الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

لهاث عداء على طريق موحل

Share

الى الذين يعملون ويكدحون ولا يجدون شيئا . والى الذين يرقصون ويعبئون فيجدون كل شئ . الى اولئك وهؤلاء أهدى هذه السطور . ن . ب .

تضخم الحلم الذى فى رأسك ليلة سفرك الى العاصمة ، وملأ عليك كيانك . . لقد حلمت منذ أن كنت طفلا صغيرا تسير مع أمك بين أشجار الخوخ واللوز بسياحة طويلة تحقق فيها أحلامك .

خفق قلبك فى تلك الليلة ، لانك عرفت أنك مسكت الطائر الابيض الجميل من ريشه وستقبض بعد أمد على رقبته لتضعه فى قفص حياتك . . خيل اليك أنك صرت كاتبا عظيما يهاب الناس قلمه هيبتهم للسلطة ، فاننتشر صيتك فى الآفاق ، وتزاحمت الجميلات على أعتاب بابك . . . مثلما كن يتزاحمن عليك عندما كنت تلقى عليهن حزما من تفاهاتك ، وأحلامك بالطائر الابيض الجميل . أبت . . فوجدت أهلك وجيرانك حولك يثرثرون ، وقد انسان الضحك فرقعات من أفواههم . تحلقوا حولك لتوديعك . وانشغل العم بشير بمعبوده الشاى . وانثنى مبروك فى ركن الغرفة يتمسح بحجرة قديمة للتبرك .

أطياف النوم فى تلك الليلة خفيفة كريش الطائر الجميل الذى مسح على وجهك بريشه الناعم . وحام فوق رأسك منشدا نغما طالما تردد فى أعماقك .. فى الصباح ، سارت عائلتك معك وراء الحمار الاشهب اللاهت تحت أخيك وزنبيلا تكور بأدباشك وحقائبك .

قال لك والدك وصوته طائر فى ليلة مثلجة : لقد يبست قناتى ، وأثقل كاهلى . . وتلمظ لاستقبالى الطين . فأنا فى انتظارك لتسقى ما يبس منى كى أسير على الطريق أشواطا أخرى . ..

صمت فى حزن . وأومأت برأسك فى تأثر . وفكرت عندئذ فى صورة

بشعة مخيفة ، لا تستطيع تحديد ملامحها وهى تجد وراءك ووراء أمك وأيبك واخوتك ووراء كل الناس . . تجد وراءهم فتبتلعهم بالجملة ...

كدت تبكى . لكنه مسك بيده يدك فى تلك اللحظة ، وحدجك بعينين شاهدتا منذ العبور ، مصرع الحياة الدائم تحت أقدام حيوان أسود أسطورى . . حركك بقوة ، وكلمك بحزم : كن رجلا . ودعك ورجع . أما أمك فقد اشتعلت نفسها بلهب الغروب وأبت الرجوع الا بعد أن تسير معك مسافة طويلة .

قالت لك وقد وضعت يدها على كتفك برفق أورقت منه عواطفك : - متى ستعود ؟

- بعد سنة أو بعد ستة أشهر حسب ما تسمح به الدروس . أحنت رأسها . فجرت الدموع تسكابا من عينيها . وناشدتك أن لا تطيل الغياب .

فى لحظة الوداع مالت عليك وأسرت فى أذنك : لا تنس وعدك ، ولا تفعل مثل خالك ف " زينب " متسمية عليك " .

فى الطريق الى المحطة فكرت فى القرط الذهبى الذى وعدت به أمك . . وضحكت بحسرة من خوف أمك . . . مر فى ذاكرتك جبران الذى كان القبس الاول والعش الدافئ الذى يأوى اليه الطائر الابيض الجميل ، ذو الريش الرقيق الناعم . . لقد شغفت بتحديه الطقوس ، وعفن البيئة وضيقها . . . كنت تحاول أن تكون مثله فى أبعاده وامتداداته . . لذلك كان قلبك يرتعش عندما ترى الطائر الابيض ينحدر ليشرب من برك خالطها الناموس والغبار والقش ، ونمت الطحالب الخضراء فوق مائها . . .

