالموقف . . انه ابنى . . وهو ابنك . . انه شىء أكبر من التحديد . . والاقتسام . . أتسمع . . " وسمع وضحك فى تودد . . واقترب منها فجأة . . قفزعت ، ولكنها استكانت اليه . .

وكبر من فى بطنها . . وكثرت مضايقاته . . فهو يريد أن يخرج الى الوجود . . أحقا اشتاق الى الوجود . .

نعم . . فهو يريدني . . أنا . . يريد ان يعيش بيننا كائنا له وجوده . . فهو يحس بوجوده . . لا . . لا . . هو لا يدرك وجوده . . ولكنه يحسه . . فهل يعرفه ؟

واستيقظ فجأة كأن شيئا لدغه . . فى أعقاب ليلة مجهدة . . والظلام حولهما يسيطر فى قوة . . ترى لم أطفأت المصباح . . ؟

وهي اين هى؟ ومد يده مترفقا . . ولكن رعشة هائلة تسيطر عليه . . حتى انه لم يحس بأنفاسها وهى تتردد الى جانبه فى هدوء . .

وصدمت يده صدرها ، فاستيقظت : - ماذا ؟ لا شئ !

- إذا . . - أطفات المصباح - كان الضوء يضايقني . . أخفت من الظلام ؟ ! - لا ولكن - ... - ولكن ...

ولم تشأ أن تثير كلماته . . فتركته يردد هذه الكلمة . . والنعاس مازال يسطير عليها . . ورغبة فى أعماقها أن تتركه منفردا . .

وتضايق من وحدته فى الليل . . وليس من عادتها أن تتركه مستوحدا فى الليل . .

هل أحست به في احشائها يؤنسها . . فلم تعد فى حاجة الى ايناسه ؟ أما أنا . . فاني أريده الآن . . الآن فى هذه اللحظة من الليل الهادئة . . سيكون هادئا . . لا يثير الصخب . . ونظراته تائهة باحثة عن ادراك ما حولها . . نظراته كنظراتى . . بل هى نظراتى غير الواعية .

وأمد له يدى أناغيه . . ويحرك يده . . وأقبلها . . وابتسم . . وأضحك . . وأحمله وأنا أجرى . . وأحمله وأنا جالس . . وأمه بعيدة . . تتركه كأنها لا تهتم به . . وهي فى قرارة نفسها تتابعه . . وعندما اهتزت يداى . . وكاد يسقط منى . . جفلت فى مكانها . . وكنت أحسبها عنا لاهية . .

- وقت عملك . . ؟ ! - نعم - ميعاد العمل ؟ ويتجاهل تنبيهها . . ولا تتركه . . وتعلق ساخرة : - كأنك أنت أمه ! وتضحك . . ويجيبها - أنا أمه . . وأبوه . . ويشرق وجهها . . كانما انبلج فيه ضوء جديد غامر يأتي من بقعة

بعيدة . . بعيدة . . لا . . انه لا يأتى من مكان . . ضوء مطلق يملا الدنيا حوله . . ويمد يده ليكلمها فى الوقت الذى حمل ابنه . . باليد الثانية . . ليضمهما الى صدره . . الى أعماقه البعيده فيشمل الضوء فى الوقت الذى يشمله فيه الضوء . .

ويسقط المصباح بعدما لطمته يده . . ويكاد الظلام يشمل الغرفة . . الا أنه يسارع باعادة المصباح الى مكانه !

ولكن هو أين كان بأمانيه وأحلامه ؟ ! لقد جعله الاجهاد والسهر المتوالى . . يعيش فى أمنياته . . يعيش فى اعماق البعيدة . . وكانت لحظات عاد بعدها الى وحدته . . فى غرفته المنفردة فوق سطح أحد المنازل البعيدة . . والليل حوله ساكن . . والمدينة غافية . والاحلام الكبيرة والصغيرة . . تملا الجو حوله . . وردد فى نفسه

- أما احلامى . . فربما كانت حقيقة . . انها حقيقتى التى لم يعرفها أحد ٠٠ ؟ !

ونهض ليبقى واقفا مدة من الزمن يعود بعدها الى متابعة ما يكتب فى تدفق . . وقد علت شفتيه بسمة آملة حنون . . ونظراته تخترق الجدار الذى أمامه محاولة الوصول الى المستقبل

اشترك في نشرتنا البريدية