الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

مات سندباد

Share

كان ذلك عندما مر سندباد بقريتنا . . على حذائه مجموعة الاتربة التى اقتلعها فى رحلاته وشعره أشعث مغبر وعيناه صور فوتغرافية بالالوان . .

رأيته يتجول بقريتنا والناس حوله يتهامسون فطلبت منه أن اصاحبه فى رحلته المقبلة . قبل سندباد طلبى بشئ من السرعة وعدم الاكتراث وانطلقنا معا نجوب الارض ، هدفنا الترحال والترحال لا غير .

كان كثير الصمت ، وكنت كثيرة السؤال . سألته ذات مرة : هل تحصلت على شىء من رحلاتك ؟

أجابنى سندباد : لم أكن أنوى الحصول على شئ قط . قلت : لم أسألك عن نيتك ، وانما عما تحصلت عليه . اغتاظ سندباد ورأيت الغضب يصرخ فى وجهه . ثم قال لى آمرا : لا تكثرى من الاسئلة كثرة الاسئلة تقلق راحتى . لذلك أرجوك أن لا تعودى الى السؤال !

ولكنى تجاهلته وعدت أسأل من جديد . - لماذا تهرب دائما ؟ رأيت الدهشة فى عينيه وأجاب : - أنا ؟ ومم أهرب ؟ قلت : ليس لك مكان تستقر فيه ، أنت لا تمكث فى مكان الا لتتركه من بعد و . .

فقاطعنى حانقا :

- ما هذا الهذيان ؟ انى انسان أعشق السفر والترحال . قلت مصرة : ولكن ذلك كثير . انك كثير الترحال فلكأنك تخاف من شئ

فتهرب منه فماذا تخشى يا سندباد ؟ سكت صاحبى وسكت . ثم نهض واتجه نحو جرابه وقال كأنه يخاطب نفسه : ليتنى لم أقبل مصاحبتك ! أيقنت أنى ولجت باب الحقيقة وأن صاحبى حقا يشكو شيئا .

أشار الى فنهضت وتبعته على الطريق واحساس بالفرحة والحزن يتملكنى . . سكنت . . وتابعت السير الى جانبه أضرب صدر الارض بأقدام  متطلعة وأنظر الى الدنيا حولى بعينين متسعتين . . كنا فى مكان يشبه شيئا ما قريتنا وكنت الى شعور بالحزن جد شديد . . تأملت سندباد بل استرقت النظر اليه . . ففوجئت بكبر سنه وترهل جسمه . . رأيته يسير مطرقا وكأن أكياسا من الرمل تثقل كتفيه . . قلت : حكمت على نفسك بالنفى ! . .

تباعدت المدينة فى غياب من دخان يتأفف وبسهاد يخامره القلق . . تباعدت المدينة . . وانكمشت العمارات تلتحف السماء . . واخترق الظلمة نور باهت ينبعث من فوانيس الليل ويلطخ الارض بحلقات مقمرة . . - لم يقل شيئا . .

قلت : أنت تبحث عن أشياء تجهلها وسوف لن تحصل عليها . . تلك الصحراء المغبرة ، كثبانها الرملية تتلظى تحت الشمس فتتألق فيها ألف حجارة . . وعيون وجفة تمسح الافق والسراب ممتد هناك . . حيث واحة نخيل وارفة الظلال ، مخضرة الاطراف ، ندية الاقدام ، ماؤها زلال يريح النفوس . .

- لم يقل شيئا . . قلت : لو بحثت قربك عن نفس الاشياء لوجدتها بسهولة الحلم . . ترفق ذراعى وانظر الى حيث تضع قدميك المتعبتين ، انظر حيث تمشى والى أين تمشى . . ان الارض تهديك ترابها وتحلم بك ربيعا يوشح صدرها ويجعل من كل رقعة فيها ، مأنسا للتائهين . . - لم يقل شيئا . .

- ولم يقل شيئا . . - ولن يقول شيئا ! . .

الصمت لفائف من عشب يداعبها النسيم . . وحزنى سحابة لا تمطر . . الحزن غرفة أسكنها ، تلفنى ، أحملها على كتفى وتضمنى بين جدرانها . . قلت : أنا حزينة من أجلك !

انتفض سندباد . رأيت شعر رأسه قبة سوداء تعلو وتعلو ، نظر الى طويلا فكدت أندم عما قلته ، ولكنه سألنى :

أحزينة أنت ؟

قلت : عرفت الحزن وعرفنى . تزوجته وتزوجنى ! سكت صاحبى وسكت .

لم أعد أقدر على السؤال . صمته خدر فى حاجتى الى ذلك ، شعرت بأن الرحلة توقفت عند هذا الصمت . . وكالموجة تنكسر عند الصخور وتعود الى الوراء ، شعرت بأنى أنكسر عند صمته فأتقهقر الى الوراء . .

قلت : هروبك غير منطقى ، وترحالك بسيكولوجى . . ترحال فى حلقة مفرغة . . لم أكن أترقب منه جوابا . . ظل صامتا . . كان رأسا ككل الرؤوس تتلقفه العواصف وتجتاحه الانواء . .

لم يعد سندباد طفولتى ، تذهلنى اكتشافاته ويحملنى بخياله الى بلاد الواق الواق . والى آفاق تشتاقها العيون . . لقد انتزعنى من طفولتى ورمانى فى صراع وجودى مبهم صعب المراس . . بدأت الرحلة فى سن الطفولة واذا بالكهولة تغمرنى سريعا . . التفت اليه . . كان ساكنا كالحجر ، باردا كالكلس ، بعيدا كطفولتى . .

وظهرت الحقيقة مع اصفرار وجهه ، وغياب الصور من عينيه . . تيقنت منها ، نطقت بها وكأنى أسلخ من جلدى . . قلتها أخيرا : لقد مات سندباد ! لقد مات سندباد !

وعندما عدت الى قريتنا كانت فى عينى صورة واحدة غمست كل الصور الاخرى وتفتحت بين جفونى كأقحوانة يانعة . . أقحوانة . . كانت تذبل حينما أبكى ، وترفرف حينما أبتسم . .

اشترك في نشرتنا البريدية