فى المحطة ودعك أخوك ، واعتلى الحمار الاشهب ، وأخذ الطريق واتحة للجنوب ٠٠٠

كنت داخل الحافلة تنظر لمن حولك فى سهوم ، والنافذة التى جلست حذوها شاشه تمر الصور عليها تباعا . فتبدو لك أشجار الزيتون واللوز والصفصاف فى عدو مستمر .

فى طريقك لاح لك قصر رقاده الجديد ، فأنبرت فكرة على سطح أحلامك ، منتفخة كالفقاعة ، فتضخمت وتكورت ، وبرز لك من داخلها الطائر الابيض الجميل . حدثك بأغاريده عن البناية الجميلة التى فكرت فى اقامتها على الربوة العالية التى أخرتها ذات يوم عندما كنت تسير بين حقول والدك ، وسنابل لقمح والشعير عذاب منكسات الرؤوس متدليات الشعور .

قال لك الطائر الابيض الجميل وأغرودة حالمه تنبعث من منقاره : " البناية العالية ، المطلة على الطبيعة ، ستضمك والمرأة الجميلة المنتظرة .

فى عطل الصيف حينما ترجع من العاصمة مكدودا من العمل الكثير ، والكتابة الكثيرة ، يحلو لك الغزل هناك مع من تحب على مشهد من الطبيعة . ومع أنسام الفجر ، وأنسام المساء ترتاح أعصابك ، ويذهب لكد من جسمك والصداع من رأسك . فتتأمل على مهل طبيعة الحياة ونظام الوجود ، وتستلهم من صمت الريف أفكارا عجز عنها الاولون . وتستوحى من العينين الجميلتين اللتين تطالعاك صباح مساء محبة دافقة ، تطفئ بها لهب النفوس العطشى للحب والسلام " . غاب الطائر الابيض الجميل بين غياهب الضباب ، ولاحت لك القيروان حاثية فى سهلها المنبسط تحدث الايام بشفاه مرتعشية عن مجد غابر .

خفق قلبك ، ووددت أن لو تطير على ظهر العنقاء التى حدثتك عنها جدتك عندما كنت صغيرا تنام معها على حشية واحدة وددت أن تطوى المراحل كى تصل الى العاصمة وتلتقى بهند ... هند التى فرقت بينك وبينها عطلة الصف واتفقتما على اللقاء فى الجامعة . . خبل اليك أنها تنظر اليك ، بمزاجها الهادىء ، وعينيها الشبيهتين ببركة ماء صاف . قلت لها ذات يوم وقد كنتما واقفين فى ساحة المدرسه :

- ان حياة الفكر يا هند أشهى ما فى الوجود .

أجابتك برقة متناهية : - الحياة الفكرية أصل الحياة . وصمتما وقلباكما فى تكلم .

كنت تود أن تكلمها فى موضوع آخر ، لكنك فكرت بأن الفرصة لم نحن .. تنهدت أمامك تندة طويلة توهمت من خلالها رجوع أسطورة بلقيس الى واقع حياتك . . ذهب بك التفكير الى أنها امرأة المستقبل ، وهى التى ستقف معك

فى مهب الريح . وستنظر معك من فوق البناية العالية الى منظر الطبيعة عند الفجر وعند الغروب ، وسينهل قدبك من عينيها بردا وسلاما وستبتسم لك كما تبتسم لك قريتك فى الربع ، فيزدان الوجود أمامك ، وتتفتح آفاق حياتك

وصلت الى العاصمة القيت أدباشك وحقائيك بنفس متوترة فى منزل خالك . . خرجت الى شوارع المدينة تستعرض الاشكال ، وتقرأ رموزا مختلفة على الصور المتحركة . . ساءلت نفسك عن الاجتماع والمجتمع ، فرأيت خيوطا مسدية قوية تربط هذه الاشكال المتنقلة المتلونة كحرباء رأيتها ذات صباح تنتقل من أعواد شجرة التوت المنتصبة أمام منزلكم ، والنامية فى قبر خرب قديم ... طفت الى بحيرة فكرك الجملة التى تلفظت بها هند ذات مرة عندما كنتما واقفين فى ساحة المدرسة : " الحياة الفكرية أساس الحياة "

أحسست بعمق بأنك معرف كل هؤلاء الناس وان الصدفة قد لاقتك بهم فى طريق ما من رحلتك الطويله . . اعترضتهم كما اعترضوك الان فى طريق يغشيه الضباب الابيض الكثيف . . ويحف به غموض ذو أبعاد ثلاثة أزلى . .

