( . . هذه رسالة مرفوعة الى كل أم تسافر الى السماء بلا وداع . . . وبلا عودة . . . ) م. م.
ذا وجهك الحائر ، يا أمى ، من نافذة الموت ، فى انحناءة حنان ، يطل علينا ، ويحاول أن يبتسم . . .
وجثتى المشدودة بهيكل الأيام وخفقة الضوء تنادى أن : (( خذ الحياة ولا تضع قدمك بين تراب الصنحو ، وهاوية الغيبوبة الأبدية . . .
وأنا فى أمواج الصخب المر ، إلى العنق ، وصوتى ضاع منى ، ولا نجدة . . .
وبناتك ، ذوات الحزن الممطر ، قد نام المساء فى عيونهن ، ففقدت الدقائق طفولتها ، وامتصت الأشياء ظلالها . . .
وعلى زجاج نافذتى ، لهاث النهار الراكض بألف ساق مثل أحمق يسابق النور بين الصفر واللانهاية . . .
أما الليل ، يا أماه ، فخنجر جاحم قد تسمر فى أعماق فرحتى البكر ...
لأنك ، أيتها الراحلة بلا عودة ، رحلت بلا وداع . . .
ذا مكانك ، يا أماه ، هذه الأمتار المشمسة من الدار المفرغ ، وقد عشش فيها صمت جارح يثرثر فيه العدم . . .
وملامح وجهك الشفاف قد تماوجت يا أماه ، فأصبح البيت يبتسم بشفاهك ، ويبكى بأجفانك . . .
وكل ذرة من الكون تبكيك ، وتفنى فى ذكراك ، لأنك عندما سافرت خلفت عمقك فى كل خطوة ...
وأنا يا أماه ، فى متاهة الحياة ، ألتهم شبابى وأقتات من صبرى ...
والجدار الأخرس ، يتثاءب بأشداق من ثلج ، أمام أجنحة روح لم تخلق إلا للمدى الأزرق ...
والسماء المحتضرة فوقى ، تكاد أن تنهار على أنفى ...
وعبر صخور المحال ، جرحى يا أمى ، يبكيك بالدموع لأنك ، أيتها الغائبة بلا وداع ، غبت بلا عودة ...
ذا قبرك يا أماه ، يحتضنه الربيع فتلتف حوله حالمات الزهور ...
وبالأمس ، قد حملتك عربة الموت ، إلى شاطىء الظلام ، تاركة يا أماه ، محبيك فى زنزانة الحياة ...
وذا ثغرك اليوم ، ينير عزلتى ، وأنا أدأب فى القفر ، تلفحنى سحرية السراب ، والضفادع والغربان ...
ولئن اختلفت سبيلى وسبيلك ، يا أماه فانت فى غيابك حاضرة - وموعدنا لدى التقاء البداية بالنهاية . . .
لأنك أيتها الراحلة بلا عودة ، رحلت بلا وداع ...