تعبت قدماك . . وأحسست بصداع حاد يخز صدغيك . . وضاق صدرك حساسا غريبا من اللاشىء ، فرجعت ونمت على السرير بشهية . ..

فى الصاح وضعت قدمك على أعتاب الجامعة . . فشعرت بعمق أنك تدخل حياة جديدة . . أردت أن تصعد الى الطابق الاول فأعترضتك هند فى منعرج الدرج .

فسلمت وسلمت . وضحكت وضحكت . وحام الطائر الابيض الجميل بريشه مهفهفا . . عزف قلباكما فى ذلك الحين على وتر واحد كان قد عزف عليه أنطون وكليوبتره .

لم يكن ذلك أول نغم ساحر ، بل تعددت الانغام بتعدد اللقاء . .

قلت لها يوما وعاصفة من الامل تهزك هزا :

- هل تعصف الحياة بقلبك عصفا مثلى ، فتشعرين كأنك أنت الوجود بأبعاده وأغواره ، وتحسين كأن الوجود أنت بأضطر انه وصخبه وحنينه ؟ . . أجابتك وعلى فمها ابتسامه :

- ما أنا إلا بشر !

صمتما ، ودخلتما بعد حين الى معرض صور بدار الثقافة . . أسرعت الى صورة رسمت عليها خيام فى الصحراء ، وابل متكئة فى مناخها وأشارت اليها اشارة مقصودة قائلة :

- أنا لا أحب هذه الحياة البدوية !

قلت لها أنت أيضا فى اشارة ذات معنى : - ان هذه الحياة هي منبع العروية ومصدر الرجولة الحق . . وان كنا - أنا وأنت مثلا - لا نستطيع أن نعيش هذه الحياة بحكم ثقافتنا وما تحكمه علينا من ملازمة المدينة . .

أردفت قائلة : - أنا أحب مدينتى لا غير . . . مدينة المال والذهب . . ومدينة الحرارة والدفء ..

قلت لها فى تحد ظاهر : - أنا أحب كل شىء . . لقد كسرت قشرتى منذ أن خرجت من كهفى المظلم ... وتمردت على نفسى فعرفت وجوه الاخرين . . وأحسست أن الاشياء قد تسربت فى داخلى ، حتى ظننت أننى أنا العالم . . . منذ ذلك الحين أحببت وجه العالم كله . . ضحكت فى سخرية قائلة :

- هه . . انسانية متناهية . . . وفلسفة طالما طلبت منك الابتعاد عنها . . . لأننى أكره الفلسفة . . أترك قصرك الضبابى الذى بنيته فوق المريخ . . . وأبن قصرا جديدا فوق الارض ، حتى أستطيع قد بدأ يميل الى السواد . . . خلت نفسك فى كهفك المظلم ، عندما رأيتها ذات يوم تخاصر رجلا أسود . . . تذكرتها وهي تتنهد ، وصدرها الناهد يعلو ويهبط فى اتزان موقع ، ورجعت الى ذاكرتك كلمات اعجابها ، عندما كانت تبيعها لك بدون مقابل . . . فرأيت بأن كبرياءك قد جرح بعمق ، وأن الطائر الابيض الجميل قد انفصلت من جناحه الايمن بعض ريشات ، فصار يطير بصعوبة . . تذكرت نفسك عندما كنت تخرج الى مراح الغنم وأنت طفل لتدوس الخنافس الغادية الرائحة بحذائك الطويل . . . همست لنفسك لتكن هى خنفساء من هذه الخنافس المنهزمة تحت نعلى ...

لما تركتها انزاح الضباب من طريقك الطويل . . . وبدا لك الواقع أصفر الوجه كالح القسمات . . . تطاير الريش الرطب الناعم الذى كان يكسو جسم الطائر الابيض ، ذى الصوت الحنون . . . ونظرت لنفسك فاذا الثوب القديم الذي ترتديه على كتفيك قد بدأ يتهرأ . . وأن قيما قديمة علمها لك والدك عندما كان يلقنك القرآن ، قد بدأت تنسل من كيانك هاربه . . فتدفعها قيم جديدة وتدوسها على أرضية صلبه ...

كانت السنة الدراسية تتقدم ، فاذا الدقائق المتناثرة تباعا كأنها تذوب وتنصهر فى قرارة نفسك . . . فى الجامعة كانت جذورك تمتد . . وتمتد . . وتطول . . . وكنت كلما فكرت رأيت العالم كله تربة صالحة يرتوى منها أصلك الممتد فى أغوار الارض ، ويزهر منها فرعك السامق فى السماء . .. كانت الحياة تطل عليك من خلف نقاب شفاف فتغريك كما لو كانت حسناء من قسمك ...

كنت تصد الاحلام والصور التى تطرق باب ذهنك ، عندما كنت تتأمل شعاعا شمسيا ينحدر من وراء البناءات ليمتد على الحشيش الاخضر فى حديقة الجامعة . . كنت تتصور وشعاع الشمس يغامز عينيك ، أن حياتك بأهدافها الكبيرة تنطلق من هذا المرفا الضخم ، لتمتد وتتلاحم أصولها مع أصول الانسانية ، الا انك قارنت الجامعة بالغدير الذى كنت تجلس على حافته وأنت طفل ، فتدلى رحلليك فى مائه العكر الآسن ، وتنظر الى أسراب الضفادع المتلوية فوق صفحة الماء ، فتضربها بالحجارة " والطوب " . خيل اليك أنك ضفدع صغير ، وأن أصدقاءك ضفادع صغيرة وكلكم تعيشون تحت رحمة الضفادع الضخمة المنتفخة البطون ماء ... وأن مصيركم مرهون بنواياها .. كانت الشرنقة الصغيرة فى هذا الغدير الآسن تبدو متعبه ، لا تستطيع أن تحرك زعانفها الا لماما .. . فالقش والطين والناموس والذباب وسوء اخلاق الضفادع الضخمة ، كلها عوائق تجعل الشرانق تسير ببطء وتتعلم السباحة بصعوبة . . . وانطلقت وانت متمدد على الحشيش ترسم الخطط وتبنى القصور العاجية فى مملكة المستقبل ، ثم لا تلبث ان تهدمها . . وتبنى أخرى أرقى وأسمى ...

شعرت وأنت تعابث ذوائب الحشيش بأصابعك أنك قوى . . قوى أكثر من كل شئ ، فتستطيع أن تفتك حتى بالزمن نفسه . . وتسير على طرق موجله وقدماك ثابتتان . . وترقص فوق خيط ممتد بين شفتى هاوية بلا سقوط

كانت أحاديث الغزل التى تبلغ أذنيك من كل مكان فى حديقة الجامعة

ترهف احساسك حتى يصير كحد الموسى . . . وكان ذلك الاحساس الغريب الذى ينتابك يعيد على شاشة ذهنك شريطا طويلا من الانماط البشرية التى عرفتها ، فاذا بك تتبرى لتشريح أعماقها وأغوارها . . . واذا بهذه الانماط على اختلافها كأنها فيك ، واذا بك على غرابة مزاجك كأنك فيها . .

مساء من أماسى مارس ، كنت تصعد درج الطابق الثالث فى الجامعه فرأيت طالبة صاعده نفس السلم بمستوى أعلى منك ببضع درجات . . . التفتت اليك وأنت تحدق فيها من خلف ، فخيل اليك أنك تعرفها منذ وقت مبكر ... وتذكرت أنها لاقتك تحت التينه فى ربوع بلدتك .. . كنت فى ذلك اليوم تقرأ " غادة الكاميليا " وكنت كلما تقدمت صفحات فى القراءة تبينت لك ملامح هذه الحسناء أكثر . . ونفضت يديك من قراءة الكتاب ، فاذا الحسناء الجميلة تحدق اليك من بعيد بعينين ناعستين تقطران طهرا . . . وقد تهدل شعرها الناعم على كتفيها ، وبانت تقاسيم وجهها وكأنها خلقت على مهل ... ولاحت لك بسمتها أخاذة ، يخفرها الحياء من وراء الضباب ...

لما وصلت الطالبه السائرة أمامك أعلى السلم ، عثرت فى الدرج الاعلى منه وهى تختلس الالتفات اليك . . فسقط حذاؤها من أعلى الى أسفل ، حتى استقر قرب قدميك ، فأنحنيت وقدمت لها حذاءها ببطء ، وكلمتها بهمس :

- مساء الخير - بون صوار - حذاءك لطيف ! ... - مثل حذاءك - و ... - وماذا ؟ ؟ - وجهك لطيف !. - مثل وجهك . - كأنك تعرفينني ؟ ؟ - منذ زمان ! ٠0٠ - أين رأيتنى ؟ ؟

- عندما كنت نائمة فوق سريرى ذات ليله !. . . - غريب ! ... - أوروفوار . - لا ... يا آنسه . . - ماذا تريد ؟ - انتظرى من فضلك . - الدرس سيفوت ... - أتسمحين بأن أقول لك شيئا ؟ - تفضل . - هل يمكن أن نلتقى ؟ - ........... - مالك صامته ؟ - ... يمكن ... ؟ - متى ؟؟ - غدا على الساعة الخامسة مساء فى ...

وفى الساعة الموعودة أتتك . . كانت عيناها جميلتين نفذت كلتاهما فى صدرك كالصاروخ ... كان ذلك المساء خفيفا خفيفا كقبلة مسائيه . . كنت كل يوم تجدها فى انتظارك فى بهو الجامعه . . كان الوجود عندك لا يساوى عينيها ...

قالت لك ذات يوم : أنت قطعة من حياتى لا استطيع الانفصال عنك ، فلننضم الى بعضنا لنتكامل ! قلت لها كل شئ يكون مع النجاح ٠٠ .

ومالت عليك وفى وجهها أصفرار : - لقد ضعفت يا . .

- كيف تريننى ؟؟ - عيناك غائرتان ، وجسمك نحيل . . هون عليك وكفاك ارهاقا ...

- العمل رأس مال المستقبل .

- لنخرج كل يوم معا ودعنا من العمل . . . لم تعر كلامها أهتماما . . عرفت أنها امرأة تنظر الى الاشياء من زاوية قلبها . . فودعتها وقصدت المكتبة . . أجلت نظرك على الرفوف عندما دخلت بابها . . وقفت تنظر الكتب الكثيرة المصطفة فوقها . . تمنيت أن لو تستطيع قراءتها كلها ، لتصير كاتبا كبيرا فى يوم أو بعض يوم . . . وقفزت

الى ذهنك صورة الحيوان الخرافى الذى يجد وراءك ليبتلعك . . . كان أسمه الموت . . . عرفت بعمق أنك مهما بذلت الجهد لا تستطيع الانفلات منه . . وانك مهما سعيت فانك لن تتعدى الشاطئ . .

التفت حولك فاذا عيون المطالعين تحدق اليك . . وكان بعضهم يبتسم .. فخجلت من نفسك ، وأنتحيت ركنا قصيا ، وانغمست فى كتاب " لنكولن ولسن " سقوط الحضارة " . . .

لما قرب الامتحان ، لم تطاوعك نفسك عندما أردت التخلى عن المطالعة ، لانك تحب أن تقرأ وتقرأ باستمرار ولكنك حملت نفسك حملا على اعداد الدروس . وأخذت نفسك بالقهر والقوة لتثابر وتحتمل ثقلها . . كنت تفكر أحيانا بأن تلك الدروس العقيمة الخالية من روح المعاصرة ستكون سببا يساهم فى سقوط الحضارة . . . وكانت هذه الفكرة تبدو لك أحيانا ساذجة فتضحك فى صمت ، وتطأطى رأسك فى سكون . . .

حل يوم الامتحان فأجتزت المرحلة الاولى بنجاح ... وأتت المرحلة الثانية من الامتحان نفسه فأثار استغرابك ما شاهدت . . لقد رأيت أن يوم الامتحان الشفوى ، سهل على الحسناوات الجميلات . . ورأيت أن بسمة الغادة لاستاذها المحبوب ، تساوى ارهاق سنة كاملة لطالب مثلك . . . وخيل اليك أن دغدغتها اللطيفة ، ... ولسانها الحلو . . . وتثنيها الموقع كلها خصال تغنيها عن مطالعة العشرات من الكتب التى طالعتها أنت . . . فلقد قطعت أنت سراويلك على كراسى المكتبات طيلة السنة حتى أصفر وجهك وأرهقت أعصابك . . أما أمثالها فقد أزددن شحما ولحما . .

جلست على نفس الكرسى الذى جلست عليه الغادة . . . شرحت الدرس المطلوب ، فلم يعرك الاستاذ أهتماما مثل الذى كان يعيره للحسناء التى سبقتك . . قال لك بلغة المعلم القدير ، وهو يترشف قهوة على مهل :

- أعد ما قلت أعدت القول والتفسير وأنت تعانى ألم الارهاق ولما انتهيت . رفع أستاذك كأس القهوة وترشف رشفة طويلة ، ثم قال لك - وشفتاه مزمومتان وقد قرن ما بين حاجبيه بلغة الآمر الناهى :

- قم من أمامى ، انك لم تقل شيئا ! أحسست بوخز يقطع نفسك الرقيقة ، ويرهف أوتار قلبك . . تمنيت فى تلك اللحظة أن تكون امرأة حسناء ، ذات شعر طويل متهدل وجسم بض ناعم ، وعيون سوداء ناعسة ، كتلك الطالبة التى جلست قبلك على كرسى الامتحان وهي تلوك " الشنقام " كانها فى عرس ...

مرت ساعات الانتظار ثقيلة " مملة " وأتى المساء يجر قدميه بخطى ثقيلة ، فرأيت وانت داخل بهو الجامعه ، أصدقاءك وهم يتزاحمون على قائمة الامتحان ، فأجهدت نفسك وأخذت مكانا بينهم ، وأجلت نظرك فى قائمة الاسماء طولا وعرضا فلم تجد اسمك . . . انسللت فى تراخ كمنهزم عائد من حرب . . تأسفت لانك لم تترك الكتب وشأنها كما تركها الآخرون . .. احسست بانهيار يدب فى مفاصلك ... ولكنك ضربت رجلك على الاسفلت بقوة . . وقد خامرك شعور ملح بضرورة تغيير المجتمع تبديلة بمجتمع آخر أعدل . . كدت تنفجر عندما فكرت بأن أمك العجوز قد ماتت فى تلك السنة التى ستستمر فيها ، وانك لم تحقق لها أمنيتها وهى أن تراك رجلا مكتمل المواهب كما تمنت . . وخيل اليك بأن هندا تهمس فى سمعك بأنك لست رجلا كفئا . . . وانها تضحك بفم أحضر يشبه فى الفكرون الذى وجدته وراء منزلكم يأكل نبات النعناع ، فضربته بالحجر حتى مات . وقد قادك صباك الى أن تحفر له قبرا وتواريه التراب . . . التفت حولك كالغريب فاذا رفاقك ما برحوا يتزاحمون على القائمة . . واذا بعضهم قد جلس فى تكاسل على الاسفلت . . والبعض الآخر من الطلبة قد جلس على سلم الدرج فى انتظار النتيجة . . خرجت من بهو الجامعة تجر قدميك . . وعلى غير قصد نظرت الى حيث تجثم سيارات الاساتذة . . وقفز قلبك بين ضلوعك وأحسست بغيرة تقطع أحشاءك لما رأيتها تركب سيارة الاستاذ الذى امتحنك فى الصباح كانت تضاحكه كعاشقة . وكان يضاحكها كعشيق . تذكرت حذاءها الساقط من أعلى الدرج ، وتذكرت ما قالته لك ذات يوم بأنك قطعة منها يجب أن تضمنك حتى تتكاملا . . أحسست بشئ حاد يخز كبرياءك لما آنسابت السيارة بهما فى الطريق المنحدر الى المدينة . . .

شعرت بما يشبه الانهيار العصبى ، وحدثتك نفسك بالاستسلام أو الانتحار . . فأنتصبت أمامك صورة والدك . كان ينظر اليك بعينين متقدتين غيظا وعلى قسماته صرامة وحدة . . . . أطال فيك النظر ، فبدت لك قسماته قوية عنيفة . كلمك بصوت يخالطه عنف وحنان ، وقد شد على يدك بقوة وحركك أماما وخلفا وقال لك بنبرة حازمه :

-كن رجلا استفقت من ذهولك على أزيز سيارة أجرة تقف على مقربة منك ، فأندسست فيها بلا مبالاة . وغابت السيارة فى شوارع المدينه .

اشترك في نشرتنا البريدية